الخميس 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010

آفاق جدية تتيحها وثائق و“يكيليكس”

الخميس 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 par د. يوسف مكي

يركز هذا الحديث على الآفاق القانونية والأخلاقية التي أتاحها نشر موقع “ويكيليكس”، مؤخراً لوثائق سرية أمريكية، حول الحرب في العراق، في ما اعتبر أكبر تسريب لوثائق عسكرية سرية في التاريخ . لقد تضمنت تلك الوثائق، اتهامات واضحة للقوات الأمريكية وحكومة نوري المالكي ولإيران بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية .

أهمية هذه الوثائق لا تكمن في ما احتوته من معلومات عن قيام قوات الاحتلال الأمريكي بارتكاب جرائم حرب، وضلوع من نصبوا في الحكم، وحكومة إيران بتلك الجرائم, فما يعرفه المهتمون بشؤون العراق أكبر بكثير مما تم نشره .

إن ما يهم في الوثائق، هو أنها اعترافات مختومة بختم أمريكي صريح، من جهات معنية مباشرة بما يجري على أرض السواد . وهي تأكيد بعلم الإدارة الأمريكية بما يجري من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، وتشجيعها على تلك الانتهاكات، بما ينافي إدعاء الإدارة الأمريكية السابقة، أنها أرسلت قواتها للعراق، دفاعاً عن حرية العراقيين . كما تدحض هذه التقارير النفي المتكرر لإدارة الرئيس بوش للتقارير التي تصدرها المقاومة العراقية، عن جرائم حرب ارتكبها الجيش الأمريكي، والميليشيات الطائفية، والحرس الثوري الإيراني، في سجون مطار بغداد وأبو غريب والجادرية .

نشر هذه التقارير يطرح قضايا جوهرية عديدة، يتعلق بعضها بماهية التشابك، والوحدة والتضاد في السياسات الأمريكية - الإيرانية . كما تعيد طرح السؤال عن الأهداف الحقيقية للحرب الأمريكية على العراق، بعد أن سقط مبرر نشر الديمقراطية . وتفتح أيضا الآفاق المحتملة لنشر هذه التقارير على صعيد محاكمة مجرمي الحرب في العراق، أسوة بما جرى في يوغوسلافيا السابقة، والسودان وعدد آخر من الدول “المارقة الخارجة” على الطاعة .

المعلومات التي وردت في هذه الوثائق على أهميتها، لا تضيف كثيراً للعراقيين، أخذاً بالقول المأثور بأن أهل مكة أدرى بشعابها . لقد عانى العراقيون لأكثر من سبع سنوات من عذابات الاحتلال، وليسوا بحاجة لمن يأتيهم من خارج المكان، ليعرفهم بما يجري ببلادهم . يكفيهم أن دولتهم صودرت كياناً وهوية، وقد واجهوا ولا يزالون محنة تشريدهم من منازلهم ووطنهم، وأن عاصمتهم بغداد جرى تفتيتها لكانتونات طائفية، ويكفي أن القتل يتم غالباً على الهوية، وأحياناً عبر محاكمات كيدية، تفتقر إلى أبسط مقومات النزاهة، ولا تتورع عن إصدار أحكام الإعدام، كان آخرها الحكم بإعدام طارق عزيز، نائب رئيس الوزراء قبل الاحتلال، وثلة من رفاقه .

ما هو مهم أن التسريب قد حدث، ولن تقلل من قيمته معرفة العراقيين بما هو أكثر من محتوياته . دليل ذلك ردة فعل الإدارة الأمريكية، ونوري المالكي، وإيران وحلف شمال الأطلسي، الغاضبون من نشر الوثائق . لقد عبر عن ذلك أكثر من مسؤول أمريكي بالقول، إن المعلومات ستضر بأرواح العسكريين الأمريكان بالعراق . وهو قول مناف لأبسط الحقوق القانونية والأخلاقية لضحايا الحرب، التي تتيح لهم مقاضاة جلاديهم أمام القضاء . وهو جوهر ما تقدمه هذه الوثائق، بما يتيح لقوى السلم والحرية في العالم، محاسبة مجرمي الحرب، وفقاً للقانون الدولي وشرعة الأمم .

تكشف الوثائق المنشورة بوضوح بعضاً من حالات التشابك والوحدة والتضاد، في العلاقات الأمريكية - الإيرانية . فهذه العلاقات متوترة جداً حين يتعلق الأمر بالملف النووي الإيراني، ودعم إيران لحزب الله في لبنان، وحركة حماس في فلسطين . إلا أن هذه العلاقة، تتسم، بالتنسيق والتعاون، حين يتعلق الأمر بأفغانستان والعراق . وقد تم الكشف مؤخراً عن دعم مالي كبير من إيران للرئيس الأفغاني حامد قرضاي . أما العراق، فليس سراً أن الذين يحكمون العراق، هم قادة الميليشيات الطائفية الموالية لإيران . وقد لعبت هذه الميليشيات في الأيام الأولى للاحتلال، دوراً أساسياً في تدمير بنية الدولة العراقية الوطنية، ونهب المتاحف وتدمير المصانع، وتخريب الجامعات، واغتيال العلماء، بضوء أخضر من وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، دونالد رامسفيلد، الذي اعتبر الأعمال التخريبية، تدرباً على ممارسة الديمقراطية، وفوضى خلاقة، ينبثق من رحمها العراق الجديد .

