السبت 26 آب (أغسطس) 2017

الثقافة وأجيال الزجاج

السبت 26 آب (أغسطس) 2017 par نسيم الخوري

أشعر بالمعاصرة إذ أرى نصوص الصحافة تنقاد نحو الضمور أو الاختصار. قد يشعر البعض بالقهر لصعوبة التعبير في سطورِ معدودات، لكنّ في المسألة اختصار المسافات الشاسعة بين الأجيال، وتقارب القيم والفلسفات بين الآباء والأبناء. هي نادرة عربيّاً؟. نعم على الأرجح، لكنّك تعاينها في مسيرة دبي التي لا تحلم بفكرةٍ أو تتلفّظ بجملة إلاّ والشباب في النسغ يشغلون الوزارات والبرامج والطموحات. نادرة؟ نعم وتحتها خطّان.
يمكنني أن أتذكّر هنا اللوح الأسود الحجري أو ال Ardoise
لمن كان وما زال يجهل اسمه بالعربيّة. من نسله ولد الآي باد معرّباً وعالمياً من دون الحاجة إلى كتابته بالإنجليزية أو ترجمته أو سؤال مجامع اللغة العربية عن معناه ونحن نجهل أماكن إقاماتها واجتهاداتها اللغوية تلتحف غبار المتاحف. صار الآي باد لوحة الدنيا وصندوقها المضيء بثقافات العالم ونصوصه ومنشوراته ولغاته ولهجاته وصورها الثابتة والمتحركة وأفلامها. كلّ ما عليها وما فيها محشور في هذا اللوح الغريب العجيب الذي يستعمله الأحفاد والأجداد.

كان اللوح محصوراً في إطارٍ من الخشب مساحة لأنظمة التعليم في المدارس وتكايا التعليم في لبنان كما في معظم البلاد العربيّة من جداول الضرب إلى علم الفلك وفلسفة الإغريق وعلوم الدين...إلخ.
يقيم بين اللوحين تاريخ واسع من الحضارات اللامتناهية التربوية والثقافية والسياسية والإعلامية. إنّه تاريخ أشبه بسلّم يصل الأرض بالفضاء وإليه نرتقي ونتخالط أجيالاً صامتة من مختلف الأعمار بكبس أزرارٍ لا تحتاج الكثير من المعرفة والعناء بل القليل من الخبرة والمهارة. كلّما ارتفعنا درجة ضمرت الأشياء وتمّ اختزالها إلى مستوى التغريدات في تطبيق التويتر مثلاً التي تجتاح البشر ونشرات الأخبار.
كنّا فيما سبق نعاني مطوّلات الصحافة المكتوبة قبل أن تخضع الصحافة النصوص والمقالات لعددٍ محدّدٍ من الكلمات. انقلب العصر وغاب قرّاء المطوّلات والشروحات التي لا تنتهي. مات ذلك العصر الذي قال فيه صحفي باعتزاز لرئيس تحرير جريدته:
ما هذا الحجم الضخم والرائع؟ تستلزم جريدتك خمسة كراسي لفلشها وقراءتها. وحتّى عندما ظهرت الجريدة الرسمية في فرنسا مثلاً أثارت موجات من الإعجاب والسخرية أو النقد، فاعتبرت أحد التعليقات بأن جمع ثلاثة أعداد منها كافية لصناعة «بارافان» أي حاجز كامل بين غرفتين!.
ومع صعود موجة الصراع بين أحجام الصحف التي تنافست على لمعة الابتكار في العناوين والمانشيتات في القرن التاسع عشر الذي سُمّي يومها ب «عصر العنوان»، ظهرت مجلة فرنسيّة Illustration
في العام 1845، وكان همّها الأساسي تحدّي منافسيها بحجمها متذرعةً بأن المساحة المألوفة للصحف الأخرى لا يمكنها أن تبرز العناوين والإعلان بما فيه الكفاية. وعلّق على الموضوع رسّام الكاريكاتور فيها بقوله:
«إنّ طموح العصر الصحفي بالنسبة إلينا الوصول إلى طباعة جريدة بحجم الشانزيليزيه أو ال Champs de mars
قرب برج إيفل. لماذا؟ لأنّ حجم الصحيفة بالاختصار كان يعكس في الأذهان مستوى عبقرية الأمة والصدر الرحب وطموحات الدولة وعظمتها.
تخرج الصحافة العربية مثل غيرها من المكاتب الواسعة المتماهية، وينحشر فيها الكتّاب في أقفاص زجاجيّة وعيونهم وأصابعهم معلّقة بالشاشات الزجاجية، وأحياناً تراهم في مساحات مفتوحة مثل بريطانيا وأمريكا، حيث سقطت الحواجز في المكاتب والمنازل لمصلحة الميادين المكشوفة لامتداد البصر في أثناء العمل. وكأنّك تصافح الصحفيين الشاغلين لقاعة التحرير بيد واحدة، وتسمعهم بأذن واحدة وتراهم جميعاً بعين واحدة. ما أن يفتح الزائر باب المصعد الذي لا مرآة فيه، حتّى يجد نفسه مرتبكاً داخل المؤسسة وبوجهه عاملة الهاتف إذ لا مجال له للتنحنح أو لحك الشعر أو تمشيطه ولا لتسوية الهندام ولا وقت للمقدمات والتأتأة والوشوشة. المهم المباشرة بالموضوع من دون مقدمات ومداخل كلامية طويلة تشبه مداخل البيوت في جبال لبنان المسقوفة بالعرائش والمساحات الخضراء. هنا ما عاد هناك من مساحات غير مألوفة للمقدمات لا في الأخبار ولا في المقابلات أو التحقيقات ولا مجال حتماً للقيلولة وشرب القهوة والتدخين ومضيعة الوقت لأن الوقت هو للإنتاج الذي يعني المال.
تنحدر الصحافة المكتوبة نحو شاشاتٍ من ورق لتضيف تراكماً جديداً لتجارب النصوص القصيرة المفروضة على كتّابها وتذكّرنا بالحجم الإنجليزي النصفي الصغير أو tabloid الذي تذهب إليه الصحافة إذ لكلّ عصر جنونه ومعاييره المرتبطة باقتصاد المؤسسة وتقنيات الطباعة والتوزيع لكنها خاضعة أيضاً لطريقة التصفح عند ركوب القطارات أو اتقاء العواصف والأمطار والحفظ.
يتحوّل القرّاء إلى كتّاب ومصوّرين أو يمتهنون إعادة كتابة النصوص في أثناء قراءتها وتتضاعف اللذة في حركة السبابات ونضيع في البحث عن هوية للزمن العربي في عصر الميكروكومبيوتر والطائرات التي تسبق الصوت والقطارات السريعة ومجلاّت الجيب وصحف الجيب والميني مقال؟.
أحترم العصر وأفسح المجال للشباب وأسمع جيل اللوح الأسود يشهق من طلاقٍ يتنامى شوقاً إلى حفيف الغابات المطحونة ورقاً جاهزاً للتحبير بعدما هاجرت العصافير والطيور منها إلى عصر الكتابة الضوئية فوق ألواح الزجاج تأخذنا كما الأطفال بأيدينا من الساعات الزجاجية في معاصم البشرية إلى الكومبيوترات المصفوفة فوق المكاتب وفي الأحضان مروراً بالشاشات التي لا نهاية لأشكالها ووظائفها. وكأنّ الثقافات عالم مسطح من زجاج!.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 38 / 2178672

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع نسيم الخوري   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2178672 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 22


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40