الأحد 5 أيلول (سبتمبر) 2010

«رحلة» بلير في مذكرات ... (الحلقة الرابعة)

الأحد 5 أيلول (سبتمبر) 2010

[**رجل يجمع حوله المتناقضات*]

توني بلير رجل محظوظ وبوسعه أن يقيم الدنيا ويقعدها سواء أكان الزعيم العمالي داخل «عشرة داوننغ ستريت» أم خارج هذا المبنى الشهير. فبعد أكثر من ثلاثة أيام على صدور كتابه لايزال حديث الناس هنا وفي خارج بريطانيا، برغم أنه بعيد حالياً عن السلطة وبريقها، وكذلك بوسعه تحقيق الثراء الكبير. ويؤدي هذا إلى الجدل الواسع حول كتابه الذي يصفه بأنه ليس كتابة للتاريخ، ولكن انطباعات إنسانية ولمحة عن شخصيته خلال رحلته السياسية. وقد ساعده على تحقيق النجاح في انتشار هذا الكتاب أسلوبه السهل وقدراته البلاغية، وإصراره على أن يتولى هو بنفسه تحرير كل صفحة من هذه المذكرات. ومن الواضح أن الكتاب يلقى رواجاً أيضاً في أمريكا التي ربما تعجب به على نحو أكبر من بريطانيا، ولذلك فإنه كان يفكر في الانتقال للإقامة الدائمة هناك، حيث ينظر إليه فيها على أنه «بطل تاريخي». وفي طبعة الكتاب الأمريكية يقول بلير إنها «رسالة غرام» للولايات المتحدة الأمريكية، حيث إنه مفتون بهذه البلاد وزعمائها الذين يلقون دائماً الثناء والإطراء منه، خاصة جورج بوش «توأم روحه» كما يقول. والملاحظ أنه لا يبدي مثل هذه الإشادة بزعامة آخرين في العالم، وخاصة من اختلف معهم خلال غزو العراق مثل الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك.

[**العمل العسكري كان ضرورياً للتخلص من صدام حسين*]

بالرغم من تعرض توني بلير لإلقاء الأحذية وضربه بالبيض أثناء توقيعه على نسخ من مذكراته «رحلة» في إحدى مكتبات مدينة دبلن، إلا أن المئات تجمعوا أيضاً لمقابلته هناك لشراء كتابه، وقد واجه رئيس الوزراء السابق عاصفة من الهتافات المعادية التي اتهتمه بأنه «مجرم حرب»، وكذلك بأن «يديه ملطختان بالدماء»، وكانت الشرطة الإيرلندية قد فرضت نطاقاً أمنياً كبيراً حول بلير تحسباً لمثل هذه التظاهرات، رغم المطر الغزير في العاصمة الإيرلندية، واضطرت بلدية المدينة أيضاً إلى وقف حركة شبكة الترام هناك في محاولة للحد من الزحام. ولكن بالرغم من هذه المعارضة الشديدة من جانب الجماعات المناهضة للحرب والتي تستنكر بالذات غزو العراق، إلا أن عدداً كبيراً من المعجبين ببلير كانوا قد حرصوا على مقابلته وذلك للإشادة بدوره في إقرار السلام في إيرلندا الشمالية، وهو إنجاز تاريخي عظيم، وهكذا بلير رجل يجمع حوله المتناقضات، فهناك المعجبون العديدون، وكذلك الساخطون على سياساته المثيرة للجدل وميله لخوض الحروب.

وفي الفصل الخاص بالعراق والعد التنازلي للحرب يحاول بلير أن يقدم للقارئ شرحاً واسعاً من وجهة نظره للقرار الخاص بمشاركة بريطانيا في العمل العسكري في العراق. ويحرص بلير بالتأكيد على مكانته التاريخية، وكذلك إرثه بعد أكثر من عقد كامل من الزمان في الحكم، وهو يتذكر دائماً أنه الزعيم العمالي الوحيد الذي تمكن من تحقيق النصر لحزبه في الانتخابات العامة لثلاث مرات متتالية، وهو أمر لم يحدث مطلقاً في تاريخ الحياة السياسية في بريطانيا من قبل.

