الأربعاء 8 أيلول (سبتمبر) 2010

كرنفال احتفالي واستنساخ المكرر عبر السنين

الأربعاء 8 أيلول (سبتمبر) 2010 par علي بدوان

افتتحت أعمال المفاوضات المباشرة بين الطرفين الرسميين «الفلسطيني» و«الإسرائيلي» في واشنطن بمهرجان احتفالي أعاد ذاكرتنا إلى المهرجان الاحتفالي الذي شهدته أعمال افتتاح مؤتمر (أنابوليس) للسلام في «الشرق الوسط» قبل ثلاثة أعوام، والذي حشدت له الإدارة الأميركية السابقة كل أسباب الاهتمام ولفت الانتباه (والبهرجة الإعلامية)، حين اندفع الرئيس الأميركي السابق (جورج بوش الابن) لترتيب المؤتمر في سياقات معروفة لأغراض سياسية في حينها، أراد من خلالها إعادة تلميع صورته، وصورة حزبه الجمهوري، وتصديرها للناخب الأميركي ولجمهور المصوتين، على أبواب المعركة الانتخابية للرئاسة الأميركية، والتي كانت قاب قوسين.

وكما بدا مؤتمر (أنابوليس) بكلمات وعبارات، وألفاظ وجمل متفائلة لا رصيد لها على أرض الواقع، انتهى دون أن يزرع أو أن يدق (طوبة) واحدة في بناء «السلام والتسوية الحقيقية» في «الشرق الأوسط». بل وأرتدت الأمور إلى الوراء أكثر فأكثر، وغاصت المنطقة وعملية «التسوية» من جديد في أوحال التعنت «الإسرائيلي»، وعلى هدير أصوات طائرات جيش الاحتلال في قصفها المجنون والمرعب لقطاع غزة، وتحت وقع أصوات بلدوزرات جيش الاحتلال التي استهدفت الحجر والشجر والبشر في عموم الأرض الفلسطينية المحتلة وخصوصاً منها في منطقة القدس، داخل المدينة، في أحيائها العربية، الإسلامية والمسيحية، وفي النطاق المحيط بها.

فمهرجان واشنطن في الانطلاقة المستنسخة للمفاوضات المباشرة، يحاكي في شكله ومضمونه ما جرى في مؤتمر (أنابوليس) بالرغم من تعالي الأصوات التي تحدثت عن قوة الدفع الأميركية التي وضعتها واشنطن والرئيس باراك أوباما شخصياً على سكة تنشيط جهودها على المسار التفاوضي «الفلسطيني - الإسرائيلي».

فهل جاءت مفاوضات واشنطن تحمل الجديد بالفعل، أم أنها جاءت مفاوضات مستنسخة لا تحمل في أحشائها أية علامة من علامات المخاض لولادة «تسوية» حقيقية عمادها الشرعية الدولية...؟

[**غياب المرجعية والمظلة الدولية*]

لقد بدأت مقدمات التهيئة للمفاوضات المباشرة بشكل غير مبشّر، فقد بدأ الإعداد والتحضير لها بضغوط أميركية متواصلة لدفع «الرئيس» محمود عبّاس للعودة إلى طاولة المفاوضات المباشرة، وهي ضغوط كانت ومازالت ملحوظة، وأعترف بها «الرئيس» محمود عبّاس نفسه، حين قال بأن «الضغوط عليه مستمرة»، وأن كل اتصال هاتفي يتلقاه من واشنطن وغير واشنطن هو «بمثابة ضغط لا يحتمل» على حد تعبيره. بل وأفصح عبّاس عن ذلك في الاجتماع الأخير للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، حين عرض آخر رسالة تلقاها من الرئيس الأميركي باراك اوباما عبر مبعوثه جورج ميتشل، وفيها الكثير من المضامين التي تحمل لغة التهديد والوعيد. وهو ما أكد عليه بعض أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أشار بعضهم إلى ان الرئيس أوباما بعث في السادس عشر من يوليو الماضي برسالة إلى «الرئيس» محمود عبّاس يحذره فيها من أن «عدم استئناف المفاوضات المباشرة مع «إسرائيل» يهدد علاقة واشنطن بـ «السلطة الوطنية الفلسطينية»». وأضاف أحد أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة بأن رسالة الرئيس أوباما إلى عبّاس تضمنت (16) نقطة راوحت بين التهديد والترغيب واعتمدت مقاربة «العصا والجزرة».

