الجمعة 1 كانون الأول (ديسمبر) 2017

70عاماً على ذكرى «تقسيم فلسطين»

الجمعة 1 كانون الأول (ديسمبر) 2017

- 70 عاماً على ذكرى «تقسيم فلسطين»
مخطط التسوية الاقليمية: إصابة الشعب الفلسطيني... باليأس!

علي حيدر, يحيى دبوق

مرّت سبعون عاماً على قرار «تقسيم فلسطين» في الأمم المتحدة. سبعون عاماً وما زال الشعب الفلسطيني يرزح تحت أشكال مختلفة من التطويع والقهر والإبادة على يد المحتلّ الإسرائيلي ودول غربية وعربية متعاونه معه، إضافة إلى «سلطة» خانعة ومطبِّعة. إذ للشعب الفلسطيني ثلاث سمات تتصل بحاضره ومستقبله.

هو ساحة صراع؛ وهدف للمخططات الاستعمارية؛ وهو أيضاً في الموازاة القوة الرئيسية ورأس الحربة، في مواجهة المحتل. هو ساحة صراع وتجاذب بين معسكرين. بين من يرى أن لا سبيل لتحرير فلسطين، فضلاً عن تحقيق أي انجازات مرحلية أخرى مفترضة، إلا من خلال المقاومة عبر تدفيع الاحتلال أثماناً لا يطيقها؛ وبين معسكر آخر ملتزم السقف الأميركي والإجماع الإسرائيلي، إضافة إلى حاجات مراهقين جدد على الساحة الإقليمية، طامحين إلى الملك على حساب فلسطين والقضية الفلسطينية. وهو هدف للمخططات الاستعمارية، بمعنى أن كل مخطط يستهدف اسقاط القضية الفلسطينية، وتحييدها عن الاهتمام العام، لا يمر من دون تطويع الشعب الفلسطيني وقضيته. وهو أيضاً رأس الحربة في الاشتباك مع المحتل على أرض فلسطين. وهو باستطاعته أن يعيد فلسطين إلى الصدارة من خلال بضع عمليات تستهدف المحتل لتربك كل المسارات والمخططات. الشعب الفلسطيني في الموقع المتقدم في مواجهة الاحتلال، ومهما تعاظم العمق الاستراتيجي لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي على أرض فلسطين، (قوى محور المقاومة)، فإن القناة التي تترجم هذه القوة نفسها بهدف التحرير، هي الشعب الفلسطيني وعبره

ما زال الشعب الفلسطيني هدفاً رئيسياً لأي مخطط يستهدف تصفية قضيته. أي ترتيب يستهدف شرعنة الاحتلال وتحويله إلى جزء طبيعي من المنطقة، لا يمكن أن يمر إلا عبر تطويع هذا الشعب. والمفارقة التي تشهدها قضية فلسطين، أنه في حال تعزّز محور المقاومة وخيارها الاقليمي، تتزايد حاجة إسرائيل والمعسكر الغربي والعربي التسووي، لإحكام الطوق على الشعب الفلسطيني.
أيضاً، في حالة ضعف الأنظمة العربية و/أو ازدياد تساوقها وتماهيها مع خطط الولايات المتحدة وإسرائيل تجاه تصفية القضية الفلسطينية، يزداد استهداف الشعب الفلسطيني لعزله وتطويقه وتيئيسه، بخيارات تزرع وتعمّق فيه الاحباط، الأمر الذي يمهّد إلى فرض صيغة إسرائيل للتسوية من دون مراعاة حتى للحد الأدنى من حقوقه.
المفارقة أن الواقع الاقليمي، بمحوريه، في تسابق نحو فرض خياراتهما. وانتصارات محور المقاومة، تدفع تل أبيب وواشنطن والرياض... للمسارعة إلى شرعنة الاحتلال وتصفية القضية الفلسطينية، ومن شأن الهرولة الخليجية والعربية التسووية، أن تعزز أمل الإسرائيلي في فرض شروطه ومطالبه لتسوية، أقل ما يقال عنها أنها تسوية إنهاء القضية الفلسطينية، برعاية عربية.
واضح أن وجود الشعب الفلسطيني في وطنه، كان منذ اللحظة الاولى، في موقع النقيض للمشروع الصهيوني، ما حتّم على الصهاينة التخطيط للتعامل مع هذا في كل مرحلة من مراحل الاحتلال عبر السنوات الماضية. في البداية، أدرك المؤسسون الصهاينة الأوائل حجم العقبة التي يشكّلها الوجود الشعبي الفلسطيني أمام إقامة اسرائيل. وتكفي إطلالة بسيطة على حقيقة أن اليهود الصهاينة، كانوا يشكلون نحو 33% من سكان فلسطين عشية اعلان الدولة عام 1948، نحو 650 ألف يهودي في مقابل نحو مليون و300 الف فلسطيني. تؤكد هذه الأرقام حقيقة أنه لم يكن بالامكان إقامة دولة اسرائيل من دون تهجير الشعب الفلسطيني، وهذا ما حصل في حينه، حيث تم تهجير نحو 750 ألف فلسطيني من المناطق التي خضعت لسيطرة إسرائيل، وبقي فيها نحو 150 ألفاً، باستثناء الضفة الغربية وقطاع غزة.

