الأحد 12 أيلول (سبتمبر) 2010

مراجعة تسووية وإبداع تصفوي

الأحد 12 أيلول (سبتمبر) 2010 par عبداللطيف مهنا

من آخر المفارقات الملازمة للمسيرة التصفوية للقضية الفلسطينية الدائرة منذ ما يقارب الحولين وما أفضت إليه، والذي يصب مائة في المائة لصالح «إسرائيل» ويحقق لها كل ما أرادته منها، أن يقف بنيامين نتنياهو، وقد عاد غانماً من احتفالية واشنطن السلامية، ليدعو إلى «استخلاص الدروس من مسيرة التفاوض التي مضى عليها سبعة عشر عاماً»...

مبعث المفارقة هنا هو في أن الطرف الرابح الوحيد لا المقابل الخاسر دائماً، والذي استطاع أن يوظف هذه المسيرة وأن يستثمرها لصالحه وحده، ويبني مواقفه المستقبلية ويطورها استناداً إلى وفير ما جناه من حصادها، هو من يدعو اليوم إلى مراجعتها... مراجعتها، التي هي عنده تأتي استعداداً لما يريده آخر مواسمها، أو ما يعني وضع اللمسات الأخيرة للعملية التصفوية بإعلان النهاية «الإسرائيلية» المرغوبة للقضية الفلسطينية، أو مسك الختام بالنسبة لكل ما كان يدعى الصراع العربي الصهيوني...

كان المنطق، إذا ما جاز لنا إقحامه في مثل حالة الانحدار العربي الراهنة، التي لا تخضع للمنطق أو تنتمي إلى المعقول، وتفصيلها الفلسطيني البائس، يقول بأن العرب والفلسطينيين هم الأولى من نتنياهو بمراجعة هذه المسيرة الكارثية فادحة الكلفة وخطيرة التداعيات، وأقلها أنها تقود إلى شطب أعدل قضية عرفها التاريخ، بالتنازل عن حقوق شعب يقدم يومياً باهظ التضحيات مصراً على صونها، أو الموافقة نيابة عنه على ما يرقى إلى تصفية وجوده المادي والمعنوي الناجمة عن مصادرة وطنه. وأخيراً، ووفق منطق المسار الجاري الذي تلوح نتائج مقدماته سلفاً، كل ما يتضمنه جوهر الاعتراف بما يدعى يهودية الدولة... والتي لا تعني سوى مطالبة الضحية بالتسليم بكل ما اقترفه الجلاد وحتى الاعتذار له على تسببها له بعناء ذبحها...

إنه لا حاجة إلى التأكيد على أن ما ربحه «الإسرائيلي» الداعي للمراجعة هو تماماً ما خسره الطرف العربي الغارق في عجزه والمتشبث بمقولة «السلام خياراً استراتيجياً وحيداً»، وأوسلويوه الذين يطبقون هذا الخيار بجدارة وعلى مذهب «المفاوضات حياة»... ما الذي ربحه «الإسرائيلي» وبالتالي خسره العرب؟

أولاً، بدأت هذه المسيرة بالاعتراف به والتنازل له عن كل ما كان قد اغتصبه من فلسطين إثر النكبة، أو المحتل في العام 1948 منها، أي 78% من فلسطين التاريخية، واعتبار الباقي الذي احتل بعد النكسة، أو في العام 1967، مجرد أراض متنازع عليها طرحتها اتفاقية أوسلو في بازار المساومة، وألقتها تحت طائلة غوائل موازين القوى المختلة، بمعنى جعلها، في ظل روح الانهزامية السائدة، عرضة لمسار من التفريط ومسلسل من التنازل.

