الخميس 2 أيلول (سبتمبر) 2010

فلسطين : دولة أم دولتان؟

الخميس 2 أيلول (سبتمبر) 2010 par د. يوسف مكي

حين حدث الغزو «الإسرائيلي» لمدينة بيروت في صيف عام 1982، كنت حينها مقيماً بالساحل الغربي الأمريكي، بمدينة سان فرانسيسكو، بعيداً آلاف الأميال عن أرض الوطن الكبير. كانت محطات التلفاز تنقل صور الخراب والدمار، الذي عم المدينة، وكانت بعض صور التصدي البطولي للغزو من قبل المقاومة الفلسطينية الباسلة، تتسلل عبر هذه القنوات التي عرفت بانحيازها المستمر للصهاينة.

كان العجز العربي الرسمي والشعبي، فاضحاً أمام استغاثات أطفال فلسطين. وكان البعض قد انشغل بمباريات كرة القدم، ولم يعد هناك فسحة للتضامن مع المحاصرين. وانتهت الحرب برحيل المقاومين الفلسطينيين من لبنان، وليكون آخر فصل في تلك المواجهة، مجزرة صبرا وشاتيلا، التي بقرت فيها بطون النساء، وشملت قائمة الضحايا أكثر من ألف شهيد، ذنبهم الوحيد أنهم لاجئون فلسطينيون.

ساورني كما ساور كثيرين غيري، شعور بالغثيان والعجز. وكان هذا الحدث بالنسبة لي مدعاة لمراجعة نقدية لقائمة الثوابت، والسياسات والاستراتيجيات التي تبنيناها، نحن العرب، منذ وعد بلفور عام 1917، حتى تلك اللحظة. والسؤال الذي أكد حضوره عبر مسيرة كفاحنا الطويل لانتزاع حقوقنا وتأكيد آدميتنا : أين الخلل؟

هل الخلل في الاستراتيجيات التي تم تبنيها لمواجهة المشروع الصهيوني منذ بداياته، وقد مررنا بمحطات وانتقلنا بمواقفنا واستراتيجياتنا. بمعنى أننا جربنا الحروب ولم نتمكن من تحرير فلسطين، وجربنا التسويات ولم نتمكن من التقدم قيد أنملة على طريق التحرير.

خطر لي في حينه أن شرط تجاوز الخلل يكمن في القراءة الصحيحة للمشروع الصهيوني، لأن التمكن من التشخيص الصحيح للداء، هو الذي يكفل تحديد العلاج. بدت لي القراءات العربية للمشروع الصهيوني، رغم كثافتها، وحتى على الصعيد الرسمي، مسطحة وساكنة وساذجة، ومسكونة بمواريث دينية متزمتة، تضع الحركة الصهيونية، وبرنامجها لحيازة أرض السلام خارج التاريخ. فالقراءة التقليدية الشائعة، وقعت خطأ في حبائل نظرية صراع الحضارات، التي يمثل الصراع بين الأديان أحد تجلياتها. وقد أخذت هذه القراءة حيزاً كبيراً في الإعلام المقروء والمرئي، بعد صعود الإسلام السياسي. ولا تتردد هذه الرؤية عن ربط صراع العرب من أجل وجودهم، بالصراعات المبكرة، في مدينة الرسول يثرب، بين المسلمين واليهود، وإلى المعارك التي دارت مع «بنو القينقاع» و«بنو قريظة». ولعل أفصح تعبير عن هذا الربط في الصراع مع الصهاينة، هو شعار : «خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود»، الذي يجري تداوله كثيراً، بين التيارات السلفية. بل إن هناك من يذهب بعيداً بهذا الصراع، فيتحدث عن مملكة «إسرائيل» الأولى والثانية، وعن الأسر البابلي، ويرى في الصراع على فلسطين، استمراراً لصراع تاريخي، ساد لأكثر من ألفي عام.

هذه القراءة خطرة جداً، لعدة أسباب أهمها أنها تسلم ببعض من القراءة الصهيونية التي تتحدث عن حقوق تاريخية للصهاينة في فلسطين. وهي أيضاً، تعطي مبررات للقول بصراع الحضارات، وتضعنا في الجانب الذي يحرض على الكراهية، وتغيب الطبيعة الحضارية للصراع، الذي رأى فيه العرب، لحقبة طويلة أنه صراع وجود.

قراءة أخرى، ربطت بين الماسونية والصهيونية، واعتبرت الماسونية حركة ممتدة في عمق التاريخ، أوصلتها إلى النبي سليمان وهيكله. وبلغ خيالها حد التصور أن البنائين الذين شيدوا الهيكل، هم مؤسسو هذه الحركة. وأن المؤامرة على العرب والمسلمين، مستمرة منذ تلك الحقبة حتى يومنا هذا، بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، فأشار إلى وجود برنامج معد سلفاً، للتآمر على العرب والمسلمين، يجري تنفيذه بدقة وثبات، وأن الماسونية والصهيونية، تسيطران على مقدرات العالم، وليس لأحد قِبَل بالتعرض لهما.

هذه الرؤية أضيف لها لاحقاً، وثيقة بروتوكولات صهيون. وهي وثيقة لا تختلف في روحها عن ارتباط الصهيونية بالماسونية وسعيهما المشترك للسيطرة على العالم. فمجموعة النصوص التي تضمنتها الوثيقة، تكشف عن «خطة» للسيطرة اليهودية على العالم. ويذكر أن الوثيقة نشرت لأول مرة أثناء ما عرف باستعار العداء للسامية، في ظل الإمبراطورية الروسية. وقد نشرت في صحيفة «زناميا» بمدينة سانت بطرسبرغ عام 1903. وقد شكك كثير من المؤرخين في مصداقية هذه الكتابات، واعتبرت تزويراً أدبياً لكتاب فرنسي قديم.