الأداء الاستيطاني يؤكد أن الهدف هو قطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية

بعد توسع الاحتلال الإسرائيلي ليشمل كامل فلسطين التاريخية خلال حرب 67 (إلى جانب احتلال سيناء والجولان)، رأى المسؤولون الإسرائيليون أن الوجود الفلسطيني في الضفة والقطاع، مصدر تهديد على مستقبل الاحتلال وعلى الهوية اليهودية للدولة. من أجل ذلك، تمت دراسة عدة خيارات حول كيفية التخلص من الوجود الفلسطيني في تلك المناطق. وقبل أيام فقط، كشف في إسرائيل عدد من الوثائق الرسمية المتعلقة بحرب عام 67، بمناسبة مرور 50 عاماً على الحرب، أظهرت بشكل صريح السبل التي درسها المسؤولون الإسرائيليون لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة، وتم اقتراح عدة طرق منها قطع المياه عنهم، والتضييق عليهم وغيرها من الوسائل.
بعد نحو عقدين على احتلال الضفة والقطاع، شكّل انطلاق انتفاضة الحجارة التي تميزت عن الانتفاضات الشعبية التي سبقتها، باتساع نطاقها، واستمرارها ومشاركة كافة شرائح وفصائل الشعب الفلسطيني، تجسيداً للمخاوف التي طالما سكنت في وعي القادة الاسرائيليين. خاصة وأنها نجحت في التحول إلى عبء ثقيل على الاحتلال، الذي لم تنجح كافة الاساليب التي اتبعها في قمعها واخمادها. أدى فشل أجهزة الاحتلال، إلى تضييق الخيارات أمام صانع القرار في تل أبيب، وعلى وقع تطورات دولية واقليمية، تبلور اتفاق أوسلو في حينه، كبديل يتحرر في ضوئه من أعباء الاحتلال واستمرار الانتفاضة، ومن دون أن يضطر إلى الانسحاب من كامل الضفة والقطاع.
انتفاضة الاقصى لاحقاً، جاءت ضمن السياق نفسه بوصفها انتفاضة شعبية ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه، وجاءت لتعزز أيضاً حقيقة كامنة في الوعي الإسرائيلي، وهي أن الشعب الفلسطيني وبعد مضي عشرات السنين على الاحتلال، ما زال متوثباً للانقضاض والمطالبة بحقوقه.
على هذه الخلفية، بات الشعب الفلسطيني أكثر من ذي قبل، هدفاً لمحاولات تطويعه وتطبيعه، في ظل تعذر تهجيره الكامل، فكان لا بد من «انجاز» ما، يجسد من خلاله الشعب الفلسطيني قدراً وإن شكلياً من حقوقه وطموحاته وآماله. ليصار في موازاته وسياقه، وبناء عليه، على تطويعه بالكامل. فكان خطة أوسلو عام 1994، بداية هذا المسار، مع مماشاة فلسطينية، أقل ما يقال عنها أنها سقطة كبيرة جداً توازي في نتائجها، الانسياق الطوعي لمخططات الاحتلال.
