الجمعة 15 كانون الأول (ديسمبر) 2017

سعيكم مشكور: كيف غدر ترامب بعباس وبملك الأردن عبد الله

الجمعة 15 كانون الأول (ديسمبر) 2017

- إساءة شخصية: كيف غدر ترامب بعباس وبملك الأردن عبد الله

ديفيد هيرست

في الحادي والعشرين من أغسطس 1969، أضرم مواطن أسترالي يدعى دينيس روحان النار في منبر المسجد الأقصى، وهو المنبر الذي أهداه للمسجد قبل ما يزيد عن ثمانمئة عام القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي (1137-1193)، الذي قاد الحملة العسكرية ضد الصليبيين.

إلى جانب اعتباره مريضا عقليا، ظن روحان بأنه ينفذ تعليمات سماوية المقصود منها تمكين اليهود من تشييد هيكلهم على حطام المسجد الأقصى، والتعجيل من خلال ذلك بالمجيء الثاني ليسوع المسيح.

تأثير محفز

أتى الحريق الذي أشعله روحان على المنبر العتيق ودمر أجزاء من السقف، ولكنه في نفس الوقت ترك أثرا محفزا. فبعد شهر من الحادثة اجتمع أربعة وعشرون زعيما ومندوبا للبلدان الإسلامية في الرباط وأنشأوا كيانا مهد فيما بعد لقيام مجموعة باتت تعرف باسم منظمة التعاون الإسلامي.

تشتمل هذه المجموعة الآن على 57 دولة عضوا، اجتمع زعماؤها أو مندوبون عنهم في إسطنبول يوم الأربعاء. والذي حفزهم على الاجتماع هذه المرة هو نفسه ما حفزهم على ذلك قبل ثمانية وأربعين عاما. إنه المسجد الأقصى. ولكن المسجد هذه المرة لم يتعرض لهجوم من قبل مسيحي إنجيلي أسترالي وإنما تعرض للتهديد من قبل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الذي تصرف إرضاء لمسيحيين أمريكيين مهدويين مشابهين في المعتقد والتوجه لذلك الأسترالي روحان.

حقق المؤتمر عددا من الأهداف، كان أولها اتخاذ قرار تاريخي بالاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، بما يعني وقوف 57 دولة في وجه إسرائيل من حيث توجهها نحو توحيد مدينة القدس واعتبارها عاصمة لها.

يعتبر هذا التحرك بمثابة المبادرة بدحرجة كرة دبلوماسية ثقيلة الوزن حول العالم، حيث تتدحرج باستقلالية تامة عن الإرادة الإسرائيلية أو الإرادة الأمريكية. ستتدحرج هذه الكرة بشكل خاص عبر آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، وسوف تعسر على الدول الأخرى مهمة نقل سفاراتها إلى مدينة القدس، ولو بهدوء ودونما ضجيج.

واليوم، قرر نائب الرئيس الأمريكي مايك بينس تأجيل زيارته إلى إسرائيل.

وضعت القمة فلسطين مرة أخرى في القلب من العالم الإسلامي بعد سبعة أعوام من الربيع العربي، تلك الموجة من الانتفاضات الشعبية التي اكتسحت المنطقة في عام 2011، وبعد انقضاء عهد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وفي سوريا، حيث تراجعت قضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في ذلك الوقت وغابت عن المشهد السياسي الإقليمي.

كما همشت القمة ذلك المؤتمر الذي نظمه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وحشد له بوجود دونالد ترامب في الرياض في شهر مايو / أيار الماضي.

في ذلك المؤتمر وقف رئيس الولايات المتحدة يعظ زعماء العالم الإسلامي حول التطرف الإسلامي، ثم جاءت القمة الإسلامية ليقف فيها زعماء المسلمين يعظون ترامب حول متطرفي بلاده، الأمر الذي شعر بسببه السعوديون بشيء من الارتباك خشية أن يتجاوزهم الحدث.

اختار السعوديون أن يمثلهم في قمة إسطنبول وزير الشؤون الدينية، وهي حقيبة غير سيادية، ثم فرضوا رقابة صارمة على تغطية وقائع المؤتمر في وسائل إعلامهم، وركزوا بدلا من ذلك على توجيه النقد لتغطية قناة الجزيرة للاحتجاجات التي اجتاحت العالم بشأن القدس، معتبرين ذلك نوعا من التحريض على العنف.

لا شيكات على بياض

والأهم من ذلك أن قمة إسطنبول وضعت الأساس لإعادة التمحور بين الدول العربية، واستعرضت حالة من التمرد لزعيمين عربيين طالما عرفا بولائهما للغرب، العاهل الأردني الملك عبد الله والرئيس الفلسطيني محمود عباس، حيث بدا الرجلان كما لو أنهما خرجا عن طوع حلفائهما التقليديين في واشنطن.

فأولهما هو زعيم ثاني بلد عربي يعترف بإسرائيل وأما الثاني فهو زعيم كرس حياته للتفاوض حول حل الدولتين الذي ما عاد واردا.

وإدراكا منهما لما كان يوشك أن يحدث في إسطنبول، فقد بذلت المملكة العربية السعودية ومصر جهودا مضنية للحيلولة دون مشاركة عبد الله وعباس في القمة.

وكما ورد في التقارير الإخبارية، طُلب من عبد الله وعباس التوجه إلى القاهرة لحضور اجتماع طارئ، ولكن لم يحضر سوى عباس.

ولقد علمت من مصادر جيدة الاطلاع اشترطت عدم الإفصاح عن هويتها أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ضغط على محمود عباس حتى لا يترأس وفد فلسطين إلى إسطنبول وبذلك يقلص من أهمية المؤتمر.

ولمساعدته على الاستنكاف عن إجابة الدعوة لحضور قمة إسطنبول، نُشرت أخبار كاذبة تفيد بأن محمود عباس تعرض لأزمة قلبية، إلا أن عباس تجاهل هذه الأخبار.

في تلك الأثناء دُعي الملك عبد الله إلى الرياض، وهناك، كما علمت من مصادري، قيل له ألا يحضر قمة إسطنبول. مكث الملك عبد الله بضعة ساعات في الرياض ثم غادرها إلى إسطنبول.

اعتبر حضوره للقمة بمثابة رسالة وجهت إلى كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، ومفادها أن صفقة الرياض مع ترامب غير مقبولة لا لدى الأردن ولا لدى فلسطين، وأن الأردن وفلسطين في موقفهما ذلك يحظيان بدعم البلدان الإسلامية الأخرى. بمعنى آخر: ليس لديك شيك على بياض حتى تتجاوزنا وتتفاوض مع إسرائيل.

كلا الرجلين عبرا بشكل علني عن تحديهما وعن سخطهما، وذلك من خلال الوقوف جنبا إلى جنب في صورة تذكارية جماعية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ذي الميول الإسلامية والمتقد غضبا.

كان الملك عبد الله يهز رأسه بقوة حينما قال أردوغان: “أكرر، القدس بالنسبة لنا خط أحمر. سيظل الحرم الشريف إلى الأبد ملكا للمسلمين. ولن نتنازل أبدا عن مطالبتنا بدولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة. لا يمكننا أن نقف متفرجين في مثل هذا الوضع لأن ذلك يؤثر على مستقبلنا.”

ثم ألقى محمود عباس خطاب العمر، مهاجما الولايات المتحدة التي حطمت مشروع حياته المتمثل بالعمل من أجل حل الدولتين، وقائلا إن القدس تخطت كل الخطوط الحمر. وكشف النقاب عن أنه كان لديه اتفاق مع واشنطن تعهد بموجبه ألا يسعى لإعلان الدولة والحصول على عضوية جميع المنظمات الدولية قبل أن يتم التوقيع على السلام الدائم. ثم مضى ليعلن التبرؤ من الاتفاق.

وهذا يعني أن فلسطين ستكون حرة في رفع قضية على إسرائيل لدى محكمة الجنايات الدولية. وقال إنه سيقدم شكوى ضد الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن الدولي لأنها انتهكت واحدا من قرارات المجلس، زاعما أن الولايات المتحدة لا تملك حق التصويت على مثل هذا الإجراء.