وثانياً، وإلى جانب التطبيع مع العدو التاريخي الغاصب وتشريع اغتصابه والتسليم بوجوده، الذي يعني تلقائياً تثبيت كيانه القائم على ما اغتصب، إعطاؤه الوقت الكافي لإنجاز عملية تهويد ما اغتصبه بعد العام 1967، أو وضع اللمسات الأخيرة للفروغ من تحقيق ذاك الهدف الاستراتيجي الذي انطلقت الصهيونية أصلاً وسعت جاهدة لإنجازه، وهو تهويد فلسطين كل فلسطين من نهرها إلى بحرها... ثم الالتفات إلى ضواحيها، أو الهيمنة، على الأقل غير المباشرة، على هذه الجغرافيا الممتدة ما بين النيل والفرات، ومن ثم تعديها إلى سائر الوطن العربي والمنطقة... عملية التهويد أو الاستيطان الجارية في الضفة على قدم وساق ولم تتوقف منذ الرابع من حزيران عام 1967، أما القدس فقد تحول الصراع عليها الآن من الجغرافيا إلى الديموغرافيا، إذ لم يبق فيها ما لم يهوّد بعد سوى باقي الأحياء الفلسطينية قيد الهدم، أو المقابر التي تم الشروع في هدمها، أو الحرم القدسي الشريف الذي هود ما تحته وما فوقه، بانتظار أن يحين أوان هدمه وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه.

وثالثاً، أتاح قيام «سلطة» أوسلو للحكم الذاتي الإداري المحدود تحت الاحتلال للمحتل احتلالاً مثالياً من درجة سبعة نجوم، بمعنى إعفاؤه من مسؤولياته اتجاه الشعب المنكوب به وفق القوانين الدولية، ذلك بقيام هذه «السلطة» بدور البلدية التي تنوب عنه بواجب تقديم الخدمات العامة، كما جرى تحويلها إلى أداة أمنية أنيط بها مهمة حفظ أمن المحتلين وقمع شعبها نيابة عنهم. ومع أنه قد قيل ويقال الكثير عن هذا الدور الذي قامت وتقوم به في مطاردة المقاومين واعتقالهم وتسليمهم للمحتل، وفق التزامها المعلن التنسيق معه أمنياً بإشراف الجنرال الأمريكي دايتون ومن خلفه في مهمته، لكنما إعلان «السلطة» عن اعتقال أبطال عمليتي الخليل ورام الله الأخيرتين ضد قطعان المستعمرين إثر حملة واسعة قامت بها أجهزتها وطالت المئات من رافضي الاحتلال ومن وقعت عليهم شبهة مقاومته، بل ومفاخرتها بذلك، يعد أمراً في مصاف ما يفوق المتخيل، الأمر الذي كان له صداه المُرضي ولاقى الترحيب والإشادة من قبل الأمريكان و«الإسرائيليين»، بحيث استحقت فعلة «السلطة» هذه شهادة جدارة حصلت عليها من السيدة كلينتون، التي قالت :

إن «الثقة التي أظهرتها القوى الأمنية الفلسطينية الجديدة غيرت حسابات القيادة «الإسرائيلية». وأمريكا كانت وراء هذا، بالإضافة إلى الأردن». وهي هنا، إذا شاركت «السلطة» في تفاخرها بإشارتها إلى جهود الجنرال دايتون وخلفه، لم تنس الإشارة إلى الدور الأردني كذلك!

هنا قد يتساءل البعض، إذاً وما حاجة نتنياهو إلى المراجعة؟!

انه، كما أسلفنا، يريدها مراجعةً تعني استعداداً لما يتصوره اقتراب فرصة توجيه الضربة القاضية المجهزة على القضية الفلسطينية بعد ما هيئت هذه المسيرة التفاوضية الطويلة له من فيض ثمارها التي تم جنيها، وسهلت له سبل ما هدف إليه وهو الحصاد النهائي الذي يسعى إليه.