مع ذلك، ورغم كل الأخطاء التي وقعت فيها القيادة الفلسطينية الأولى، إلا أنه كان واضحاً أن سقف الحل المرحلي المحدود، هو سقف النهاية بالنسبة لأغلب (أو كل) الاسرائيليين الصهاينة. وهو ما وضع مجمل قضية فلسطين، وهذا المسار، على منعطف مفصلي وتاريخي، الأمر الذي يفسر انتفاضة الرئيس الراحل ياسر عرفات على خياراته الابتدائية عبر تمكين وتسهيل انتفاضة الفلسطينيين، التي أدت لاحقاً إلى إزاحته، وإحلال قيادة ثانية، تحولت سريعاً إلى أداة بيد الاحتلال، ومقاول ثانوي لتحقيق مصالحه، وضرب خيار المقاومة والاكتفاء عملياً بقشور حل سياسي، لا يبدو أنه ممكن مع الاحتلال.
في موازاة ذلك، يراهن أصحاب خيار التسوية في الوسط الفلسطيني، على فرضية مُتوهَمة، تظهر مدى تغلغل اليأس في وعيهم من إمكان نجاح خياراتهم، لكن في الوقت نفسه الرضا باوهام تكفل لهم، نتيجة تطويعهم أمام الاحتلال، البقاء بعيداً عن خيار المقاومة. كان (وربما ما زال) الانطباع السائد في أوساط بعض النخب والسياسيين والرأي العام، أن استمرار الاحتلال سيضع إسرائيل أمام سيناريو الدولة الواحدة الذي يهدد هويتها اليهودية. وبالتالي مهما طال الأمد ستضطر إسرائيل إلى القبول بصيغة تنفصل فيها عن الشعب الفلسطيني كي يقيم دولته.
إلا أن الاداء الاستيطاني خلال 25 عاماً كان كافياً ليؤكد أن هدف الاحتلال هو قطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية. ولم يكن ذلك، نتيجة خلل في التخطيط الاستراتيجي، أو سوء تقدير... وإنما ما غفل عنه الكثيرون – من نخب وسياسيين - هو أن تكريس الوضع الراهن هو خيار جدي بالنسبة لإسرائيل. بل يشكل بديلاً عن الدولة الواحدة التي يتحول فيها ملايين الفلسطينيين إلى مواطنين إسرائيليين وعن خيار الدولتين (بغض النظر عن الصيغة التي سيتم عبرها تأطيره وشرعنته (الوضع الراهن)).
التعبير الأدق الذي يكشف عن هذا الخيار الذي تنتهجه الحكومة الإسرائيلية وتؤكده الوقائع، هو ما صدر على لسان وزير الأمن السابق، موشيه يعلون الذي اعتبر أنهم والفلسطينيين مثل «توأم سيامي» وأن أياً من الطرفين لن يختفي، هذا يعني أن المسعى الإسرائيلي يهدف، وهو لا يرى، كياناً فلسطينياً قائماً بذاته، أو كياناً واحداً إسرائيلياً فلسطينياً، يذوب فيه الفلسطينيون بحيث يهددون فيه الهوية اليهودية للدولة. بل هو لا كيان واحد، ولا كيانان منفصلان ومستقلان بعضهما عن بعض، بحيث يبقى أحدهما (الفلسطيني) متصلاً بما يخدم اخضاعه، ومقيّداً بما يضمن مصالح الاخر (الصهيوني)، على كافة المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، ومنفصلاً بما لا يسمح له بالحد الادنى من الاستقلال والحرية، وبحسب متطلبات عدم الاضرار بالآخر (الهوية اليهودية للكيان الإسرائيلي).