وموضوع البروتوكولات برمته، لا يصح أن يكون دليلاً لقراءة الحركة الصهيونية، سواء صحت تلك الوثيقة، أم لم تصح. فهي إن كانت مزيفة، فإن ذلك يعفينا من متطلبات الرحلة، وإن كانت صحيحة، فإنها لا تقيم دليلاً على أن ما جرى في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل بسويسرا، وما لحقه، من محاولات لإيجاد وطن قومي لليهود، شكَّل وعد بلفور عام 1917، محطة رئيسية أولى على طريق إنجازه، نقول إن ذلك لا يقيم دليلاً على ارتباط هذه الأحداث مجتمعة، بما فيها استيلاء الصهاينة على فلسطين، بتلك الوثيقة . إن ذلك يعني، إن قبلنا بها، أننا نقرأ الأحداث من خارج التاريخ، وليس من داخله، ونتناسى أن الحراك السياسي والإنساني، ليس له صفة الثبات، وأن السياسات تأخذ مكانها في سياق موضوعي يصنعه التاريخ، وليس بالإمكان فرض قوانين للحركة من خارجها. ذلك هو قانون الجدل، وهو قانون يتضمن الوحدة والتنافر، والترابط، والتضاد.

في السياق التاريخي، لا تختلف الهجرة اليهودية إلى فلسطين عن تلك التي قامت بها طلائع الاستكشاف الاستيطاني الأوروبي، إلى الأمريكتين، وإلى أستراليا، والتي هدفت لاقتلاع السكان الأصليين. لقد اقتضت دواعي الهجرة، وتدشين العالم الجديد، نفي السكان الأصليين، عن طريق إبادتهم، أو استثمار بقيتهم الباقية، كقوة عمل رخيصة توضع في خدمة المشروع الاستيطاني. تكرر هذا النمط من الاحتلال الاستيطاني في الجزائر وجنوب إفريقيا.

كانت حقبة هجمة غربية على شعوب القارات الثلاث : آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقد شهدت نمطين من الاحتلال، احتلال عسكري، يستهدف السطو على الثروات، والمواد الخام، من دون حضور بشري مكثف للوجود الاستعماري. وفي هذا النوع من الاحتلال، لا تكون الهوية الوطنية، ولا وجودها عرضة للتهديد والمسخ، واحتلال عسكري استيطاني، يستهدف إعادة تشكيل ديموغرافي للأرض التي تم إخضاعها، بما في ذلك إذابة الهوية الوطنية للشعب المحتل، ومن أجل ذلك، يقوم بجلب المستوطنين، من مواطنهم الأصلية في أوروبا لتحقيق هدف الإخضاع والتذويب.

هكذا جلب المستوطنون الأوروبيون إلى جنوب إفريقيا، ومارسوا نظام فصل عنصري، كان مثار غضب واستهجان العالم بأسره. وبالمثل، أقيم في الجزائر نظام استيطاني، وأريد للجزائر أن تصبح جزءاً من فرنسا، بما يعني العمل على فرنستها لغة وثقافة، وفي كلتا الحالتين، فشل مشروع الاستيطان، لأن الخلل في التوازن بين السكان الأصليين، الوافدين الجدد، ظل قوياً ومتماسكاً، ولم يتمكن الأوروبيون من تصحيح هذا الخلل، فضلاً عن جعله يميل لمصلحة مشروعهم وهكذا استمر النضال المسلح في الجزائر، للدفاع عن الهوية الوطنية والقومية لشعبها. وفي جنوب إفريقيا قاد المناضل نيلسون مانديلا معركة الدفاع عن الهوية الإفريقية، وناضل من دون هوادة ضد نظام الفصل العنصري في بلاده، حتى تمكن من انتزاع النصر.

نقطة التوازن في كلتا الحالتين : الجزائر وجنوب إفريقيا، هي أن الخلل الديموغرافي استمر لمصلحة السكان الأصليين، بما حفظ الهوية الوطنية من الاندثار.

في فلسطين، كما في أي مشروع احتلالي، أوروبي عنصري، وجد الصهاينة أنه لا بد من أغطية أخلاقية، تغلف مشروع الهيمنة، فعملوا على الحط من الفلسطينيين والعرب، وتعميم نظرة دونية تزدري ثقافاتهم ومعتقداتهم وطرائق تفكيرهم، وتشوه صورتهم، واعتبارهم برابرة يعيشون خارج التاريخ، وبعيداً عن الحضارة. إن هذه النظرة الاستعلائية هي التي تمنح مشروعية لاستهداف أرضهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وممارسة التشريد والإبادة بحقهم.

وقد تأكد للمنظر الصهيوني، أحاد عام، أثناء زيارته لفلسطين، عام 1891 أن الصهاينة يمتهنون الفلسطينيين، ويهدرون حقوقهم، ويعاملونهم بروح العداء، وأنهم يتفاخرون بسلوكهم هذا، ويوجهون المهانة للسكان الأصليين من دون مبرر، واكتشف أيضاً، أن الصهاينة يعتبرون العرب جميعاً وحوشاً يعيشون كالحيوانات، ولا يدركون ما يجري من حولهم. ما علاقة هذا الطرح بعنوان الحديث الذي تصدر هذه المقالة : فلسطين : دولة أم دولتان؟ ذلك ما ستكون لنا معه وقفات في الحديث القادم بإذن الله تعالى.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 75 / 2178711

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2178711 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40