كان قادة إيران من أوائل الذين اعترفوا بحكومة قرضاي في أفغانستان، وبالحكم الانتقالي الذي رعاه المندوب السامي الأمريكي في العراق بول برايمرز . كما كان الرئيس الإيراني، محمد مهدي خاتمي أول القادة السياسيين، الذين زاروا كابول بعد احتلالها، وكان الرئيس أحمدي نجاد من أوائل القادة الذين وطئت أقدامهم المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية، بغداد تحت حراسة الحراب الأمريكية . إن افتضاح أمر التنسيق الإيراني- الأمريكي في أفغانستان والعراق، يجرد الحكومة الإيرانية، من مصداقية الادعاء بالتصدي ل”الشيطان الأكبر”، ويجعلها عارية أمام شعبها في الداخل، ولدى الذين خدعوا بدعايتها . وربما يسهم في خلق حقائق جديدة في العراق، بعد الانسحاب الأمريكي، تنقل الفعل المقاوم، إلى التصدي للحرس الثوري الإيراني، والميليشيات الموالية لطهران .

تدحض هذه الوثائق، أيضاً القول بأن الهدف من الاحتلال الأمريكي للعراق، هو الدفاع عن حقوق الإنسان، بعد أن تكشف من قبل فشل أكذوبة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، كما فشلت أكذوبة العلاقة بين النظام الذي حكم العراق، حتى لحظة احتلال بغداد وتنظيم القاعدة . لقد أضحى هؤلاء في موضع اتهام صريح بعد تأكد ضلوعهم بارتكاب جرائم حرب .

نشر هذه التقارير يفتح آفاقاً جدية، أمام أي توجه لمحاكمة دولية لمجرمي الحرب في العراق، أسوة بما فرضته الإدارة الأمريكية، ودول الاتحاد الأوروبي، في يوغوسلافيا السابقة، والسودان وعدد آخر من الدول “المارقة” و”الخارجة عن الطاعة” . وقد بدأ الحديث عن تشكيل لجان مستقلة للتحقيق في جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان، التي ارتكبت في العراق، ورفض ما تمخض عن الاحتلال جملة وتفصيلاً، على كل الصعد، وملاحقة مجرمي الحرب، وجلبهم للعدالة، ومحاكمتهم على ما اقترفوه من جرائم . والمطالبة بالإيقاف الفوري لتنفيذ الأحكام الجائرة بحق الوطنيين العراقيين، وفي مقدمتها أحكام الإعدام بحق قادة العراق السابقين .

أتاح نشر هذه الوثائق فسحة للذين خدعوا بشعارات القرن الواحد والعشرين الأمريكي، للقيام بمراجعة نقدية لمواقفهم، فقد كشفت عن نماذج بشعة، وانتهاكات للحق في الحياة، وجرائم حرب، استهدفت فيها دولة عظمى تدمير شعب كامل وسلمته إلى عصابة من المسكونين بكيدية الانتقام، والحاقدين على عروبة العراق وتاريخه . وقد تصرف هؤلاء مع أبناء العراق، خارج كل القيم والقوانين المتعارف عليها .

المحاكمة العادلة هي المطلب الوحيد تجاه ما تطلقه الولايات المتحدة من حرص على الحريات واحترام حقوق الإنسان، وهي الرد الممكن والمقبول على ردود الأفعال التي أثارها نشر هذه الوثائق . ولن يكون مجدياً تعلل وزيرة الخارجية الأمريكية، والناطق بلسان وزارة الدفاع الأمريكية أن تسريب الوثائق من شأنه تهديد حياة الجنود الأمريكيين والعراقيين الذين يتعاونون معهم ويعملون في إمرتهم . فهذا الموقف يناقض بشكل فاضح مفهوم الشفافية الذي تعتبره واشنطن واحداً من الركائز الرئيسية للحكم الرشيد، ومعلماً مهماً من معالم التحول الديمقراطي في العالم .

محاسبة مجرمي الحرب، وجلبهم للعدالة وتطبيق القوانين الدولية بحقهم، وحدها التي تعيد الاعتبار لمفهوم الشفافية، والعدالة وحقوق الإنسان، وتؤكد أن المواثيق الدولية ومبادئ حقوق الإنسان، ليست مجرد حبر على ورق .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 73 / 2165592

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

33 من الزوار الآن

2165592 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010