- مقدمات انتفاضة في مواجهة الإبادة السياسية

وليد شرارة

يتسارع التطهير العرقي وعملية التهويد في القدس الشرقية. إسرائيل ماضية في سياسة تدمير مقومات وجود الفلسطينيين على أرضهم في عموم الضفة الغربية. وما يجري في القدس الشرقية على وجه الخصوص، يكشف بوضوح شديد ماهية سياسة العدو الهادفة إلى تغيير الواقع الديمغرافي في المدينة، لتأمين غلبة يهودية نوعية على أهلها الفلسطينيين، من خلال سلسلة إجراءات سياسية وميدانية وأمنية وقانونية.

منذ احتلال القدس الشرقية عام 1967 ومن ثم ضمّها، سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى تغيير ميزان القوى الديمغرافي بين الفلسطينيين والاسرائيليين لكي يصبح هؤلاء سبعين في المئة من قاطني المدينة. لكن واقع الحال كما أشارت صحيفة «هآرتس»، استناداً إلى معطيات نشرها معهد القدس لدراسة السياسات في أيار الماضي، هو أن الغالبية اليهودية لا تتعدى 59%.
ما تخشاه القيادات السياسية والأمنية الصهيونية هو أن يشكّل الفلسطينيون بعد عقد من الزمن أكثر من نصف سكان المدينة نتيجة ارتفاع نسبة الولادات لديهم، فيفشل مشروع تهويدها. وأطلق عدد من هذه القيادات، بينهم وزيرا النقل والتعليم إسرائيل كاتز ونفتالي بينيت، حملة «أنقذوا القدس اليهودية» للحفاظ على «الغالبية اليهودية في المدينة» حسب تعبيرهما.

سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى تغيير ميزان القوى الديمغرافي