عمل خياني

لم يكن أي من الرجلين في يوم من الأيام حليفا طبيعيا لأردوغان. بل كان الملك عبد الله قبل عامين قد توجه إلى واشنطن لتقديم تقرير لزعماء الكونغرس حول الأخطار التي يشكلها الرئيس التركي على النظام الإقليمي.

وأما عباس فهو يتوجس باستمرار من منافسة حركة حماس له، وقد حاول مرارا وتكرارا سحب فتح من حكومة الوحدة الوطنية. إذن، ما الذي دفع بالرجلين إلى التوجه إلى إسطنبول، وإلى المشاركة في مؤتمر كانا يعلمان علم اليقين بأنه كفيل بتغير التحالفات في المنطقة بأسرها؟

لا بد أن شأنا عظيما حملهما على التغلب على ما جبلوا عليه من نفور من الإسلاميين.

كلاهما توجها نحو رجل يعتبر، بحسب آخر استطلاعات للرأي، الأكثر شعبية في المنطقة، ونحو بلد – تركيا – يُنظر إليها الآن على أنها القوة الأكثر نفوذا في المنطقة بعد روسيا مباشرة.

لعبت السياسة المحلية دورا في ذلك. كلا الرجلين أدركا أن السخط في شوارع بلادهما كان شديدا جدا. فقد شهدت عمان أكبر تظاهرات احتجاجية منذ عقود. كما أن أكثر من نصف سكان الأردن هم من اللاجئين الفلسطينيين، بما في ذلك أولئك الذين نزحوا من القدس بعد حرب عام 1967. ومعظم سكان مدينة عمان إما أنهم من اللاجئين الفلسطينيين أو من الفلسطينيين الحاملين للجنسية الأردنية.

وكلاهما اعتبرا قرار دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل غدرا سياسيا. بالنسبة لعباس، كان ذلك بمثابة نقض لاتفاق غير مكتوب بينه وبين واشنطن تعهد بموجبه بعدم اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية إلا بعد التوصل إلى تسوية نهائية.

وبالنسبة للملك عبد الله، لم يكن الغدر أخف وطأة، حيث أن وصاية الأردن على المسجد الأقصى لم تكن شيئا عابرا، بل ورد النص عليها في معاهدات السلام، وبشكل خاص في معاهدة وادي عربا الذي وقعه في عام 1994 كل من الملك حسين ورئيس وزراء إسرائيل حينذاك إسحق رابين.

وحينما أعلن الملك حسين في عام 1988 فك الارتباط بين الأردن والضفة الغربية، معترفا بذلك بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاِ وحيدا للشعب الفلسطيني، أصر الملك على أن يحتفظ الأردن بالوصاية على الأقصى.

إنه موضوع شخصي

إلا أن السبب الثالث في شعور كل من محمود عباس والملك عبد الله بأنهما تعرضا للإهانة هو السبب الأكثر إثارة للاهتمام. إنه الجانب الشخصي من الموضوع. فسخط الرجلين حقيقي. يرى محمود عباس أن ترامب انقلب على عقود من الجهد الذي بذل في سبيل إقامة دولة فلسطينية.

لقد قبل عباس بأن يكون أداة في يد إسرائيل التوسعية، ودفع ثمن ذلك يوميا من خلال القيام نيابة عن إسرائيل بحفظ أمنها في المناطق المحتلة التي عزمت على عدم الانسحاب منها إلى الأبد.

أما بالنسبة للملك عبد الله، فكانت الإهانة موجهة ضد عائلته – الهاشمية – والتي لم تكن فلسطينية. وقد تكرست القناعة لدي بذلك بعد محادثة طويلة أجريتها مع أحد أفراد العائلة الملكية الحاكمة في الأردن، حيث مازال الهاشميون يذكرون زمنا كانوا فيه وصاة على الأماكن الإسلامية المقدسة الثلاثة في مكة والمدينة والقدس.

كان ذلك في عام 1924 عندما كان الشريف حسين بن علي الهاشمي، الزعيم العربي الذي أعلن الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين، يحتفظ بمكة والمدينة تحت سيطرته. في ذلك العام ذاته، منحه سكان القدس الحق في ضم المدينة إلى سلطانه.

إلا أنه ما لبث في وقت متأخر من ذلك العام أن فقد مملكته في الحجاز لصالح السلطان السعودي عبد العزيز بن سعود.

الأردن هو كل ما تبقى مما لازال يسمى الثورة العربية الكبرى التي أطلق شرارتها الجد الأكبر للملك الحالي عبد الله، الذي لم يبق لعائلته من مصدر للشرعية الدينية سوى الوصاية على الأقصى.

عندما يقول ولي العهد السعودي، الشاب المغرور البالغ من العمر 32 عاما، لمحمود عباس إنه عليه أن ينسى القدس وحق العودة، فإن التاريخ يعيد نفسه في الوعي الهاشمي. لم ينسوا نزاعهم مع آل سعود، ولم ينسوا طوال تلك السنين خسارتهم لاثنين من الأماكن المقدسة الثلاثة. مازال الألم يعتصر في صدورهم.

بالتالي، ليست القدس مجرد قضية خارجية في بلد أجنبي، بل هي اختبار لشرعيتهم كحكام في بلدانهم. يعي الملك عبد الله من تاريخ عائلته أنهم حينما يتركون عنصرا من العناصر الأساسية لشرعيتهم كحكام يفلت من أيديهم فإنهم سيفقدونه إلى الأبد.

الجانب الخاسر؟

اختيار عبد الله محفوف بالمخاطر. قد يقول المشككون إنه ربما اختار مرة أخرى الانحياز نحو الطرف الخاسر. فالثروة كلها، ومعظم القوة العسكرية والتكنولوجيا الراقية، يهيمن عليها المعسكر المقابل والمتمثل بالسعوديين والإماراتيين والأمريكيين. فهؤلاء معا يشكلون قوة كبيرة جدا.

ولكنه سيذكر جيدا كيف أن والده الملك حسين رفض الانحياز إلى الجانب الرابح ثلاث مرات خلال عهده، واختار بدلا من ذلك الإنصات إلى غرائزه كزعيم عربي.

ففي عام 1967، حذر الإسرائيليون الملك حسين بألا يتورط في الحرب، ولكنه اختار أن يشارك فيها رغم ذلك. حينها، تصالح الملك حسين مع عدوه اللدود رئيس مصر جمال عبد الناصر. تقول ليلى شرف، وزيرة الإعلام الأردنية السابقة، في وثائقي من إعداد قناة الجزيرة: “لم يكن بإمكان الملك حسين النأي بنفسه عن تلك الحرب. ولو أنه فعل ذلك للامه الجميع وحملوه المسؤولية عن الهزيمة.”

وفي عام 1973، أرسل الملك حسين قوات أردنية إلى سوريا لمساعدتها في مرتفعات الجولان ولخوض المعركة في حرب شنها أنور السادات وحافظ الأسد. وفي عام 1991، أيد الملك حسين الزعيم العراقي صدام حسين في حرب الخليج الأولى.

في كل واحدة من هذه المرات، انحاز الأردن عن إدراك وتصميم إلى جانب أشقائه العرب رغم إدراكه بأنهم كانوا يتجهون نحو الهزيمة. لم يستشرف الملك حسين مدى الهزيمة التي وقعت في عام 1967، ولكنه علم أن الأردن كان سيمنى بالهزيمة. لماذا؟ لأنه لو اختار غير ذلك السبيل لتكبد مجازفة أعظم وربما تهديدا لوجوده. وهذا هو الوضع الذي يجد عبد الله نفسه فيه الآن.

أسوأ جزء من تصريح ترامب بالنسبة للأردن كان إصرار الرئيس الأمريكي على أن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل إنما كان يعكس الواقع. لم يعبأ ترامب بالوضع القانوني، ولا بأحكام القانون الدولي، ولا بالمعاهدات، ولا بقرارات الأمم المتحدة، والتي تجمع كلها على رفض الاعتراف بضم إسرائيل للقدس الشرقية.