ويقول بلير إنه يدرك أن هناك الكثيرين الذين يعارضون الحرب، ويقفون ضد سياساته هو وصديقه الكبير الرئيس السابق بوش بالنسبة للعراق، ويوضح أنه لن يتمكن من أن يقنعهم بسلامة قرار الحرب بسبب مواقفهم المبدئية، ولكنه لايزال يصر على أن العمل العسكري كان أمراً ضرورياً للتخلص من صدام حسين وحكمه، بالرغم من عدم العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق، وهي كانت المبرر لقرار الغزو، ويؤكد بلير على أن صدام كان لا يزال مصراً على تطوير الأسلحة النووية بالرغم من عدم امتلاكه لها، وكان يجمع المعلومات والأسرار الخاصة للحصول على هذه المقدرة النووية. ولكن عباراته مثيرة عندما يقول حرفياً «إنني لم أتخيل مطلقاً الكابوس الذي وقع بعد الغزو وبعد سقوط النظام السابق». وهو يقر بأن هذا كان يعتبر جزءاً من مسؤوليته. ولكن الإعراب عن الأسف والاعتذار هو أمر ينتمي إلى الماضي من وجهة نظره، والأهم هو الإحساس بالمسؤولية، لأن هذا هو الأمر الواقع والمستقبلي، كلام فلسفي وجدل عقيم يبدو أن رئيس الوزراء السابق يلجأ إليه في محاولة للدفاع المستميت عن موقفه.

ويقول معلقون إنه لو اعترف بذنبه بالنسبة للعراق فإن ذلك قد يشجع هؤلاء الذين يطالبون بمحاكمته «كمجرم حرب»، وهذا ما طالب به بعض المتظاهرين أمس (السبت) في دبلن.

وفي نبرة ندم يقول بلير «إنني أفكر في العراق وأفغانستان والضحايا الذين سقطوا في البلدين يومياً». ويشدد على أنه يكرس جزءاً كبيراً من حياته الآن من أجل العمل على تحمل مسؤوليته في إقرار الأمن وتوفير السلام في ربوع هذه المناطق من العالم. وهذا هو ما دفعه فعلاً إلى قبول منصب مبعوث اللجنة الرباعية في «الشرق الأوسط». بالرغم من أن المنتقدين له يقولون إن دوره في هذه اللجنة لم يسفر عن تحقيق أي تقدم في المنطقة. ويشير إلى أن المشكلة أيضاً بالنسبة للجدل القائم حول العراق أن الناس قد توقفت عن الإصغاء لوجهة نظر الطرف الآخر في الحوار، وخاصة أن كل طرف قد تشبّث برأيه. ويعترف بأن الأحداث التي تلت الإطاحة بصدام كانت “دموية” ومدمرة ومثيرة للفوضى.

ولكنه يستدرك أنه «لو كنا قد عثرنا على أسلحة الدمار الشامل لكانت وجهات المعارضين للحرب ستكون مختلفة». وفي رأيه أنه لن يسعى منذ الآن إلى إقناع القارئ بمدى صواب قرار الحرب، ولكن أن يدرك أن المعلومات الخاصة بأسلحة الدمار ثبت عدم صحتها، ومع ذلك فإن السؤال هو لماذا رفض صدام السماح لمفتشي الأسلحة القيام بعملهم لمدة طويلة، وحتى بعد دخولهم إلى العراق لماذا لجأ إلى عرقلة حركتهم؟ ويمضي بلير في سرد وقائع عديدة معروفة للقارئ حول تاريخ صدام المراوغ والدموي، وكيف سفك دماء الآلاف من العراقيين، وكذلك تأثير العقوبات التي فرضت عليه، وكيف سعى إلى الحصول على السلاح بالرغم من ذلك. ويتحدث بلير بعد ذلك عن تأثير أحداث 11 سبتمبر (أيلول) على تفكيره بعد تلك الأعمال «الإرهابية» التي أدت إلى مصرع الآلاف من الأبرياء في أمريكا. ويقول إن العالم بعدها لم يكن مستعداً لتحمل أخطار جديدة، وخاصة من جانب الجماعات «الإرهابية» التي كانت تسعى إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل، ويشير أيضاً إلى الدول «المارقة» التي كانت تسعى إلى قيام تحالف مع الجماعات «الإرهابية». وهنا يقول «ينبغي النظر إلى «الشرق الأوسط» كمنطقة تتشابك فيها المشكلات ويمثل التحدي الرئيس فيها إمكانية حدوث تطوير وأساليب عصرية بسبب الأوضاع المسمومة فيها، وكذلك بسبب خطر التطرف الإسلامي». ويقول إن الأوضاع هناك أصبحت أكثر تعقيداً بسبب مواقف «إسرائيل» ولكنه لم يستطرد في ذلك.