وأكثر من ذلك، فقد كشف عبد الرحيم ملوح عضو اللجنة التنفيذية ونائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عن قيام ديفيد هيل مساعد المبعوث الأميركي للسلام جورج ميتشل بزيارة رام الله قبل الاجتماع ما قبل الأخير اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وبساعات قليلة، حيث قدم خلال اجتماعه بالقيادة الفلسطينية خيارات قاسية حال اختيار عدم الذهاب للمفاوضات المباشرة.

وبناء على تلك المقدمات، انتهت أعمال كل من الحفل الافتتاحي، والجولة الأولى من المفاوضات المباشرة في واشنطن بين الطرفين «الفلسطيني» الرسمي و«الإسرائيلي» الصهيوني كما هو متوقع. فقد كان الحفل الافتتاحي ليس أكثر من (كرنفال) دعاوي وإعلامي، أرادت من خلاله الإدارة الأميركية تسويق سياساتها وجني المكاسب المختلفة من وراء إطلاق العملية التفاوضية المختلة أصلاً، إضافة لخلق انطباع عام لدى الرأي العام في الداخل الأميركي وحتى في العالم بأسره بأن الأمور تسير على ما يرام بالنسبة لما يسمى عملية «التسوية» في «الشرق الأوسط»، خصوصاً في ظل المتاعب الهائلة التي باتت تعانيها إدارة الرئيس باراك أوباما جراء فشل المعالجات السياسية الخارجية الأميركية في أكثر من موقع من المواقع الساخنة فوق المعمورة من أفغانستان إلى العراق إلى إيران ...

فالإدارة الأميركية، كانت تريد بدء انطلاق عملية المفاوضات المباشرة في مسارها الجديد في منتجع شرم الشيخ المصري على ساحل البحر الأحمر، لكنها عدلت عن فكرتها واختارت الانطلاقة من واشنطن، من أجل تثميرها على المستوى الداخلي الأميركي من جانب، وتصدير انطباع ايجابي عام تحت عنوان تقديم «زخم للمفاوضات» ودعماً لها باعتبار أميركا هي الراعي لعملية السلام وهي فقط التي يجب أن تتحمل مسؤوليتها تجاهها من جانب آخر.

وعليه، فقد انطلقت العملية التفاوضية في واشنطن، تحت الضغط، والاملاءات والشروط التي وضعها بنيامين نتانياهو ومن خلفه الإدارة الأميركية، ودون الاتفاق على مرجعية دولية، ودون رقابة دولية على الطاولة مع استبعاد الأطراف الدولية المؤثرة وخصوصاً منها روسيا ودول الاتحاد الأوربي (التي تحولت إلى دول ممولة مانحة فقط ودون دور سياسي لها)، ودون الوقف الكامل لأعمال التهويد والاستيطان الجارية على قدم وساق في القدس والضفة الغربية، ودون سقف زمني، ودون فك الحصار عن قطاع غزة... الخ

كما انطلقت مبنية على أجندة «إسرائيلية» بمباركة أميركية بدأت بالتركيز على الترتيبات الأمنية أولاً والتي تخص دولة الاحتلال، مع استثناء القضايا الجوهرية كالحدود واللاجئين والقدس والاستيطان والمياه باعتبارها قضايا خلافية تجري معالجتها على المدى الطويل (أو بالأحرى يجري تمييعها على المدى الطويل) في سياق البحث عن اتفاق إطار تستخدمه «إسرائيل» مظلة لمواصلة سياستها العدوانية الاستيطانية التوسعية وسياسة التهويد والفصل العنصري، التي تمارسها في محافظة ومدينة القدس وفي مناطق الأغوار الفلسطينية المتاخمة على طول حدود فلسطين مع الأردن بشكل خاص، وما تسميه بالكتل الاستيطانية في بقية محافظات الضفة الغربية بشكل عام.