تحويل القدس إلى “أمر واقع على الأرض”، أسس له الإسرائيليون من خلال الغزو والاستيطان، هو الذي يجعله أمرا مرفوضا.

هذه المرة، وما كنت يوما أتوقع أن يخط قلمي هذه الكلمات، لقد استحق الملك عبد الله والرئيس محمود عباس موقعهما كزعيمين عربيين.

- سعيكم مشكور جميعا .. القدس في انتظار أولي البأس

فوزي رمضان

سعيكم مشكور وأثابكم الله، فقد انتفض المليار وسبعمائة مليون مسلم حول العالم، ومعهم المتعاطفون التهبت الحناجر بالتنديد والشجب والاحتجاج، وأشعلت النيران في العلمين الأميركي والإسرائيلي، واحتدت المعارك على كافة مواقع التواصل الاجتماعي، وانبرت أقلام الحسم على أوراق الصحف، واشتعلت نبرات الجهاد عبر محطات التلفزة العربية، الجميع قام بالواجب وزيادة، وتفرق الجمع إلى حال سبيله، وتتوالى الأيام فلا حررت القدس، ولافك أسر الأقصى، ولا عادت الأرض….. وبدون تشنجات وبلا عنتريات فارغة …. نصل إلى السؤال المؤلم والاهم والمعدوم الإجابة من سيحرر القدس؟!
ليكن الشق الأول من الإجابة بالتأكيد هم أصحاب الأرض، فعلا إجابة منطقية لمن يجهل حال أصحاب الأرض .. عزيزي لايوجد على وجه البسيطة من يعيش ذل وهوان هذا الشعب الصابر المسكين، فمازالت الآلة العسكرية المجرمة تمارس عربدتها وجبروتها على الأبرياء، بلا رقيب ولا مساءلة دولية، تسفك دماء أبنائه وتدنس مقدساته، وتسلب مزارعه ومياهه وتجرف أرضه ومحاصيله، شعب بلا حقوق، ضربت عليه الذلة والمسكنة، حصار اقتصادي ومعنوي وتدمير لبنيته التحتية من كهرباء وماء، كيف يقاوم هذا الشعب المسكين، وهو يعيش بأكمله داخل أكبر سجن في التاريخ تحوطه الأسلاك الشائكة والحصار الخانق، والتجويع والتصفية والتنكيل، بلا جريرة ولا ذنب سوى أنه صاحب الأرض.
فقد عملت اسرائيل على تقويض وخنق الاقتصاد الفلسطيني، وكبلته بالقيود بهدف إذلال هذا الشعب في تأمين لقمة عيشه، واحتياجاته كبشر ككل البشر، كيف يقاوم هذا الشعب و80% منه تحت خط الفقر و10آلاف آخر أسرى في سجون دولة الاحتلال، يتحرك داخل وطنه بجوازات مرور بين ضيعة وأخرى، تستوقفه الدوريات الإسرائيلية كلما خرج حتى من بيته، كيف يقاوم هذا الشعب الأعزل وأسلحته لاتصد ولاترد، إن أطلق رصاصة أطلقت عليه الصواريخ ودانات المدافع ، كيف يقاوم حجر الطفل الفلسطيني جبروت آلة حربية غاشمة، مدعومة بأحدث تقنيات الدمار، إن لم تفجر منزله فجرت جسده، وحولت مقدراته إلى عصف مأكول ، صراع غير متكافئ ومقاومة متواضعة، لن تستطيع تحرير القدس.
إذن من الممكن أن تكون الإجابة في الراعي الأميركي للسلام ، كما نعيش الوهم والغفلة…. عزيزي منذ مائة عام وبالتحديد في العام 1917، وافق الرئيس الأميركي ويلسون على نص تصريح وعد بلفور ومنح وطن لليهود على أرض فلسطين ، ثم تبعه خلفه الرئيس هاردونج في العام 1922 بتوقيع قرار الكونجرس الأميركي ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، ومنذ ذلك التاريخ التزمت الادارة الأميركية بإنشاء الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين، والي وقتنا هذا تعتبر إسرائيل حجر الزاوية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، مع التعهد الوثيق بالحفاظ على أمنها وتفوقها العسكرى، وتقديم كافة المساعدات والمنح المالية والتي بلغت 3مليارات دولار سنويا، ليصل دخل الفرد الإسرائيلي إلى 29 ألف دولار سنويا،متفوقا على دخول دول الجوار، كما احتضنت الأرض الأميركية أكبر وأهم مراكز ومؤسسات الحركة الصهيونية اليهودية في العالم ، لقد بلغ النفوذ الصهيونى حدا مرعبا قد يمنع الإدارة الأميركية نفسها من رؤية مصالحها، ودفعت بالرئيس الأميركي ترامب إلى التوقيع في مشهد دعائي أمام الشاشات العالمية قرار قد اتخذ منذ 1995 وهو الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، في تحد صارخ وعنيد لمشاعر العرب والمسلمين، وإذا كانت ثوابت السياسة الأميركية هكذا، اذن فلا أمل في عودة وطن الفلسطينيين و حقوقهم المنهوبة ولاحتى أقصاهم ولا قدسهم.
ونصل إلى جزء مهم في الإجابة من سيحرر القدس؟! أعتقد أن الجميع يؤكد أنها الجيوش العربية ، ولكن ستجهش بالبكاء… أين هي الجيوش ؟! وجيش من !! وأكثر من ستة جيوش عربية في حكم المنتهي، خرجت من الخدمة ولم تعد، وتوزعت أسلحتها على أيدي جماعات إسلامية تزعم الجهاد، وكان الأولى والمنوط بها على أكثر ترجيح أن تصوب جهادها نحو تحرير القدس، لكن خانتها الرؤية فصوبت أسلحتها نحو كل الجيوش العربية، كي تضاعف من انهيارها أو تدفعها للانهيار، ليتأكد للقاصي والداني إن المنطقة العربية، تعيش أحلك وأصعب فترات التاريخ ، من التردي والتمزق والتشتت والضعف، وطن عربي تقطعت أوصاله بالخلافات ، وتمزقت هيبته بالنزاعات الطائفية والعرقية والعقائدية، وصل به الحال إلى حالة لاوطن ولااقتصاد ولاسياسة ولاوزن ولا قيمة، وطن عربي مباح وممهد تماما لفرض أي واقع وأي مشروع وأي مخطط ، كل دولة تئن من مشاكلها وتتألم من همومها ، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.. فهل هؤلاء سيحررون القدس ؟!.
من الممكن أن نجد الإجابة هنا…. هل ستعيد الأمم المتحدة الحق لأصحابه؟! رغم صدور 39 قرارا عن هذا المجلس وتابعه مجلس الأمن الدولي، جميعها يدين الممارسات الإسرائيلية اللإنسانية والعدوانية حيال الشعب الفلسطيني الأعزل، هل استطاعت منظمات حقوق الإنسان أن تجاهر بحق هذا الشعب المسكين، بعد أن ملأت الدنيا نباحا عن حق الإنسان فى هدم مؤسسات بلاده ،والتمرد والعصيان على أنظمته، ونست أو تناست حقوق شعب لا يرغب سوى أرضه، ولا يطلب سوى كرامته، ولاينادي سوى بإنقاذه … شعب يريد فقط الحياة.
وعندما تفشل كل الإجابات عن الرد، وتصاب كل المقادير بالعجز، وتتقطع كل السبل نحو الحل، ويصبح الإحباط والشلل عنوان المرحلة، تبزغ طاقة النور وتشرق بارقة الأمل … فلا يأس ولا قنوط … ستحرر فلسطين وستعود القدس وسيطلق سراح الأقصى، فلا هذا ولا ذاك، ولا هم ولاهن، ولا ذاك ولاتلك، الجميع أصفار، والكل أصفار أمام وعد الإله الأكبر، وحين يبث في أفئدة قلوب المسلمين السكينة، ويبشر هذا الشعب المكلوم بالطمأنينة، وحكم الله نافذ إن عاجلا أو أجلا، سينهمر الغيث والغوث وستنبت الأرض الصابرة أشداء أولي بأس شديد، بهم يعود الحق ، وبهم يذل الغاصب، إنها إرادة الله.