وقد تقدم بينيت، خلال العام المنصرم، باقتراح يقضي بتوسيع حدود بلدية القدس عبر ضمّ مستوطنة معالي أدوميم ومستوطنات أخرى كبرى موجودة في جوارها في الضفة الغربية. وتشكّلت لجنة وزارية لإعداد مشروع قانون حول «القدس الكبرى» بدعم من بنيامين نتنياهو. يعني مشروع القانون هذا، في حال إقراره، أن مئة وخمسين ألف مستوطن إضافي سيدخلون في عداد سكان القدس، وسيكون لهم حق التصويت في الانتخابات البلدية.
من جهة أخرى، سمح جدار العزل والضم، الذي شُيّد قسم منه في قلب الأحياء العربية في القدس الشرقية، أو بينها وبين البلدات والقرى الفلسطينية المجاورة لها في الضفة الغربية، بتقطيع أوصال الأحياء والأراضي الفلسطينية، وشقّ الفلسطينيين إلى قسمين: قسم يعيش داخل المدينة، أي ضمن حدودها الجديدة كما رسمها الجدار، وقسم آخر خارجها.
تعدّ الحكومة الإسرائيلية مشروع قانون آخر يهدف إلى حرمان نحو مئة ألف فلسطيني، من الذين يعيشون خارج الحدود المستجدة للمدينة، من حق الإقامة فيها، والفصل بين الأحياء التي يقطنون فيها كعناتا، وكفرعقب، ومخيم شعفاط، وبلدية القدس، بعد أن كانت تابعة لها. وتستمر سياسة هدم البيوت أو الاستيلاء عليها داخل المدينة، وكذلك تتزايد الإغارات الليلية التي تنفذها القوى الأمنية والعسكرية الصهيونية على الأحياء العربية، كالعيسوية والطور بحجة ملاحقة واعتقال المقاومين. وتتفاقم أزمة السكن المفتعلة من قبل سلطات الاحتلال داخل المدينة لدفع السكان الباحثين عن سكن أرخص إلى الرحيل الى الأحياء والبلدات الموجودة خلف الجدار، كبلدة كفر عقب التي باتت شديدة الاكتظاظ سكانياً نتيجة كثافة النزوح إليها. وتعمل سلطات الاحتلال أيضاً على إزالة أو عزل القرى والبلدات الفلسطينية الواقعة بين المستوطنات والقدس، والتي تعتبرها عقبات تعترض عملية بناء «القدس الكبرى».
ما يجري في القدس نموذج مصغر عن السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية، والتي سمّاها البعض، ومنهم إسرائيليون كعالم الاجتماع باروخ كيمرلنغ، مسار الإبادة السياسية (le politicide). بدأ هذا المسار عام 1948، عند قيام العصابات الصهيونية بتهجير القسم الأعظم من الفلسطينيين من أرضهم، واستمر منذ ذلك التاريخ من خلال القضم التدريجي للأرض وتدمير المنازل والاستيلاء على الموارد المائية والطبيعية وبناء المستوطنات والطرق الالتفافية ومنع التواصل بين المناطق الفلسطينية، وتصفية القيادات الوطنية والمقاومين وتدمير المؤسسات والاقتصاد، والعمل على حصر الفلسطينيين في جيوب مكتظة. والجيوب تشبه المعازل التي حشر فيها السكان الأصليون بعد أن تعرضت بلدانهم للغزوات البربرية الغربية. ذلك أن المشروع الصهيوني كأي مشروع استعمار استيطاني احتلالي، لا يمكن مقارنته إلا بالمشاريع الاستعمارية المشابهة في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا على سبيل المثال.
خاض الشعب الفلسطيني تجربة كفاحية طويلة وضارية، شعبية ومسلحة، ضد الاستعمار الصهيوني، في ظروف إقليمية ودولية استثنائية الصعوبة، وقدّم عشرات الآلاف من خيرة أبنائه شهداء على درب التحرير، بمن فيهم القسم الأكبر من قياداته التاريخية كأبو عمار وأبو جهاد وأبو أياد وأبو علي مصطفى ووديع حداد وفتحي الشقاقي والشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، وآخرين كثر. وظنت دوائر صنع القرار في العواصم الغربية وفي تل أبيب، كما في جزء من العواصم العربية، أن حالة شبه الاستقرار التي سادت الضفة ما بين عام 2008 وأوائل تشرين الاول من عام 2015، تثبت أن نبض المقاومة قد خمد، وأن الفلسطينيين قد خضعوا للأمر الواقع.
لكن سلسلة العمليات التي تشهدها المناطق المحتلة منذ تشرين الأول عام 2015، والتي تتنوع بين عمليات دهس وطعن وإطلاق نار، وتأخذ شكلاً غير قابل للاحتواء، إضافة إلى المواجهات الشعبية مع قوات الاحتلال، وآخرها المواجهة حول البوابات الإلكترونية قرب المسجد الأقصى، ثم هناك الاحتضان الشعبي الكبير للشهداء وللمقاومين، من الجنازات الشعبية الكبيرة للشهداء، وتبنّي العائلات ما يقوم به الأبناء، وحملات دعم إعادة إعمار البيوت التي تهدمها قوات العدو... كل ذلك تحوّل إلى مؤشرات لا تخطئ من أن الظروف في فلسطين ثورية بامتياز، وأننا أمام إرهاصات انتفاضة ثالثة، في مواجهة الإبادة السياسية.

- «أوسلو»: الاحتلال بالليبرالية

طاهر اللبدي
«أوسلو» ليس التوسع الإسرائيلي من دون رادع فحسب، ولا الاستيطان أو التنسيق الأمني وحدهما. الدراسات النقدية تكاثرت في السنوات الأخيرة حول شقّه الآخر، أو ما بات يسمى «اقتصاد أوسلو». الباحثون الذين عكفوا على دراسة الظاهرة خلصوا إلى أن تبنّي «النموذج النيوليبرالي للتنمية وبناء السلام»، كما روّج له المجتمع الدولي، واعتنقته السلطة الفلسطينية، لم يمس نظام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، بل وفّر له فرصة تجديد نفسه.
هذا النقد الذي يدور على أرضية اقتصادية يملك أهمية مضاعفة، خصوصاً أن مرحلة أوسلو تتميز بفصلها بين الاقتصادي والسياسي في الأراضي المحتلة.