ويزعم بلير أن دول المنطقة أخذت تتعلل بوجود «إسرائيل» لتوحيد صفوف شعبها. ويزعم بأن دول المنطقة قد تكن الكراهية ضد «إسرائيل»، ولكنها لم تكن تخشاها مطلقاً .. مرة أخرى توهيمات وأفكار فلسفية ليست مقنعة. ويشير بعد ذلك إلى خطاب بوش الشهير حول «محور الشر» وذلك في يناير (كانون الثاني) من عام 2002، وربط بوش فيه بين إيران والعراق وسوريا وكوريا الشمالية.

وكان بوش يوضح من خلال ذلك، كما يقول بلير، أن أمريكا كانت قد عقدت العزم على تغيير العالم وليس فقط قيادته وأنه مصرّ على ذلك حتى ولو من خلال اللجوء إلى استخدام القوة، كما حدث عندئذ في أفغانستان.

ويقول بلير إنه اتفق بعد ذلك مع بوش على تحليله حول واقع الحال في العالم، ولكن الرئيس الأمريكي كان ينطلق في ذلك من وجهة نظر محافظة، بينما كان رئيس الوزراء السابق، كما يوضح، ينطلق في هذا التحليل من وجهة نظر «تقدمية».

وحول العبر المستخلصة من حرب العراق يقول بلير : إن النفسية الغربية تحبذ أن «تكون معاركنا قصيرة الأمد وناجحة بسرعة، وأنه إذا ما اتضح أنها دموية وطويلة الأمد، فإن عزيمتنا ستتخاذل». ويدافع مرة أخرى عن الغزو بالقول إن العراق لم تكن مثل السويس، عندما تواطأت بريطانيا وفرنسا و«إسرائيل» على غزو قناة السويس ضد إرادة ورغبة أمريكا. ويقر أن الدول الثلاث أخفقت عندئذ في الإطاحة بحكم الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر. وينوه هنا بتأثير غزو العراق على دول أخرى مثل ليبيا عندما بدأت مفاوضاتها من أجل التخلص من برنامجها النووي والكيماوي، وفي النهاية تخلصت فعلاً من هذه الأسلحة، وكان هناك أيضاً تأثير على سياسة إيران بعد غزو أفغانستان والعراق، ففي أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2003 عادت إيران إلى مائدة التفاوض حول برنامجها النووي للمرة الأولى منذ أغسطس (آب) عام 2002. وحول الاستعداد للحرب يقول بلير إن أمريكا بدأت منذ أحداث 11 سبتمبر «الإرهابية» في تغيير نظرتها للعالم على نحو جذري وأساسي، وخاصة بالنسبة للدول التي ترعى المنظمات «الإرهابية». ويتحدث عن لقائه الأول مع بوش في فبراير (شباط) من عام 2001 في كامب ديفيد ويقول : إن موضوع العراق قد أثير في إطار القرار الجديد للعقوبات، ولكن لم يكن هناك إحساس بالحاجة إلى اتخاذ قرارات سريعة. وكان بوش قد عقد العزم على بناء قوة كبيرة ذات اتجاهات يمينية في أمريكا تكون قادرة على أن تدعمه خلال فترة حكمه، وكان كذلك قد ركز على الشؤون الداخلية مثل إصلاح النظام الضريبي. ويقول بلير إنه كان قد توصل إلى نوع من الفهم لموقف بوش، ولكن كانت هناك بعض التحفظات من جانبه». وعلى العكس من ذلك فإن زوجته السيدة شيري كانت قد توصلت إلى نوع من الفهم والتناغم مع السيدة لورا زوجة بوش على الفور بالمقارنة إلى موقفه الأول من بوش. ويقول إن بوش يتمتع بروح الدعابة وكان يبدو متواضعاً ومستعداً للتهكم على نفسه بطريقة جذابة، ولكن الحقيقة ظلت وهي أنه زعيم محافظ وأنا رجل تقدمي.