- رصاصة الرحمة على «الصفقة» الكبرى: غزاوية

د. وفيق إبراهيم

خطاب قائد منظمة حماس إسماعيل هنية يشكّل اكتمال الطوق حول صفقة العصر الكبرى، واضعاً أطرافها الأميركيين و«الإسرائيليين» وبعض الفلسطينيين والخليجيين والمصريين في أضيق زاوية لا نجاة منها، وهي مطوّقة أصلاً بحزب الله اللبناني وتحالفاته الإقليمية والإسلامية عسكرياً وسياسياً وجغرافياً. ما يضع أطراف الصفقة الكبرى أمام حائط مسدود، وفي كل الحالات.. فالهجوم الشامل على قطاع غزة يكشف المؤامرة السعودية «الإسرائيلية»، وقد يفجّر غضباً إسلامياً عارماً متقاطعاً مع رفض روسي، أوروبي، هندي وصيني أكثر حدّة من ذي قبل، والسكوت «الإسرائيلي» إزاء ارتفاع حدّة الغضب الشعبي الغزّاوي يحوّله مقاومة دائمة. وينطبق الأمر نفسه على حالة حزب الله، مع اختلاف في حريات الحركة ومستويات القدرات العسكرية «المفتوحة».

فأي هجوم «إسرائيلي» على جنوب لبنان أو سورية لن يكون ناجحاً، للقدرات النوعية التي يتمتّع بها حزب الله الذي أصبح واسع الحركة مع سهولة بالإمداد أكثر من ذي قبل، وذلك بسبب الخطوط المفتوحة بين لبنان وسورية والعراق وإيران، واكتسابه مهارات نوعية اكتسبها من انخراطه في كلّ أنواع القتال منذ 1983، مروراً بمحطات نصر تاريخية في 2000 و2006 و2017، واكتساب الخبرات متواصل لا يتوقف أبداً. هذا بالإضافة إلى اتساع «عديد» حزب الله من ساحات بلدان أخرى التحق جهاديوها به، لما وجدوا فيه من صدقية في جهاده الذي تقمّص الصراع مع النفوذين الأميركي و«الإسرائيلي»… والخليجي، بشكل فريد.

ما يمكن هنا استنتاجه، أنّ حركة حزب الله الإقليمية أدّت أولاً إلى القضاء على الإرهاب المنتحل الصفة الإسلامية في الإقليم ولبنان، وأعادت الحياة إلى مقاومات كانت ترزح تحت الضغط السعودي «الإسرائيلي» الأميركي والخليجي، وكادت تتورّط في صفقات أرادت واشنطن تلّ أبيب الرياض تمريرها من خلال الثلاثي: السلطة الفلسطينية ونظام السيسي والأردن، برعاية كاملة من وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي تجرّأ غير مرة على وضع رئيس السلطة الفلسطينية أبي مازن في أجواء الصفقة الكبرى، وتأييد بلاده لها مع إصراره على التخلّي عن شطرَيْ القدس الغربي والشرقي، والقبول بقرية أبو ديس بديلاً من المدينة المقدسة، وإلغاء حق العودة، واعداً بأكثر من 30 مليار دولار «هبات ومكرمات» للسلطة. وهذه رشوة موصوفة تدخل في إطار بيع أوطان… بمال سعودي.

وهذا يكشف عن قبول أبي مازن بصفقة العصر، والدليل موجود في صمته عن العرض واعتقاده أنّ الجبهة الأميركية قادرة على توفير ظروفها، لكنّ هذه الظروف لم تتأمّن. وها هي حماس التي تعرّضت لضغوط مصرية كبيرة كي تقبل بـ«ابو ديس»، رفضت نزع سلاحها وترقّبت بدورها ظروفاً أكثر موضوعية للتملّص من الضغوط المصرية، «الإسرائيلية» والخليجية… والفلسطينية الخاصة بسلطة محمود عباس.

هذه الظروف وفّرها طرفان: قرار الرئيس الأميركي ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل»، ونقل السفارة الأميركية إليها. هذا القرار الذي ألهب العالم الإسلامي غضباً متواصلاً، محرّكاً أيضاً القوى الدينية الإسلامية والمسيحية، من الأزهر إلى الفاتيكان.

أمّا الطرف الثاني، فهو إعلان جبهة المقاومة الإسلامية في لبنان بخطاب من القائد التاريخي حسن نصرالله، أنّ القدس هي عاصمة فلسطين العربية والإسلامية والمسيحية، مع الإصرار على تحويل الغضب الشعبي إلى مؤسسات مقاومة دائمة بوسيلتين: تجميع المقاومات اللبنانية والفلسطينية والسورية والعراقية والإسلامية المتنوّعة في «سبيل فلسطين»، لا سيّما أنّ الإرهاب التكفيري يُحتضَر. أمّا الوسيلة الثانية فهي توفير دعم مالي وسياسي ودولي، يبدأ من الجمهورية الإسلامية في إيران، متنقّلاً بين دول إسلامية لا تزال شعوبها بحالة غضب من إعلان ترامب بخصوص «إسرائيلية» القدس.

لذلك يتكامل مشروع حزب الله مع استجابة منظمة حماس وتخلّيها عن المفاوضات مع نظام السيسي والخليج والأردن، و«إسرائيل» التي كانت تريد تمرير الصفقة الكبرى.

ما هي إذن محاذير هذا التحالف المستجدّ بين حزب الله وحماس؟ هذا التحالف ليس جديداً، لأنّ حزب الله وإيران دعما «حماس» والمنظمات القريبة في نضالها ضدّ العدو «الإسرائيلي» في قطاع غزة والضفة الغربية. ولم يتوقّف هذا الدعم إلا بانسحاب «حماس» من هذا الحلف، ودعم بعض أطرافها للحركات الإرهابية في سورية والعراق ولبنان بذرائع مذهبيّة أُسميت زوراً بالربيع العربي… حتى كادت دولة قطر تسيطر على قرار حماس بشكل كامل، والأسباب على علاقة بانتماء «حماس» إلى كونفدرالية الإخوان المسلمين، الذي جذبها إلى تنظيمات الإخوان الحاكمة في تركيا حزب العدالة والتنمية ، وتونس والإصلاح اليميني وفيلق الرحمن السوري والجماعة الإسلامية اللبناني والإخوان المصري، إلى جانب مئات التنظيمات المشابهة في المغرب والسودان وموريتانيا.

اعتقدت «حماس» في حينه أنّ مشروع دولة الإخوان أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق، فالتحقت به وهي تعتقد أنّ دولة إسلامية كبرى تستطيع تحرير فلسطين بومضة عين، حتى أدركت أخيراً أنّ هذا الأمر ليس إلا مشروعاً أميركياً «إسرائيلياً» يريد المزيد من تفتيت المنطقة على أساس مركزية القوة «الإسرائيلية» فقط. فاستيقظت «حماس»، لكن بعض «الشِّلل» الملتحقة بها لا تزال موجودة في مخيمات لبنان ومخيم اليرموك السوري تقاتل إلى جانب «داعش» و«النصرة».

الأمر الذي يوضّح حاجة «حماس» إلى تطهير كامل لنمط فقهيّ يستولي عليها، ويتعلّق بقراءات سيد قطب الذي يعتبره الإخوان فقيهاً كبيراً. وتقول هذه القراءات إنّ العالم مقسوم إلى أهل جاهلية هم كلّ سكان الأرض من مسيحيين وغربيين ومسلمين وهندوس وبوذيين ويهود، وأهل إسلام هم جماعة الإخوان. الفريق الأول مجموعات من الكافرين لا يمكن لأهل دار الإسلام التعامل معهم إلا بالتحاقهم بالإخوان أو بقتلهم، وهذا فكر تبنّاه «داعش» و«النصرة» في آنٍ معاً.