مثلاً، تحدث نتنياهو عن حالة «نضج في العالم العربي»، مردها عنده هو «تراكم اعتراف الدول العربية بوجوب التوصل إلى تسوية مع «إسرائيل»»، الأمر الذي يعني في نظره بروز الحاجة إلى «تفكير إبداعي» لإنجازها... ولإنجازها، تقاسم الأدوار مع وزير خارجيته ليبرمان، الذي يسهل عليه قول ما لا يجدر بنتنياهو المجاهرة به، وكلاهما تقاسماه مع باراك الذي ما انفك يطلق قنابله الدخانية المساعدة، فبالتوازي مع ما قاله نتنياهو وما يقوله باراك، قطع ليبرمان جازماً بأن «لا فائدة أبداً من التسويات التاريخية ولا في التنازلات المؤلمة» التي يتحدث عنها الاثنان أحياناً، و«ينبغي أن ندرك أن التوقيع على اتفاقية سلام شامل هو هدف غير قابل للتحقيق لا في العام المقبل ولا في الجيل المقبل»... ما كنه التفكير الإبداعي الذي يدعو إليه نتنياهو؟

إنه بكل بساطة ما يوصل إلى اتفاق مبادئ جديد من شأنه أن يجب كل ما قبله من اتفاقات أوسلوية وأن يعبّد الطريق للوصول إلى التسوية المنشودة أو التصفية التي تكون تماماً وفق اشتراطات نتنياهو المعروفة لها. وعليه، وحيث يقول باراك أن ««إسرائيل» ستسعى إلى إقناع عبّاس بالقبول ببعض الإنشاءات الاستيطانية الجديدة»، كإخراج يسهّل عليه تجاوز مسألة مواصلة الاستيطان الذي هو عملياً لم يتوقف، ويتحدث نتنياهو عن إيمانه «بإمكان التوصل إلى اتفاقية سلمية خلال 12 شهراً»، فإن ليبرمان يقطع مرة أخرى بأنه «لابد أن يكون هناك حداً للتهدئة، وتخفيضات لسقف المفاوضات» باعتبار أن «الأمر الذي يمكن أن نتوصل إليه هو اتفاق انتقالي طويل الأمد»!!!

هذا على الجانب «الإسرائيلي» فما هو حال «السلطة»؟

كان كل ما لديها هو أن استغاث كبير مفاوضيها صائب عريقات بالضغط الأوروبي الذي لن يتوفر لثني «إسرائيل» عن ما يقوض «كل الجهود المبذولة لإطلاق عملية سلام ذات مغزى»، وهدد «رئيسها» أبو مازن بأنه سينسحب من المفاوضات إذا تواصل الاستيطان... كان رد «الإسرائيليين» عليه هو أنها «لغة تهديد وكراهية»، لكنما الأكثر مدعاة للتأمل هو أنه عندما حذر عريقات بأن (السلطة) «ستزول إذا فشلت المفاوضات»، اسمعه ليبرمان كلاماً ذا مغزى، وهو قوله : «إننا بصدد التوقيع مع شخص يقف على أرض مهتزة»... ماذا يعني هذا؟!

... لعله نوع من الابتزاز عبر تلويح يهدد بالبديل، قد يكتسب مغزاه إذا ما أمعنّا النظر ملياً في رؤية سلام فيّاض المعروفة للحل، أو دولته العتيدة التي بشر بها في غضون عامين لا أكثر... الأمر الذي يمكن ربطه بحديث السيدة كلينتون عن مئات الملايين من الدولارات التي استثمرتها بلادها في مناطق «السلطة» وإشادتها بالتزام (السلطة) «مستقبل شعبها الاقتصادي»، والذي يعود بنا إلى رؤية نتنياهو الشهيرة لما يدعوه «الحل الاقتصادي»... أوليس في هذا ما يكفي لأن يدفع وزيرة خارجية الراعي الدائم لهذه المسيرة التصفوية قيد المراجعة للقول إن «الاستراتيجية الأمريكية الجديدة بدأت تؤتي ثمارها»؟!!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 54 / 2165286

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165286 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010