الأحد 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

غسيل دماغ يصاحب المفاوضات الفلسطينية

الأحد 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 par د. نهلة الشهال

انتبهوا للغة أيها السادة : ليس هذا نقلاً للفلسطينيين من دولة «إسرائيل» اليهودية، أو ما يقال له في المصطلح الحقوقي العالمي، «الترانسفير»، بل هو «تبادل أراض مأهولة»، وسيصبح «نقل الحدود» الاسم الرسمي للعملية الـ «كود» العائد لها. هذا ما شرحه ليبرمان من على منبر الأمم المتحدة، للحل الذي أسماه انتقالياً. والرجل ليس قاطع طريق وإنما وزير خارجية «إسرائيل». ومهم جداً التنبه إلى ما يصاحب الحدث، إذ سارع نتانياهو إلى التنصل من كلام وزيره. ولدينا هنا فرضيات عدة لتأويل ما يجري. فإما أن «إسرائيل» دولة تحكمها فوضى تامة، وكل مسؤول فيها يغني على ليلاه، أو أن الصراع على السلطة بين الرجلين وصل إلى ذروته، ولو كانا في حزب لقلنا إن انشقاقاً وشيكاً سيقع، أو انه توزيع أدوار يحتمل في طياته الفرضيتين السابقتين ويحتويهما. وليس في هذا «مؤامرة»، بل ما يمكن اعتباره عملية غسيل دماغ، إعادة موضعة للبديهيات، تهذيب وتشذيب لمفاهيم الناس.

نقل حدود! أليست الصيغة جذابة ملساء؟ لم لا، طالما أن التفاوض الجاري لا يستند من الجهة الفلسطينية إلى استراتيجية مبنية، تعرف ماذا تريد، وما الذي يمكن التساهل في شأنه وما هو المستحيل، فيما لا ينفك «الإسرائيليون» يبلورون أهدافهم ويسيّدون مفردات تصبح رويداً مألوفة، طالما أن الطاقم الفلسطيني يسعى في نهاية المطاف إلى الحفاظ عبر التفاوض على الاعتراف الرسمي به ممثلاً للموضوع، ويعتبر أن الحصول على إعلان دولة فلسطين، بغض النظر عن كل شيء آخر (حقاً كل شيء) هو مكسب بذاته. لماذا؟ لأنه قابل للتطوير تدريجياً وعلى مراحل، وفق التبرير الرسمي الفلسطيني والعام. لم لا، طالما سبق لمحمود عبّاس أن وافق على مبدأ تبادل الأراضي، بأل التعريف أو من دونها، (تذكروا الصراع العنيف، الذي شارك فيه مسؤولون وخبراء دوليون، على «أل» تلك في تأويل قرار 242). لم لا، طالما يقال «هذا هو توازن القوى القائم»، و «هاتوا بديلاً»، وهو كلام يتجاهل أن توازن القوى عملية تفاعلية دائمة، وليس حساباً استاتيكياً، وأن المسلك المختار يساهم بفعالية وكل يوم في تشكيلها، وأن البديل لا يولد من عدم، ولا ينشأ بذاته، وقد لا يكون هناك الآن حل جاهز للتطبيق (كما لا يفضي المسار التفاوضي الحالي إلى حل هو الآخر)، وأنها عملية صراعية. فمن يضيق بالصراع لا يعود يملك بالطبع سوى الاستسلام للعدو الشرس، ومسارات الصراع متعددة، ولا يجدي تكبيل الذات بين تفاوض فحسب أو كفاح مسلح فحسب. وأن كليهما، وسواهما، يتطلبان على أية حال تدابير عامة جُرّد منها تماماً الوضع المجتمعي الفلسطيني.

يقول ليبرمان إن مقترحه ذاك «يعكس الحقائق الديموغرافية في شكل أفضل». البلطجة واضحة : تُخلق وقائع تجري بعد ذلك الدعوة إلى احترامها. يتم توسيع المستوطنات فوق أراضي الضفة الغربية في شكل محموم، ويرفض وقف نمو الاستيطان، ثم يقال : هذه حقائق. واليوم، يجري استنفار الشعور الفلسطيني حول انتزاع قرار «إسرائيلي» بتجميد الاستيطان حتى يتم استئناف جولات التفاوض المباشر، وسيتقرر ذلك يوم الرابع من تشرين الأول (أكتوبر)، بل إن السيد عبّاس يعلن انه سيتشاور مع «لجنة المتابعة العربية» (هذه التي أصبحت تمنحه كل فترة المباركة)، وسيدلي إثر ذلك بـ «خطاب مهم جداً وفيه قرارات تاريخية». هو من يقول! بينما يسرب الرئيس أوباما الصيغة : يُعلن عن تجميد التوسع في الاستيطان لمدة شهرين، فتستأنف المفاوضات، ولكن بعدها يصبح موضوع الاستيطان جزءاً من ملفات التفاوض على الحل النهائي، أي تُنزع عنه صفة الشرط المعطل. هل ما زلتم تتابعون؟ والأميركيون في هذا يهندسون مخارج لائقة تحفظ مصالح الجميع : رمزياً، تتيح لعبّاس عدم خسارة كل ماء وجهه، وفعلياً تتيح «للإسرائيليين» استئناف الاستيطان من دون عوائق، وإن بعد شهرين، والى ما لا نهاية.