فالمخاطر الكبرى التي بانت على طاولة واشنطن للمفاوضات المباشرة، تكمن في غياب المرجعية التفاوضية، واعتبار نتائج التفاوض وما يتفق عليه بمثابة (الحل) المطلوب، وبالتالي فرض أجندة «إسرائيلية» على المفاوضات بالتواطؤ بين الإدارتين الأميركية و«الإسرائيلية»، تستهدف التوصل خلال عام واحد إلى (ترتيبات أمنية) و(اتفاق إطار) يبدأ بتسوية انتقالية ودولة (عملياً كيان هزيل) ذي حدود مؤقته هو في الجوهر (محمية) تحت السيطرة «الإسرائيلية» المطلقة ودون تواصل مع أي بقعة أرض عربية مجاورة، وتحديداً مع الأردن. مع تجاهل تهويد المدينة المقدسة، حيث تعمل «إسرائيل» على تنفيذ ما يُعرف بـ (مخطط القدس 2020) الذي يجري العمل على تطبيقه، والمتوقع له أن يحوّل القدس إلى مدينة يهودية خالصة، مما يجعل من المســتحيل أن تصبح المدينة عاصمة للدولة الفلسطينية. فمن بين الأشياء التي تريدها «إسرائيل» في المفاوضات المباشرة الراهنة، هو البحث عن غطاء جديد لتواصل مخططاتها بهدوء، كما فعلت بعد اتفاق أوسلو.

[**الانقسام الفلسطيني والضعف العربي*]

إن المعلومات المؤكدة التي بدأت تتسرب من مبنى وزارة الخارجية الأميركية، وعلى لسان العديد من المسؤولين «الإسرائيليين»، أشارت وبشكل شبه قاطع إلى أن الجولة الأولى من المفاوضات التي انتهت قبل أيام، كان الفلسطينيون هم الخاسر الرئيسي فيها، حين تم الاتفاق على أن يكون موضوع الأمن أول موضوع يجري بحثه تمهيداً للتوصل إلى اتفاق الإطار بين الجانبين، واستمرار الرفض «الإسرائيلي» لوقف عمليات التهويد والاستيطان، كما أعاد الطرف «الإسرائيلي» طرح أفكاره (القديمة - الجديدة) في استنساخ مكرر من المواقف المعروفة التي تتمحور حولها الرؤية الصهيونية لـ «التسوية» المتلحفة بالغطاء والدعم الأميركي المطلق، وهو ما بدا واضحاً في الخطاب الافتتاحي في مبنى الخارجية الأميركية والذي تلته الوزيرة هيلاري كلينتون، وفي كلمة رئيس وزراء «الإسرائيلي»، الذي دعا «الرئيس الفلسطيني» محمود عبّاس لاعتراف متبادل جديد يقر الفلسطينيون بـ «يهودية إسرائيل» على أساس أنها «الوطن القومي التاريخي لليهود» وهي صيغة يراد بها شطب ذاكرة الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية، كما يراد بها منه تناسي تشريده من موطنه والاستيلاء على أرضه وممتلكاته وتعرضه لأكبر عملية منظمة للتطهير العرقي في التاريخ الحديث إبان نكبة 1948 وعدوان حزيران 1967، واعتبار ما حدث في العام 1948 شيئاً قد انتهى وأمسى من الماضي، وبالتالي الحصول على إقرار رسمي فلسطيني بإسقاط حق العودة الذي يشكل جوهر القضية الفلسطينية.