ليست من الجدية بشيء محاولات حمل الفلسطينيين على الفصل بين تطلعاتهم السياسية والاقتصادية. فتحت الانتداب البريطاني، كانت سلطاته ترفض الاعتراف بالعرب جماعة وطنية ناجزة ذات حقوق سياسية، فيما كانت تدعم الأنشطة الاقتصادية للفلسطينيين لتحسين شروط حياتهم، أملاً بامتصاص غضبهم وتقليص الأكلاف السياسية والمادية لحالة التمرد شبه المستمرة.
إنّ هذا الدعم لا يقارن بالطبع بما كان يقدّم إلى الحركة الصهيونية، ولم يكن كافياً، بطبيعة الحال، لانتشال الفلاحين والعمال من الفقر المدقع. اتبعت السلطات الصهيونية سياسة مشابهة في كل الاراضي المحتلة في عامي ٤٨ و٦٧. ومجدداً، إن الترويج للتنمية الاقتصادية تحايل يتملص من المطالب الوطنية. بفضل هذه المبادرات اخترقت إسرائيل اقتصادياً المناطق العربية على جانبي حدود ١٩٤٨ لدمجهم في دورة اقتصادها. ينحو ذلك أيضاً إلى قطع الطريق على بناء اقتصاد وطني مستقل يشكّل أرضية لكفاح سياسي معادٍ لإسرائيل. إن الهدف النهائي هو استيلاد نخبة فلسطينية ممالئة، بينما يرزح المقاومون تحت تهمة اعتراض سبل التطور. وهكذا، فإن الانتقال من زراعة اكتفاء محلي إلى التصدير، والتصنيع وإلحاق المؤسسات الفلسطينية بالإسرائيلية، وتوجيه صادراتها نحو الأسواق الإسرائيلية والأوروبية، واستخدام العمالة الفلسطينية في إسرائيل... كلها سياسات ربطت ارتفاع مستوى حياة الفلسطينيين وزيادة تبعيتهم الاقتصادية بضعفهم السياسي.
إن هذا الضعف السياسي يثقل على الفلسطينيين، خصوصاً أن الإسرائيليين هم من يسيطر على المعابر مع الأراضي الفلسطينية وحركة النقل فيها. إن إغلاق هذه المعابر، وتحديد حركة النقل والتبادل، أصبحا وسيلة ضغط تلجأ إليها إسرائيل أكثر فأكثر لمعاقبة المجتمع الفلسطيني، وهو مجتمع يعيش على حافة الاختناق الاقتصادي وتحاصره أزمة إنسانية متواصلة، كما هي الحال في غزة. إن سياسات التنمية والدمج والاستتباع الاقتصادي للفلسطينيين جزء من استراتيجية إسرائيل لكبح أيّ تمرد، وشكل من أشكال العنف الذي لا يفصح عن نفسه.
إن عملية السلام التي انطلقت عام ١٩٩٠ تنفرد بأنها قادت السلطة الفلسطينية لتقوم بنفسها بالفصل ما بين السياسي والاقتصادي، وتصبح حلقة في نهج معاد لأيّ طريق ثوري، وضد شعبها. لم تضع اتفاقات أوسلو حداً للاحتلال، وأجّلت الحل النهائي للصراع. لكن هذه الاتفاقات تتضمن مع ذلك نقل بعض الصلاحيات المدنية والإدارية إلى «سلطة فلسطينية مستقلة ومؤقتة»، وتطوي تعاوناً اقتصادياً وأمنياً بينها وبين إسرائيل. يضاف إلى ذلك التزام الأسرة الدولية بتقديم دعم مالي للفلسطينيين المنخرطين في عملية السلام. كان الهدف من ذلك تقديم دليل ملموس للفلسطينيين على فوائد السلام من خلال دعم التنمية الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية. وكلّف البنك الدولي بتحديد الإطار الذي ستستخدم فيه المساعدات الدولية. وعلى هذه الأرضية، عالج البنك الدولي هذه القضية بطريقة تقنية بحتة، متجاهلاً أبعادها السياسية، أي من دون أي اعتبار للقضايا المتعلقة بمفاوضات الحل النهائي للصراع، والمطالب السياسية للفلسطينيين أو حتى بسيادة دولتهم.
