السبت 18 أيلول (سبتمبر) 2010

مليار دولار سنوياً لبرامج التعذيب الإستراتيجية

السبت 18 أيلول (سبتمبر) 2010 par نصر شمالي

يواصل الرئيس باراك أوباما محاولاته لتهذيب وتلطيف نبرة الخطاب السياسي الامريكي، الذي يستخفّ بالأمم الأخرى بل يحتقرها، ولتحسين وتجميل صورة الولايات المتحدة التي انطبعت في الأذهان ككائن خرافي مفترس. غير أنّ محاولات الرئيس، بغضّ النظر عن حقيقة مشاعره ونواياه كشخص، سرعان ما تكشفت وتتكشف عن مجرد كلام.

إن المعتقلات الامريكية غير القانونية، في غوانتنامو وفي مختلف أنحاء العالم، لا تزال تواصل مهماتها الوحشية، وهي تدار بأساليب المافيات، وليس الدول، غير آبهة بخطابات الرئيس ووعوده، لأنها على الأغلب لا تأخذها على محمل الجد! إنّ أبسط حقوق أكثرية الشعوب لا تزال مصادرة، بينما عمليات التعذيب وحروب التدمير الشامل تتوالى ضدها. أما حلفاء واشنطن وأتباعها فلا يجدون عندها سوى التعالي والغطرسة والصلف في معاملتهم، وإملاء المواقف وفرض الاتاوات عليهم، وإرغامهم على دعم حروبها العالمية الظالمة بمدها بالمال والجنود، وبإعطائها الحق في إقامة القواعد العسكرية على أراضي أوطانهم.

لقد حاول البعض الإيحاء بأن إدارة الرئيس أوباما يمكن أن تحدث تغييراً إيجابياً حقيقياً في جوهر السياسة الامريكية، وهي المحاولة التي تتكرر كلما جاءت إدارة جديدة إلى البيت الأبيض، إما في معرض تبرير التبعية، أو في معرض التضليل وتهدئة الخواطر وإطفاء شعلة المقاومة، أو في معرض الرياء والنفاق من أجل تحقيق المصالح الخاصة غير المشروعة.

وهذا البعض يتناسى أن الرئيس الامريكي هو صنيعة المؤسسات الاحتكارية الحاكمة، المتحالفة والثابتة في جميع العهود، التي تأتي بالرئيس لخدمتها بعد فحصه وتأهيله مسبقاً. وإنه لمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نقع في تاريخ الولايات المتحدة على رئيس واحد امتلك القدرة على المبادرة خارج نطاق إستراتيجية الاحتكار، بل إنّ الرئيس الذي أظهر تميزاً ثانوياً في تعامله مع بعض التفاصيل الثانوية، خلافاً لمصلحة الاحتكار، كان مصيره الاغتيال.

إن تراجع الرئيس أوباما عن وعوده، في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان، يؤكد أن الولايات المتحدة لا تزال محكومة بثوابتها الاستراتيجية الاحتكارية العدوانية، وهي الثوابت التي نهضت معها منذ تأسيسها. فهي تأسست على أنها تحقيق لنبوءات دينية تجعلها أرض الميعاد، وتجعل شعبها (اللوثري) شعب الله المختار الجديد، وتجعل التوسع اللامتناهي وإخضاع الأمم وظيفتها المستمرة دائماً وأبداً، وبالطبع فإن هذه الوظيفة تستدعي توفير وسائل إنجاحها، وأولها وسائل التعذيب والإبادة الشاملة عندما يتطلب الأمر ذلك.

إننا إذا ما عدنا إلى الوقائع التاريخية فسوف نجد أن حكام الولايات المتحدة تحولوا على الفور إلى الحروب الخارجية بعد أن حسموا حروبهم الداخلية، خاصة بعد إبادة السكان الأصليين وإغلاق ملفهم في عهد الرئيس المبجل ابراهام لنكولن. ومن دون الدخول في تفاصيل الوقائع، التي يفترض أن لا أحد يجهلها، وبالعودة إلى وثائق النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث بدأ التأهب لاقتحام العالم وبدأ العمل على إقامة مستوطنات لوثرية في فلسطين، نكتفي بالتذكير بمقولة تيودور روزفلت الشهيرة : «إن قدرنا هو أمركة العالم.. تكلموا بهدوء، واحملوا عصا غليظة، وعندئذ يمكن أن تتوغلوا بعيداً».