سياسياً، لا يمكن لحماس الاستمرار في الالتحاق بسياسة تركية تتعامل مع «إسرائيل» منذ 1948، ولتمتين وضعها السياسي في أوروبا و«الشرق الأوسط» يتعمّد الرئيس التركي أردوغان افتعال أزمات خطابية مع «إسرائيل»، تنتهي بعد أيام عدة من إطلاقها، ولا تبقى إلا العلاقة البنيوية بين «تلّ أبيب» وأنقرة، وهي علاقات اقتصادية وسياسية واستراتيجية مستمرة منذ سبعة عقود على الأقل.

لذلك، فالمطلوب من حماس إنجاز علاقة عميقة مع محور المقاومة إلى جانب منظمات الجهاد في فلسطين المحتلة، ما يشكّل التقاء طرفَي الكماشة الكفيل بخنق الصفقة الكبرى وإعادة الاعتبار لفلسطين: فلسطينية وسوريّة وعربية وللأديان كافة.

- قرار ترامب- ما نحن فاعلون؟

مروان المعشر

بعد الإدانات العربية والدولية التي رفضت كليا الخرق الفاضح للقانون الدولي من قبل الرئيس الأميركي ترامب، من المفيد التفكير فيما نحن فاعلون بعد هذه الخطوة الرعناء.

أولا أن خطوة ترامب تشكل إجابة واضحة لكل العرب الذين عولوا على الرئيس الأميركي واعتبروا أنه سيكون أفضل للجانب العربي ممن سبقوه. ولأصحاب الذاكرة القصيرة ينبغي التنويه أن التعصب الأعمى والجهل الفاضح والسلطوية المقززة التي تميز شخصية ترامب لا يمكن أن تفضي إلى قرارات تحترم الشرعية الدولية وتساند الحق الفلسطيني. وللأسف، ما يزال بعض المهللين يتكلمون عن نظرية غير موجودة إلا في خيالهم مفادها أن ترامب بفعلته هذه يود كسب ثقة الإسرائيليين حتى يتقدم بخطة سلام تطلب منهم تنازلات مؤلمة، ما يمثل عدم دراية بخلفية قراره المبني على محاباة اليمين الأميركي المتطرف وإسرائيل. واهم من يعتقد أن الخطة الأميركية الجديدة، متى ما تم إعلانها، ستكون مقبولة في حدودها الدنيا للفلسطينيين وقد أصبحت ملامحها واضحة بعد أن تحدث عنها من عرضت عليهم وأشرتُ لها في مقال سابق. هل نأمل بموقف عربي موحد يرفض التعامل مع الإدارة الأميركية حول ملامح الخطة المزعومة؟

ثانيا، غني عن القول إن فلسطينية القدس لا تعتمد على قرار ترامب، بل انه ليس من دولة واحدة في العالم لديها سفارة في القدس، ما يمثل إجماعا دوليا على عدم شرعية الاحتلال. ما فعله ترامب أنه أعاد للواجهة الاهتمام العربي بالموضوع الفلسطيني بعد سنوات من الإهمال. لن يقبل فلسطيني واحد أو عربي بالسيادة الإسرائيلية على القدس أو المقدسات الإسلامية والمسيحية. وأنْ يصرح نتنياهو أنْ لا سلام دون سيادة إسرائيل على القدس، فلا سلام دون سيادة الفلسطينيين على القدس أيضا.

بعيدا عن العواطف، من الأهمية بمكان التخطيط السليم للمرحلة القادمة، لأنه يجب أن يعنينا بشكل رئيسي ما نستطيع التأثير فيه بشكل مباشر. صحيح أننا لا نملك أردنيا معظم الأوراق الخارجية فيما يتعلق بالنزاع العربي-الإسرائيلي، ولكننا نملك ورقة مهمة هي تحصين الجبهة الداخلية، ورقة ما نزال مترددين في السير بها وبشكل لم يعد مفهوما. مطلوب الوقوف بقوة وراء جلالة الملك في موقفه الداعم للقدس ولفلسطين، ومطلوب أيضا، ضمن الوقوف مع جلالة الملك، اعتماد برنامج إصلاحي سياسي واقتصادي حقيقي باعتباره ليس ترفا فكريا يمارس من قبل مجموعة نخبوية، ولكن ضرورة لا تحتمل التأجيل للتصدي لما يرسم من مخططات خارجية. هذا الأمر بيدنا إنْ توفرت الإرادة، ونحن بحاجة لسياسيين في دائرة صنع القرار يؤمنون ويعملون بهذا الاتجاه، ويذهبون إلى أبعد من مجرد الحديث عن الأمن بمعناه الضيق، وقد بات واضحا أن الأمن الحقيقي لا يتحقق دون تنفيذ مثل هذا المشروع الإصلاحي.

يبدو أن منطق القوة ومحاولة الاستحواذ على كل شيء الذي تمارسه إسرائيل مدعومة بالولايات المتحدة سيدفع الفلسطينيين باتجاه واحد فقط، وهو التخلي عن المفاوضات لأن المعروض غير مقبول بكل المعايير، والالتفات للتركيز على الحقوق ورفع كلفة الاحتلال، وهو ما يجب برأيي أن تركز عليه مقاربة أردنية وعربية جديدة لدعم بقاء الفلسطينيين على أرضهم.

ترامب سيرحل بعد ثلاث سنوات أو سبع سنوات. ومهما تكن تداعيات قراره آنذاك، فعامل الوقت ليس مع إسرائيل وإنما مع الفلسطينيين. صحيح أن ذلك يزيد من معاناة الفلسطينيين لجيل قادم، ولكن التعنت الإسرائيلي والأميركي لم يترك لهم خيارا آخر إلا التركيز على الحقوق لجيل قادم يتم بعد ذلك تنفيذ مشروع الدولة الواحدة بأغلبية فلسطينية تحرر فلسطين عمليا من الداخل بعد أن فشل مشروع تحقيق استقلالها من الخارج.

- القدس والسلطة الفلسطينية والعرب والمسلمون

د. محمد المسفر

تتعمق الأزمة في صفوف الفلسطينيين سلبا بشكل يومي، والسبب في ذلك يعود إلى تركيبة السلطة الفلسطينية، وممارساتها السياسية والمالية، وغير ذلك.

السلطة منذ توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم عام 1993 وهي تقود الشعب الفلسطيني إلى اليأس، انتفاضة تتبعها انتفاضة ضد الاحتلال الصهيوني يتبعها قمع سلطوي عرفاتي / عباسي لكل الحراك الوطني الفلسطيني الثائر ضد الاحتلال الإسرائيلي وممارساته عليهم وعلى أرضهم.. تتكاثر المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية، دون رادع من قبل السلطة، وقواتها الأمنية تطارد الأحرار من الشعب الفلسطيني في كل أنحاء الضفة الغربية وتعتقلهم، أو تسهل للقوات الإسرائيلية اعتقالهم..

أقام الإسرائيليون جدار الفصل العنصري يتلوى في الأرض الفلسطينية كالثعبان ليلتهم الأرض الخصبة للزراعة، ورغم صدور رأي من محكمة العدل الدولية بعدم شرعية إقامة ذلك الحائط ولكن السلطة سكتت عن العمل على تنفيذ إزالة ذلك الجدار البغيض لأن لبعضهم مصالح في بنائه، سكتت السلطة العباسية عن الممارسات الإسرائيلية في مدينة القدس بما في ذلك سكوتها عن هدم المنازل في المدينة من قبل الإسرائيليين وتشتيت سكان القدس تحت ذرائع مختلفة.

السلطة العباسية لا تملك رؤية وطنية ولا موقفا، الموقف في القضايا الوطنية حركة، والكلمات الصادقة منطوقة أو مكتوبة تملك لنفسها قوة فعل غلابة، قوتها تصبح قوة مدفع، والصفحة المكتوبة بصدق فعلها تساوي كتيبة عسكرية، والكتاب جيش بأكمله.

وهنا نقول موقف محمود عباس موقف التاجر الذي لا يريد أن يزعج زبائنه كي لا يبحثوا عن بديل يتعاملون معه.