وضعت في مقدمة الأهداف «الحاجات الاقتصادية» التي تسمح بالتعاون الحقيقي والفوري بين كل الأطراف، انطلاقاً من أن التكامل الاقتصادي هو الطريق الأيسر نحو السلام. وجرى اتباع برنامج نيوليبرالي عمداً. جرى التركيز على النمو، والمنافسة في القطاع الخاص ولبرلة القطاع المالي، والاندماج في الاقتصاد الاقليمي والعالمي. وكان لافتاً أنه لم يكن هناك أيّ اعتبار للسلطة الفلسطينية إلا من خلال الأدوار التي كانت تقوم بها (في القطاع العام، والإنفاق، والبنى التحتية، والخدمات الاجتماعية)، حتى أنه لم يكن هناك ما يبرّر وجودها سوى توفير شروط مناسبة للنشاط الاقتصادي.
ومع ذلك، وجدت السلطة الفلسطينية أن حقل نشاطها وصلاحياتها محدود بسبب سيطرة إسرائيل على الجزء الأكير من أراضيها. كذلك وجدت نفسها تابعة مالياً للضرائب التي تجنيها السلطات الاسرائيلية على الصادرات الفلسطينية، والتي لم تكن تتردد في وضع اليد عليها كإجراء عقابي. كذلك وجدت نفسها مقيّدة بالتبعية للمساعدات الدولية التي كانت تمنح مزاجياً وبشروط سياسية. اضطرت السلطة الفلسطينية على الدوام إلى تقديم البراهين على حسن سلوكها، لكي تتمكن من الحصول على المساعدات الضرورية لبقائها، متجاهلة كلياً شرعيتها إزاء شعبها.
وبينما كان الاستيطان يتواصل ويتعرض الفلسطينيون للعنف والقمع، كانت السلطة مجبرة على مواصلة سياسة إعادة الهيكلة الاقتصادية وتطهير المؤسسات، وبناء اقتصاد سوق. إن هذه الطلبات لاقت تجاوباً من قبل السلطة، كما تشهد على ذلك السياسات الليبرالية المتّبعة من قبل الحكومات الفلسطينية في عقد كامل. وينعكس ذلك أيضاً في الإصرار على تطوير الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
أشرفت الولايات المتحدة، ولا تزال، على تطوير الاجهزة الامنية التي تشكّل جزءاً من منظومة تعاون مع إسرائيل. في الواقع، أدّت تلك التدابير إلى تعزيز نخبة فلسطينية مركبة من قادة السلطة ومن رأسماليين فلسطينيين، ومنظمات غير حكومية. يعود ازدهار هذه النخبة إلى تدفق الرساميل الأجنبية، واستيراد المنتجات الاستهلاكية، ونمو قطاع الخدمات والبناء. وهي قطاعات لم تتأثر بالتوسع الاستيطاني ولا بنقص السيادة الفلسطينية.
من جهة ثانية، أدى التعاظم الهائل لمديونية الأفراد لتمويل الاستهلاك في الضفة الغربية الى التأثير بقوة على قدرة الحشد والتعبئة الشعبية والنضال. في المقابل، فرضت السلطة الفلسطينية نفسها لاعباً اجتماعياً واقتصادياً لا يمكن تجاهله، بعد أن أصبح التوظيف في القطاع العام المورد الرئيسي للكثير من العائلات. كذلك فإنه تحوّل إلى وسيلة لشراء السلم الاجتماعي ومنع أيّ تحركات سياسية.
تناقضات من دون حدود تسهم في إضعاف العمارة السياسية الفلسطينية، وفي المزيد من الرفض لقيادتها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 32 / 2165504

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165504 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010