ماء وجه عبّاس؟ في زيارته إلى باريس يوم 27 أيلول (سبتمبر)، قرر الرجل أنه سيشق صفوف أعدائه. هذا على الأقل ما قالته حاشيته تبريراً لما أقدم عليه. فهو دعا شخصيات يهودية فرنسية إلى العشاء، واختارها بعناية، بحيث تمثل حصرياً عتاة الصهاينة، هؤلاء الذين يتولون قيادة الحملة الأوروبية لمصلحة «إسرائيل»، وبالأخص خلال عدواناتها المتكررة، ولا يتورعون استطراداً عن وصم أبناء المهاجرين من أصول عربية بـ «الحثالة» في كل مناسبة، وفاء منهم لصراع الحضارات. واستبعد من الدعوة الشخصيات اليهودية المعروفة باعتدالها، ناهيك عن تلك التي تناصر الحق الفلسطيني (وهم متوافرون). وقد انهال المدعوون عليه بالمديح لشجاعته ولأنه رجل السلام من أول مساره... وهو لم يصرح بشيء، ولا فهمنا مما نقلته الصحف أنه تمكَّن من توضيح مرتكزات الحق الفلسطيني. ثم أعقب عبّاس ذلك بدعوة المجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية الفرنسية («كريف») إلى لقاء لم يصدر عنه سوى مصافحة بين «الرئيس» الفلسطيني ورئيس ذلك المجلس أمام عدسات المصورين، وتصريح من الأخير يقول إنه أفهم عبّاس (هكذا والله) الأهمية التي يحيط بها يهود فرنسا أشقاءهم في «إسرائيل»، مضيفاً أن موضوع الاستيطان ثانوي ولا يجب أن يعرقل السلام. وقد بدا عبّاس في ذلك كله الصامت الأكبر، ساعياً فحسب وراء قبول المنظمات والشخصيات الصهيونية به كرجل «محترم». وهو، بصفته الممثل الرسمي للقضية الفلسطينية، منح ضيوفه هؤلاء شرعية مؤكدة، بينما لم يقرر في المناسبة نفسها اللقاء بأي شخصية أو طرف فرنسي من حركة نصرة الشعب الفلسطيني!

أليس الاستخدام الديماغوجي لمقولة «السلام» جزءاً من عملية غسيل الدماغ وإعادة التربية؟ هكذا يمكن للقتلة الاحتماء بعباءة السلام بسهولة فائقة ليُمعنوا بمزيد من القتل : تلك المنظمات والشخصيات الصهيونية تلاحق قضائياً منذ أشهر عشرات المناضلين الفرنسيين الذين يعملون في إطار حملة المقاطعة، بهدف كسر الحركة التضامنية مع فلسطين، وهم بذا يفون بنصيبهم من الخطة العامة «الإسرائيلية».

والمثال بحذافيره كان قد سبق له الحدوث في نيويورك قبل باريس بيومين. وهو على محدوديته، معبر جداً، ويلخص الموقف : لا يوجد لدى «الرئيس» عبّاس ما يقوله (وهو لم يقل أمام أعدائه هؤلاء سوى عموميات، فتولوا هم القول والتأويل ووظفوا المناسبة لمصلحتهم). وهو لا يمكنه تفسير اللحظة السياسية الراهنة، ولا خطته واستراتيجيته لأصدقاء فلسطين ومناصريها، الذين سيكونون بالضرورة متطلبين وقلقين. ما العجز والإفلاس، إن لم يكن هذا؟ ثم، أين يقع خط الاشتباك السياسي؟ فكما أضاعه وموّهَه عبّاس في لقاءاته الباريسية، فإنه يضيعه ويموّهه في لقاءاته التفاوضية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2165771

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165771 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010