السبت 3 شباط (فبراير) 2018

الانسداد الاستراتيجي في المنطقة العربية

الحسن الزاوي
السبت 3 شباط (فبراير) 2018

يجمع أغلب المراقبين لمسار تطور العلاقات الدولية، على أن هناك انسداداً شبه كامل على مستوى القدرة على إيجاد تفاهمات بشأن الملفات الخلافية على المستويين الإقليمي والدولي، انسداداً يمكن وصفه بأنه استراتيجي، كونه يعكس تصلب مواقف كل الأطراف الفاعلة في المشهد العام، حيث يسعى كل طرف إلى تحقيق مكاسب سياسية على حساب الطرف الآخر، بصرف النظر عن التكلفة الباهظة وعن التأثيرات البالغة السوء لمثل هذه المشاحنات السياسية على الأمن والاستقرار في العالم بشكل عام، وفي المنطقة العربية بشكل خاص، لا سيما بعد أن قامت واشنطن بإطلاق رصاصة الرحمة على مشروع السلام في الشرق الأوسط من جهة، وبعد وصول التسويات السياسية في سوريا إلى مرحلة التآكل الذاتي، في انتظار قيام كل الأطراف بإعادة تجميع قواها تحسباً لمعارك أخرى أكثر تدميراً ودموية من جهة أخرى.
ومن الواضح في كل الأحوال أن الرئيس الأمريكي ترامب، صاحب مبدأ «أمريكا أولاً»، لا يريد إنجاز تسويات ولا قيادة مفاوضات حقيقية، بقدر ما يسعى إلى تحقيق انتصارات دائمة على جميع المستويات سياسياً واقتصادياً وفي مختلف الأمكنة، في فلسطين وسوريا وأوكرانيا وفي غيرها من مناطق العالم. وقد أفصحت إحدى الصحف «الإسرائيلية» مؤخراً، عن بعض ملامح «البرنامج» السياسي لترامب، من خلال تأكيد محللها السياسي وجود مشروع مشترك بين واشنطن وتل أبيب، يهدف إلى إعادة صياغة مسار العولمة الراهن، وفق خطة تفضي إلى تأسيس نظام عالمي جديد بقيادة ترامب ونتنياهو، نظام قائم على سياسة فرض الأمر الواقع استناداً إلى السلطة المطلقة للقوة. ويمكننا أن نلاحظ في السياق نفسه، أنه وبالرغم من أن كل الأطراف الإقليمية باتت منشغلة بمواجهة الصعوبات والتحديات على مستوى جبهتها الداخلية، فإنها مازالت تعبّر عن حرصها في اللحظة نفسها، على ألا تفقد قدرتها على التأثير في الملفات المتعلقة بجوارها الإقليمي، الأمر الذي يجعل الانسداد الاستراتيجي الذي نتحدث عنه، يزداد رسوخاً على امتداد الجغرافيا العربية مشرقاً ومغرباً.
ويمكننا القول عطفاً على ما تقدم، إن سياسة ترامب في المنطقة العربية قائمة بالدرجة الأولى على العمل على إبعاد القوى الإقليمية ، من معادلة الصراع العربي - «الإسرائيلي»،. ومن ثمة فإن ما يعنيها بشكل رئيسي على مستوى الملف السوري، هو مشاغبة روسيا من أجل تحقيق بعض المكاسب السياسية على مستوى الجغرافيا السياسية لمنافسيها الأقوياء في أوراسيا وفي مقدمتهم الصين.
ويؤكد برتراند بادي أستاذ العلاقات الدولية في باريس، في معرض تحليله للتحولات الجيوسياسية الراهنة، أن العلاقات الدولية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المعاناة الإنسانية، لأنها علاقات تأسّست على القهر، وتلخّص مسار تطور قاتم لسيرورة طويلة من علاقات القوة الغاشمة، المبنية على الرغبة في إخضاع الآخر. ويعلق بادي في السياق نفسه على قرار واشنطن الأخير بشأن القدس، بالقول إن ترامب يضع السلم العالمي في مهب الريح، وهو غير معني بممارسة الدبلوماسية على المستوى الدولي، وينصبّ جل اهتمامه على التحدث إلى قاعدته الانتخابية المتخوّفة من الآخر ومن المسار الراهن للعولمة.
وبناءً على ذلك يصل بادي إلى الاستنتاج، أن واشنطن توجد الآن في موقع من يقوم بالاحتجاج، وليس في موقع من يضطلع بمسؤولية قيادة العالم، وبالتالي فعندما تمتلك الدولة التي تقوم بالاحتجاج، أكبر قوة عسكرية في العالم وتنفق نحو 40 في المئة من مجموع الميزانية العالمية المخصصة للدفاع، فإن هذه الوضعية تضاعف بشكل لافت من حجم المخاطر المحدقة بالسلم في العالم. بخاصة أن ترامب ليست لديه استراتيجية معلنة وواضحة المعالم، ولعله الآن بصدد القيام بإرساء قواعد سلوك سياسي على مستوى العلاقات الدولية، قائم على المناكفة، وعلى فرض تصوراته ورغباته على الآخرين. ويؤكد بادي في الأخير أن الرئيس الأمريكي سعى من خلال قراره بشأن القدس، إلى توجيه إهانة إلى الفلسطينيين وإلى كل الشعوب العربية والإسلامية.
تدفعنا كل هذه التطورات المتلاحقة إلى القول، إن الانسداد الاستراتيجي الذي تواجهه المنطقة العربية الآن، لن يقف عند مستوياته الحالية، لأن واشنطن تسعى على المدى المنظور إلى توسيع نطاق المواجهة الشاملة مع روسيا والصين نحو مناطق أخرى في الوطن العربي، كما أنها لا تبدو معنية في اللحظة نفسها باحترام مناطق نفوذ حلفائها الأوروبيين. وهي تبدو حالياً معزولة أكثر من أي وقت مضى عن العالم وعن فضائها الجيوسياسي، لأنها لا تقبل الاعتراف باستقلالية الاتحاد الأوروبي، وتسعى إلى إضعاف السيطرة الألمانية على مؤسساته.
ونزعم في هذه العجالة، أن هذا الانسداد يرمز في واقع الأمر إلى تخبط كبير في الاستراتيجية الأمريكية التي لم تعد ترغب في الانعزال في حدودها بعيداً عن العالم الأوروبي وفقاً لمبدأ مونرو، بل تسعى لأن تحوّل عزلتها عن محيطها الغربي وعن قرارات الشرعية الدولية إلى عزلة داخل هذا العالم. ظناً منها أنها مازالت تحتكر لصالحها كل الأوراق الضرورية التي تسمح لها بحمل العالم على الخضوع لإرادتها، التي ترى بموجبها أن العولمة، إما أن تكون أمريكية بالكامل، وإما ألا تكون، ونتيجة لذلك فقد استقر رأي رئيسها على ألا تكون القدس مستقبلاً جزءاً من المفاوضات ما بين «إسرائيل» وجيرانها العرب !



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2165388

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165388 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010