(2)

في الأسبوع الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بأن القدس عاصمة إسرائيل، رغم كل القرارات الدولية التي تعتبر القدس مدينة محتلة من قبل إسرائيل، وأصدر توجيهاته لوزارة الخارجية الأمريكية للإعداد لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى العاصمة الجديدة مدينة القدس. هذا الإجراء أحدث زلزالا سياسيا في كل عواصم الدول الإسلامية إلا بعض عواصم العرب، وكأن شيئا لم يكن، واكتفت تلك العواصم باستنكار ذلك الإجراء، وعلى أثر ذلك القرار، اجتمع وزراء الخارجية العرب في القاهرة وتمخض عن اجتماعهم القول: “إن قرار ترامب بجعل مدينة القدس عاصمة إسرائيل سيدفع المنطقة إلى مزيد من العنف”، واكتفوا بذلك البيان الباهت، ودعت تركيا إلى اجتماع قمة طارئة لدول منظمة التعاون الإسلامي، ولم يكن التمثيل في القمة بمستوى القدس، علما بأن مؤتمر قمة قادة الدول الإسلامية انعقد في الرياض في مايو الماضي بأكثر من خمسين رئيس دولة وحكومة إسلامية فقط، لمقابلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وبالأمس الخميس اجتمع رؤساء البرلمانات ومجالس الشورى العرب في المغرب لتدارس الموقف من القرار الأمريكي، ولا شك أن نتيجة اجتماعهم لن تكون أبلغ من نتائج قمة المسلمين ووزراء الخارجية العرب.

تقول المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة السيد هالي تعليقا على الغضبة العربية “كنا نعتقد أنه بعد قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل أن السماء ستسقط على الأرض، لكن لم يحصل ذلك”.. وقد سبقتها في القول جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في حينه، عندما أقدم شاب يهودي على إشعال النار في المسجد الأقصى عام 1969.. وتنادي العرب والمسلمين للثأر للأقصى، قالت “لم أنم الليل كنت خائفة أن يدخل كل العرب على إسرائيل من كل اتجاه نتيجة لذلك العمل”، وما أشبه الليلة بالبارحة! سيخمد القادة العرب غضب الجماهير العربية وسيمنع عباس أي حراك فلسطيني من أجل القدس.

يريد الكاتب أن يؤكد أن هذه المؤتمرات والخطب البليغة وحسن الصياغة والشجب والإدانة ورفض القرار الأمريكي كلها غير مجدية إن لم يتبعها إجراءات عملية على كل الصعد، ليس قطع العلاقات الدبلوماسية مع أمريكا تقوم به بعض العواصم العربية أو الإسلامية مجديا ما لم يكن قرارا جماعيا على مستوى دول منظمة التعاون الإسلامي.

وتقوم الدول العربية التي لها علاقة دبلوماسية مع إسرائيل بقطع العلاقات الدبلوماسية معها، نظرا لما تمارسه ضد الشعب الفلسطيني، وعلى الجامعة العربية أعني دول الجامعة، العودة إلى نظام المقاطعة على كل الصعد، وكذلك مقاطعة الشركات التي تتعامل مع إسرائيل.

(3)

في هذه الظروف الصعبة على السلطة الفلسطينية أن تقدم على حل السلطة، وإعلان فلسطين كلها واقعة تحت الاحتلال ويتحمل المجتمع الدولي نتائج ذلك. إلغاء جميع الاتفاقيات مع العدو الإسرائيلي بما في ذلك اتفاق أوسلو الذي وقع في عام 1993، والتنسيق الأمني وإعلان العودة إلى ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، وتوحيد جميع منظمات العمل الوطني الفلسطيني، ورفع الحصار عن قطاع غزة وإجراء مصالحة وطنية حقيقية بين حماس ومنظمة فتح من أجل فلسطين.

محمود عباس في خطابه أمام مؤتمر قمة منظمة التعاون الإسلامي قال: “لن نقبل بأن تعد أمريكا وسيطا لمفاوضات السلام بعد الآن، لانحيازها لإسرائيل”.. أليس ذلك قولا غريبا؟ وهل من شك بأن أمريكا ليست منحازة لإسرائيل منذ التأسيس؟! بعض الفلسطينيين يلقي باللائمة على القيادات العربية، خاصة بعض دول الخليج العربي، التي لم تقدم الدعم السياسي والمالي للموقف الفلسطيني كما يجب، قد نتفق مع هذا الاعتقاد، إلا أن على القيادات الفلسطينية أن توحد كلمتها ومواقفها تجاه إسرائيل وما يسمى بعملية السلام وبعد ذلك، عليهم لوم الدول التي لا تعينهم على تحقيق أهدافهم في تحرير فلسطين وليس فقط “شقفة” من مدينة القدس.

آخر القول: اصرخوا يا قيادات الشعب الفلسطيني، ويا قادة العالم العربي، احتجوا أدينوا ارفضوا اشجبوا استهجنوا، قولوا ما شئتم... فلا نفع في رعود لا تسقط المطر.

- فلسطين والأغرار الجدد.. ماذا يفعلون وماذا يجهلون!

ساري عرابي

زعمت صحيفة “القدس العربي” أن الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس؛ سرّب للملك الأردني مضمون ما طرحه عليه ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، حينما استدعاه إلى الرياض الشهر الماضي، إذ قال له، والعهدة على الصحيفة المذكورة: “أغلق صفحة القدس وحق العودة واللاجئين؛ واتجه لدولة في قطاع غزة، وستهطل عليك الأموال”.

المؤكد أنّ فحوى ذلك اللقاء ما يزال مجهولا، وهو أمر يبعث على ريب يتصاعد للاقتراب من تصديق هذا التسريب، لا سيما مع تلميحات متعددة لا يخلو منها كلام مستويات في السلطة الفلسطينية، ومع تسريبات تكاد تبلغ درجة التصريح بوجود خطّة ما لترامب بخصوص القضية الفلسطينية، ومع تصريحات فلسطينية، أدلى بها مسؤولون فلسطينيون عدّة مرات، منهم الرئيس محمود عبّاس نفسه، عن مقترحات مصرية بضم أجزاء من سيناء لغزة وإقامة الدولة الفلسطينية عليها.

كاتب هذه السطور كان - في كتاباته - يرجّح وجود تصورات ما بخصوص القضية الفلسطينية، تدور في رأس ترامب ونتنياهو وعبد الفتاح السيسي، منذ مجيء ترامب إلى البيت الأبيض، بيد أن التطورات الجديدة هي تلك المتعلقة بالتدخل السعودي في المسألة.

ثمة انعطافة حادّة في سياسات الحكم بالسعودية، لا يمكن فصلها عن الموضوع الفلسطيني، وبعضها بالضرورة واضح الارتباط بالموضوع الفلسطيني

دون مزيد تحليل في دوافع الحكم السعودي، ودون إحكام لتحليل تلك الدوافع بربطها بمجمل الظروف التي يمرّ بها الحكم السعودي الحالي، من تحديات داخلية وخارجية، ترجّح استناده لقوى دولية وإقليمية معادية للفلسطينيين، فإنّ ثمة انعطافة حادّة في سياسات الحكم، لا يمكن فصلها عن الموضوع الفلسطيني، وبعضها بالضرورة واضح الارتباط بالموضوع الفلسطيني.

كانت حملة الاعتقالات التي شنها الحكم السعودي، على عدد من الدعاة والمثقفين، غير واضحة الأسباب، بالرغم من ربط البعض لها بالصراع الداخلي على الحكم بين أبناء العمومة في الأسرة السعودية الكبيرة، أو بحصار قطر. وقد سبق تلك الحملة؛ منع بعض الدعاة والمثقفين من الكتابة، حتى من التغريد على موقع تويتر، وتقييد موضوعات بعضهم، إذ كان واضحا أنّ أكثرهم شهرة ومتابعة ممنوع من الحديث في القضية الفلسطينية.

قبل أكثر من ستّة شهور، شُنّت حملات سعودية منظّمة في موقع تويتر، تزعم كراهية الفلسطينيين للسعودية، ونكرانهم لجميلها، وتضخّم من طبيعة الدعم السعودي للقضية الفلسطينية، وتتّهم الفلسطينيين ببيع أرضهم للصهاينة، وتدعو للتخلّي عن القضية الفلسطينية.