غير أن ما ينبغي الانتباه إليه هو أن توجيه روزفلت لم يكن مبادرة شخصية، بل اجتهاد في تفسير كيفية تطبيق الاستراتيجية الامريكية الاحتكارية الثابتة، المستندة إلى عقيدة دينية تعطي معتنقها الحقّ في التعالي على الأمم، واجتياح بلدانها، ومصادرة حقوقها، والاستيلاء على ثرواتها وإبادتها عند الضرورة. وليس صعباً التأكد من أن جميع الرؤساء الامريكيين كانوا ملتزمين بمضمون هذا التوجيه، وآخرهم أوباما، الذي يحاول تهذيب الخطاب وتجميل الصورة مع الاحتفاظ بالمضمون. وقد رأيناه قبل أيام، وقد أخذته العزة بالإثم، يعلن بنبرة احتفالية عن صفقة أسلحة مع المملكة السعودية قيمتها 60 مليار دولار.

إن على العرب تمويل الحروب الامريكية (و«الإسرائيلية») ضدهم وضد إخوانهم في البلدان الإسلامية، ناهيكم عن دعمهم للاقتصاد الامريكي، بينما عشرات الملايين من العرب والمسلمين يتعرضون للهلاك جوعاً وعطشاً ومرضاً وحصاراً وحرباً! ليس هذا وحسب، بل عليهم أيضاً المساهمة في إحكام الحصار، وفي ممارسة التعذيب، وفي القتال في ركاب الامريكيين ضد أنفسهم!

وعلى ذكر التعذيب، فقد أقامت الحكومات الامريكية المتوالية في مختلف أنحاء العالم، وعلى مدى الستين عاماً الماضية ابتداء بالفلبين، نظاماً مستحدثاً من السيطرة الاستعمارية يعتمد على القوى الأمنية المحلية العميلة، وظيفته الترويع والتعذيب بالجملة وبالمفرق، وهو نظام وضعته وترعاه وكالة الاستخبارات الامريكية بتكلفة قاربت المليار دولار سنوياً. ويقول المؤرخ ألفريد ماكوي أن أساليب التعذيب في جميع البلدان لا تختلف إلا اختلافاً طفيفاً عن الأساليب التي اتبعت واكتشفت في سجن أبو غريب العراقي (راجع مقالة نعوم تشومسكي في صحيفة «الأخبار» اللبنانية 15/6/2009).

إنّ ممارسة عمليات التعذيب بمختلف أنواعها وأحجامها، سواء ضدّ الموقوفين في المعتقلات أم ضدّ المحاصرين في مدنهم، هي من صميم الاستراتيجية الاحتكارية الامريكية الثابتة، المستندة إلى عقيدة دينية تبررها، بل تحض عليها، كما نرى بوضوح في فلسطين المحتلة، حيث يرتكب «الإسرائيليون» جرائمهم الشنيعة بمباركة واشنطن. أي أنها برامج ثابتة بدورها.

لقد جاء في مقالة تشومسكي المشار إليها أن عصابة بوش/تشيني/رامسفيلد أدخلت تحديثات مهمّة على عمليات التعذيب، أي لم تبدأها. وينقل تشومسكي عن أحد المحققين قوله انّ ما أعلنه أوباما عن حظر التعذيب تناول ظاهرياً تلك النسبة المئوية الصغيرة التي يمارسها الامريكيون مباشرة، وأنه أبقى على الجزء الهائل من نظام التعذيب، على أن يقوم به الأجانب بإشراف الامريكيين. إنّ أوباما لم يلغ ممارسة التعذيب بل أعاد موضعتها فقط، أي أعادها إلى معاييرها التقليدية التي أرسيت منذ حرب فيتنام، والتي تقوم على تنفيذ عمليات التعذيب بوساطة الأجانب وبالنيابة عن الامريكيين. إنّها العمليات التي لا تزال تستحق أن يرصد لها مبلغ مليار دولار في الميزانية الامريكية!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2166017

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2166017 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 26


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010