ومن الواضح، أن الطرف الرسمي الفلسطيني ذهب للعملية التفاوضية ضعيفاً، في ظل حالة الترهل العربية على مستوياتها الرسمية، والتي عملت على التملص من تحديد مواقف عربية حازمة في إطار لجنة المتابعة العربية. كما ذهب ضعيفاً دون تفويض فلسطيني كامل من هيئات ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية. فقد رفضت غالبية قوى وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية العودة إلى طاولة المفاوضات المباشرة، إضافة لمواقف قوى وفصائل المعارضة المختلفة. في هذا السياق، فان موقفاً فلسطينياً جماعياً بات يحظى بتوافق عال بين كل القوى والفصائل برفض العودة إلى طاولة المفوضات المباشرة. ففي اجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الأخير، فان الإشارات الأولية للنقاشات الدائرة بين أعضاء اللجنة التنفيذية أشارت إلى رفض الأغلبية الساحقة التوجه إلى المفاوضات المباشرة.

فيما أعلنت في فلسطين والشتات أكثر من ستمائة شخصية وطنية فلسطينية مستقلة، ومعها أربع قوى سياسية فلسطينية من فصائل المنظمة، رفضها العودة الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات المباشرة. كما دعت لإفشال الضغوط الأميركية والصمود في مواجهتها، كما أعلنت تلك القوى وجمهور الموقعين من الشخصيات الفلسطينية، بأن الذهاب إلى المفاوضات المباشرة والاستجابة للضغوط الظالمة سيؤدي إلى الدخول في مفاوضات وفقاً للشروط «الإسرائيلية» وهو أمر سيلحق أضراراً بالغة بالشعب الفلسطيني، وقد يؤدي إلى مخاطر كبرى فيما ستستغل «إسرائيل» ذلك للتغطية على ممارساتها الرامية لتهويد «أسرلة» القدس، وتسريع الاستيطان واستكمال جدار الضم والتوسع العنصري ونظام المعازل، واستمرار الحصار الخانق على قطاع غزة، كما والتغطية على تنفيذ المخططات العدوانية «الإسرائيلية» ضد أطراف عدة في المنطقة، وستؤدي كذلك إلى إنقاذ «إسرائيل» من حملة الإدانة والمقاطعة الدولية التي تزداد نشاطاً عبر قوى التضامن الشعبي الدولي.

ومن هنا فان الطرف الرسمي «الفلسطيني»، يحصد الآن في إطار العودة لطاولة المفاوضات المباشرة ناتجاً سلبياً جراء ذهابه المنفرد لعملية المفاوضات في أسانيد الضعف العربي والانقسام الفلسطيني، فظل الترهل العربي على المستوى الرسمي من جهة والانقسام الفلسطيني المستفحل من جهة ثانية، وقد وضع نفسه في موقف صعب، تحت مطرقة الضغط الأميركي وسندان الاحتلال، ليدخل القضية الفلسطينية في دوامة جديدة من الضغوط المسلطة عليه لجره نحو مربع التسوية الأميركية «الإسرائيلية»، في مفاوضات تتم انطلاقاً من الشروط الصهيونية والأميركية.

وفي هذه الحال من الواقع الذي بادر فيه الطرف الرسمي «الفلسطيني» للعودة إلى طاولة المفاوضات المباشرة تحت وقع الاستجابة للضغوط الأميركية وحتى الإقليمية من قبل بعض الأطراف المعروفة، فان المتاعب الكبرى، بما فيها لعبة الضغوط والشد والاسترخاء، ستعود هذه المرة إلى ساحة العملية السياسية، وسيكون الفلسطينيون أول ضحاياها، وأول من يسدد فواتيرها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 7 / 2177657

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

32 من الزوار الآن

2177657 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 24


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40