اللافت حينها، أنّه لم يكن ثمّة أحداث تدعو لمثل هذه الحملة، التي بدت منظّمة ومركّزة، وشاركت فيها شخصيات معروفة، وهو الأمر الذي دلّ بالضرورة على رضا توجهات الحكم الحالي عنها، ولا سيما مع اشتراك الصحافة الورقيّة المحليّة فيها. بكلمة أخرى، لا يمكن، في السعودية على وجه الخصوص، إدارة حملة بالغة الغرابة والشذوذ، دون وجود توجّهات عليا تتبناها وتدفع نحوها.

بعد ذلك انفجرت قضية البوابات الالكترونية وأدوات المراقبة؛ التي أراد بها الاحتلال فرض وصايته على المسجد الأقصى. وقد خشي الفلسطينيون أن تكون تلك الخطوة مجرد مرحلة تمهيدية للوصول إلى تقسيم المسجد الأقصى. في الأثناء، استمرت الحملات الإلكترونية السعودية في موقع تويتر بنفس خطاب الكراهية تجاه الفلسطينيين، مع إضافات أكثر جرأة وخطورة طالت المسجد الأقصى نفسه، مع صمت سعودي رسمي، رافقه صمت على منابر الحرمين، وصمت مشاهير الدعاة على موقع تويتر.

فجأة انقلب ذلك الصمت إلى حالة صاخبة، بعدما كسر الفلسطينيون، والمقدسيون منهم على وجه التحديد، إرادة الاحتلال، وأجبروا نتنياهو على تفكيك أبوابه الالكترونية وكاميراته، فزعم السعوديون أن تدخل الملك سلمان لدى الأمريكان هو الذي أجبر الاحتلال على التراجع.. هنا انتقلت الحملة إلى تطعيم خطاب الكراهية تجاه الفلسطينيين؛ بالمزيد من عبارات المنّ والأذى واتهام الفلسطينيين بنكران الجميل!

كان يحضر دائما الحديث عن تطبيع سعودي إسرائيلي سرّي، وعن دور للسعودية فيما يُسمّى “صفقة القرن”، أي صفقة التخلّص من القضية الفلسطينية وتصفيتها نهائيا

في الخلفية، كان يحضر دائما الحديث عن تطبيع سعودي إسرائيلي سرّي، وعن دور للسعودية فيما يُسمّى “صفقة القرن”، أي صفقة التخلّص من القضية الفلسطينية وتصفيتها نهائيا.

لكن في مقدمة المشهد، كانت تحضر دائما حملات الذباب الالكتروني التي تثير الكراهية ضدّ الفلسطينيين، وتدعو للتخلّي عن قضيتهم، مع غياب تامّ لمشاهير الدعاة عن التدخل. فبعضهم في السجن، وبعضهم ممتنع حتى عن الإشارة لفلسطين أو القدس، بالرغم من مساهمة بعض مشاهير المثقفين ممن يُدعون بـ“الليبراليين” في تلك الحملات، وعلى نحو ينبغي أن يُصنّف في دائرة الخيانة، كتبني الرواية الصهيونية الاستعمارية بخصوص الحقّ التاريخي في فلسطين والترويج لها!

قبل إعلان ترامب الأخير الذي اعترف فيه بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وقرّر فيه نقل عاصمة بلاده من “تل أبيب” إلى القدس، كانت تلك الحملات قد نشطت من جديد فجأة بلا مقدمات واضحة، في هذه الحالة، الأحمق وحده الذي يمكنه أن يصدّق أن المسألة محض صدفة!

استمرّت الحملات على حالها، حتى بعد إعلان ترامب، واستمرّت القضية الفلسطينية غائبة عن منابر الحرمين، التي تحدّثت عن برد الشتاء وحرّ الصيف، واستمرّ غياب مشاهير الدعاة الذين اكتفى بعضهم بنشر صور الجوارب النسائية والحديث عن حكم المسح عليها، واستمرّ غياب الدعاة الأكثر ارتباطا بالقضية الفلسطينية داخل السجون.

باتت الحماقة إذن، هي اعتبار ذلك كلّه مصادفة، وأنّه لا علاقة له بمشاريع ترامب التصفوية للقضية الفلسطينية، وجولات صهره كوشنير، الذي صار يوصف بأنّه وليّ أمر بعض الحكام العرب الآن!

الهبّة العربيّة التي شقّت طريقها من ركام اليأس والطغيان والاستبداد والتردّي والتآمر والحروب الأهلية، شقّت طريقها من ذلك كلّه لأجل القدس، ينبغي أن تعطي درسا للأغرار من الطغاة الجديد

الهبّة العربيّة التي شقّت طريقها من ركام اليأس والطغيان والاستبداد والتردّي والتآمر والحروب الأهلية، شقّت طريقها من ذلك كلّه لأجل القدس، ينبغي أن تعطي درسا للأغرار من الطغاة الجدد.

والمواقف الدولية على تواضعها، ينبغي أن تعطيهم درسا إضافيّا بأن أمريكا ليست إلها، وأنّه يمكن أن يقال لها “لا”.

والمواقف التركية والإيرانية، وأيّا كانت صوابية الأوصاف التي تُطلق عليها من كونها صوتية وتتاجر بالقضية الفلسطينية، تعطي درسا بأنّه يمكنك أن تدخل التاريخ من أوسع أبوابه باسم هذه القضية المباركة، دون أن ينعكس ذلك بالخطورة على حكمك!

لكن الدرس الأبلغ، من هذه القضية نفسها، التي تثبت، مرة بعد مرة، وبعد كل حالة يأس وانطفاء، استعصاءها على الانطماس والإمحاء، ولولا ضيق المقام، ولولا أن الأغرار من الطغاة الجدد لا يقرؤون التاريخ، لتوسعنا في بيان إثبات هذه القضية نضارتها وحيويتها وقيامها الدائم، رغم كل ما مرّ عليها من أحداث عظام.

والدرس الآخر الأبلغ، من القضية نفسها أيضا، موقعها العميق في الضمير الجمْعيّ للأمّة، التي مرّ عليها ما مرّ من محاولات سلخها عن هذه القضية، وصُبّ عليها ما صُبّ من دعايات تشويه للقضية وأهلها، إن الأمر أعمق مما يبدو للأغرار من الطغاة، وكراهية هذه الأمّة لمحتلّي فلسطين أعمق من أن تستبدل بها كراهية الفلسطينيين!

- من قرار ترامب إلى استراتيجية عمل فلسطينية جديدة

بشير نافع

القول بأن خلف قرار الرئيس الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية اعتبارات محلية، هو صحيح على الأرجح. قرار بهذا الحجم ما كان له أن يعلن بدون اتخاذ أثره على قاعدة الرئيس الانتخابية، سيما في مناطق وسط الغرب الأمريكي، بروتستنتية التوجه، في الاعتبار، وبدون حساب الدوافع الملحة لتأمين الاصطفاف الجمهوري خلف الرئيس، الذي يواجه سلسلة من الأزمات والتحديات السياسية. ولكن الافتراض بأن ترامب مجرد رئيس غبي، غريب على مؤسسة الحكم ويفتقد الدراية الضرورية بالسياسة الخارجية، هو افتراض خاطئ. يبدو ترامب شخصية غير معتادة، وغير قابل للتوقع دائماً. ولكنه ليس بالغباء الذي يفترضه بعض مراقبي رئاسته.

إن لم يكن الرئيس قدر ردود الفعل العربية والإسلامية المحتملة لقراره، فلابد أن مؤسسات الدولة المختلفة، وذوي الخبرة المتراكمة في الشأن الخارجي من حوله، وفي شؤون الشرق الأوسط، على وجه الخصوص، قد أخبروه بما يمكن أن يولده قراره من ردود فعل.