ولم تكن هناك قضايا اجتماعية عديدة نتفق حولها، ويلاحظ بلير أن بوش شخصية مختلفة جداً عن صديقه القديم الرئيس السابق بيل كلينتون، وبالرغم من ذلك فإنه يقول إن بوش لم يكن غبياً كما يصوره البعض، بل كان زعيماً يتمتع بالذكاء.

ويمضي في شرحه لملامح شخصية بوش فيقول : إن نظرته للعالم كانت تتميز «بالبساطة الشديدة»، فإما أن يكون العالم صائباً أو مليئاً بالأخطاء. ويعيد القول بأن بوش كان شخصاً مختلفاً تماماً عن كلينتون. إلا أنه كان رجلاً صلباً وواضحاً في نظرته للأمور، وكان يعرف على وجه التحديد ما يريده. وكان بلير يستعد خلال تلك الزيارة لإجراء انتخابات عام 2001 التي فاز العمال فيها من جديد. ويعطي بلير للقارئ وصفاً شاعرياً حول منتجع كامب ديفيد ويقول إنه كان معجباً بالمكان، وكانت هناك غابات من حوله وطرق عديدة لمن يريد ممارسة رياضة المشي والاسترخاء. ويشرح بلير للمرة الأولى بصراحة أنه كان قد توصل إلى قناعة عندئذ بأن التخلص من حكم صدام سيكون «مصدر خير للعالم وخاصة للشعب العراقي» إلا أنه يشير إلى مربط الفرس هنا وهو أن سياسة بريطانيا الرسمية لم تكن توافق على تغيير النظام، لأن هذا سيكون ضد مبادئ القانون الدولي، ولذلك فإن بلير توصل إلى قناعة بأنه ليس من الممكن تغيير هذه السياسة للإطاحة بصدام إلا من خلال ضرورة التزامه بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة. ويقول إنه لم يكن من وجهة نظر بريطانيا أن تتم الموافقة على التخلص من حكم صدام، لأنه طاغية فقط، حيث إن الخبراء القانونيون في بريطانيا كانوا يعارضون فكرة تغيير الأنظمة بالقوة.

وينفي هنا ما زعمه السفير البريطاني في أمريكا في ذلك الوقت السير كريستوفر مائير الذي قال إن بلير «تعهد بالدم» أن يؤيد بوش في حملته للإطاحة بصدام وذلك خلال اجتماعهما بعد ذلك في مزرعة الرئيس الأمريكي في كروفورد. ويؤكد بلير أن مائير لم يكن موجوداً على الإطلاق خلال تلك القمة، ولم يكن حتى في المبنى نفسه الذي عقدت فيه الاجتماعات. وينفي أنه قدم مثل هذا الالتزام وأكد عندئذ ضرورة اللجوء إلى الأمم المتحدة، إلا أنه يوضح أنه كان جلياً بالنسبة لأمرين : أولهما أن يلزم صدام بقرارات الأمم المتحدة، وينبغي عدم لجوئه إلى التسويف والمماطلة، والأمر الثاني أن بريطانيا «ستقف جنباً إلى جنب مع أمريكا»، ولكنه يقول إنه لم يكن يقصد بذلك أن تضحي بريطانيا بمصالحها القومية من أجل عيون أمريكا، أو تصبح السياسة الخارجية البريطانية تابعة لأمريكا. ولكن معنى ما يقصده كان أن التحالف بين البلدين «مصلحة استراتيجية حيوية، وكذلك رصيداً استراتيجياً لبريطانيا» وكذلك فإن معنى ذلك أن أي اعتداء على بريطانيا كان سيصبح أيضاً اعتداء على الولايات المتحدة الأمريكية.

ويروي لنا بلير في الفصل التالي المزيد من التفاصيل حول بلورة الموقف البريطاني الأمريكي عن العراق، وقرار الغزو وملابساته وبداية العمل العسكري.

- **المصدر : صحيفة «الخليج» الاماراتية


titre documents joints

«رحلة» بلير في مذكراته ... (الحلقة الثالثة)

5 أيلول (سبتمبر) 2010
info document : HTML
55 كيلوبايت


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2165635

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165635 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010