قرار القدس لم يتخذ بصورة مفاجئة، كما أن الرئيس، وبعض من كبار شخصيات إدارته، كرر الإشارة للمسألة طوال الشهور منذ تولي إدارته مقاليد البيت الأبيض. بمعنى، أن زمناً كافياً استهلك في دراسة المسألة بكافة جوانبها، وأن الرئيس كان يعرف أن قراره لن يمر بدون عواقب. اتخذ ترامب قراره ضمن تصور خاص بعلاقة الولايات المتحدة، والغرب ككل، بالعرب والمسلمين، تصور يستند إلى رؤية صراعية، إلى اعتقاد بوجود خطر إسلامي، يهدد الحضارة الغربية وموقع الولايات المتحدة، بغض النظر عن سذاجة هكذا رؤية للعرب والمسلمين.

إن كان أوباما، ولأسباب لا مجال هنا لتعدادها، بدأ عهده بمحاولة إعادة بناء صورة الولايات المتحدة في العالم، وفي العالم الإسلامي، بصورة خاصة، وبتبني خطاب تصالحي مع العرب والمسلمين، فإن ترامب يعمل من البداية على تأجيج مناخ الصراع والمواجهة.

ولهذا السبب بصورة رئيسية، وقبل أي سبب آخر، لابد من الرد على ترامب وقراره. يمثل القرار الأمريكي، بلا شك، استهتاراً بالقانون الدولي وأكثر من قرار لمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة؛ ويمثل انحيازاً سافراً للدولة العبرية، وتخلياً فعلياً عن دور الوسيط في المسار التفاوضي لحل المسألة الفلسطينية؛ ويمثل استهانة بحلفاء الولايات المتحدة التقليديين في المشرق، قبل خصومها؛ كما يعتبر خطوة انفرادية، لم تؤيدها ولا تقبلتها أي من دول العالم الأخرى.

وهذه أسباب كافية لإطلاق رد عربي وإسلامي، بالرغم من أن القرار الأمريكي لن يغير كثيراً في أرض الواقع، لا على صعيد سياسات إسرائيل التهويدية، ولا على صعيد مصادرة الأرض وبناء المستوطنات. ولكن، قبل هذه الأسباب وبعدها، ثمة سبب لا ينبغي تجاهله أو ارتكاب الخطأ في قراءته: أن هذا الرئيس يتعمد بالفعل تبني سياسات عدوانية ضد العالمين العربي والإسلامي، حتى عندما تعارضه مؤسسات الدولة الأمريكية الأخيرة، وعلى صناعة الانطباع بأنه بصدد تعهد حرب شاملة ضد قيم ومحرمات العرب والمسلمين، سواء لأن هكذا سياسة تؤمن له دعم قاعدته الانتخابية الصلبة، أو لأنه مقتنع فعلاً بأوهام التهديد العربي والإسلامي.

وكان جديراً بخطوة ترامب العدوانية، بالفعل، أن تواجه بإدانة شاملة في مجلس الأمن الدولي، ومن كافة العواصم الغريبة؛ وأن دولة عربية أو إسلامية واحدة لم تستطع السكوت عليها أو تأييدها، حتى تلك الدول التي ربما حسب ترامب أنها ستدعم موقفه. لم يعد خافياً، بالتأكيد، أن إدارة ترامب كانت تعمل على تسوية جديدة للمسألة الفلسطينية، وأن فلسفة هذه المبادرة، التي تشتغل عليها مجموعة من المسؤولين الأمريكيين اليهود، المعروفين بتأييدهم للمشروع الصهيوني، تقوم على تطبيع عربي شامل مع الدولة العبرية، قبل المضي نحو طرح إطار لإنهاء الصراع على فلسطين.

لم يرشح الكثير مما تتصوره واشنطن ترامب لما يمكن أن يحصل عليه الفلسطينيون، ولكن ما عرف من ردود فعل الرئيس الفلسطيني على ما تسلمه من مقترحات لا يبعث على الاطمئنان. فإن كان أبو مازن، الذي سبق أن أكد في مناسبات عديدة عدم تأييده أي صورة لمقاومة الاحتلال، وعلى إيمانه المطلق بأن المفاوضات هي السبيل الوحيد للحصول على الحقوق الفلسطينية، لا يستطيع قبول مقترحات إدارة ترامب للتسوية، فربما بات من الممكن للفلسطينيين تصور ما يطبخ لقضيتهم في أوساط الإدارة الأمريكية.

بارتكاب خطوة الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية، كشف قناع الصمت واللامبالاة عن أصدقاء ترامب، عرباً كانوا أو غير عرب، الذين كانوا يستعدون للذهاب بعيداً في التطبيع مع الدولة العبرية.

كما كشف قناع الصمت واللامبالاة عن أولئك الذين هجروا أهالي بعقوبة والحويجة، وعملوا على إبادة أهالي حلب وريف دمشق، باسم المقاومة. ولكن أحداً لا يمكن له أن يغفل عن أن النتيجة الأوضح والأكثر مضاء لقرار الرئيس الأمريكي تحققت في شوارع المدن العربية والإسلامية، من لاهور وديار بكر إلى القاهرة والرباط، وفي شوارع المدن والبلدات الفلسطينية. الفلسطينيون بدأوا انتفاضتهم الثالثة، والعرب والمسلمون يستعيدون قضيتهم الكبرى، وعماد وحدتهم عبر السنين. إن كان ترامب حسب أن باستطاعته لعب دور آلهة الحرب المقدسة بدون عواقب، فها هو الرد عليه آخذ في التبلور؛ وستكون إسرائيل نتنياهو، التي سارعت إلى الاحتفال بقرار الرئيس المتأزم، من يتحمل النصيب الأكبر من العواقب.

بيد أن عودة الشعب إلى ساحة الصراع، في فلسطين وخارجها، لن يكفي وحده لبناء توازن قوة جديد. ثمة واجبات على سلطة الحكم الذاتي ادراكها؛ ليست مستجدة، بالتأكيد، ولكن القرار الأمريكي جعلها بلا شك أكثر إلحاحاً، ويوفر فرصة مواتية لتعهدها. أحسن الرئيس الفلسطيني في إعلانه رفض القرار الأمريكي، أحسن في التقدم لمجلس الأمن الدولي بشكوى ضد القرار، أحسن في إعلانه إلغاء اللقاء مع نائب الرئيس الأمريكي، كما أحسن في إيقاف أجهزته الأمنية عن التصدي لجموع الشباب والشابات الذين يخوضون المواجهة مع قوات الاحتلال في شوارع المدن والبلدات الفلسطينية. ولكن، لا الرئيس عباس، ولا سلطة الحكم الذاتي، يمكن لهما الاستمرار في سياسة التصدي للسياسات العدوانية الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي في ظل الشروط الراهنة. يعرف عباس أن سلطته رهينة المساعدات الأمريكية ومساعدات الدول الصديقة لواشنطن، العربية منها وغير العربية؛ كما أنها أسيرة التحكم الإسرائيلي في المقدرات المتاحة للسلطة، المالية وغير المالية. ويعرف عباس أن استمراره في التزام موقف متوافق مع موقف شعبه، يعني فرض عقوبات وضعوط باهظة عليه وعلى السلطة. السلطة الفلسطينية لا تستطيع حتى وقف التعاون الأمني مع العدو المحتل. المسألة، باختصار، أن على الرئيس الفلسطيني اليوم، ربما أكثر من أي وقت مضى، أن يدرك أن السلطة أصبحت عبئاً على النضال الوطني الفلسطيني، وليست مكسباً لهذا النضال.

حل سلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية كفيل بتحرير النضال الوطني من أعباء الارتهان للولايات المتحدة وحلفائها، ولحكومة نتنياهو؛ حل السلطة يعني إعادة الصراع إلى قاعدته الأولية البسيطة والواضحة: الشعب في مواجهة الاحتلال. وإن كان البعض لم يعد باستطاعته العيش بدون سلطة، فربما يمكن الانتقال بمؤسسات الحكم الذاتي، أو ما يصلح منها، من رام الله إلى قطاع غزة، الذي هو بالفعل أرض فلسطينية محررة، والمشاركة في الدفاع عن حريته. الاعتقاد بأن ترامب سيتراجع عن قراره ليس سوى وهم. ما تفرضه الوقائع ليس التعلق بأوهام تغيير جزئية في الموقف، بل نقلة كبرى في أهداف المشروع الوطني واستراتيجيته.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 24 / 2176795

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2176795 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40