الصحف الخمس العالمية الكبرى التي تنشر هذه الأيام وثائق الدبلوماسية الأميركية المنقولة من موقع ويكيليكس، تنتمي الى ثقافة او الى حضارة واحدة وإن كانت تنطق بأربع لغات مختلفة، اثنتان بالإنكليزية هما نيويورك تايمز الاميركية والغارديان البريطانية، وواحدة بالفرنسية هي لوموند ورابعة بالألمانية هي در شبيغل، وخامسة بالإسبانية هي الباييس. وقد اختيرت هذه المطبوعات الخمس بعناية فائقة، وبناء على اتفاق مسبق يذكر المصدر ويحترمه، ولا يتضمن اي بند مالي او جزائي. ويقال إن الاتفاق نفسه عرض على محطة تلفزيون «سي إن إن» وصحيفة وول ستريت جورنال فرفضتاه، لأسباب لا تزال غير معروفة حتى الآن.
وهذا الاختيار يطرح قضية ثقافية جوهرية، فالوثائق لا تعنى فقط بشؤون الدول الخمس التي تصدر منها الصحف المذكورة، بل هي تغطي جميع انحاء العالم التي يتواجد فيها او يتعامل معها دبلوماسيون اميركيون، وهي بالتالي تعني الجمهور في كل مكان من العالم وعلى اختلاف اللغات التي يتحدث بها، ربما اكثر بكثير من الجمهور الأميركي او الألماني او الفرنسي او الإسباني الذي تعاطى مع البرقيات الدبلوماسية الاميركية بدرجات متفاوتة من البرود واللامبالاة، ولم يتوقف الا عند بعض النمائم والطرائف التي تنال من رموزه السياسية!
قد يكون من المفهوم الى حد ما سبب امتناع موقع ويكيليكس عن عرض البرقيات على وسيلة إعلامية صينية او روسية او حتى هندية، يفوق عدد قرائها بأضعاف مضاعفة عدد القراء الذين تصل اليهم الصحف الخمس الغربية المختارة. ثمة حواجز لغوية وثقافية مرتفعة لا يمكن إنكارها، دفعت الموقع الى تجاهلها، مفترضاً ان السلطات في الدول الثلاث المشار اليها قد لا تسمح بنشر الوثائق او قد تخضعها لرقابة مشددة، استناداً الى معاييرها السياسية والديموقراطية الخاصة، وربما ايضاً استناداً الى حساباتها الأمنية ورؤيتها لمصالحها الوطنية... عدا عن خوفها المسبق مما يمكن ان تحتويه البرقيات من مس بسمعة قياداتها.
لكن ما يرقى الى مستوى الإهانة للإعلام العربي، وتالياً للثقافة العربية، ألا يتحرش موقع ويكيليكس بأي مطبوعة او محطة تلفزيونية عربية ناجحة او واسعة الانتشار على الأقل، ليعرض عليها مثل تلك البرقيات التي تحولت بالفعل الى مادة دسمة وجذابة لدى جميع وسائل الإعلام في العالم العربي، الرسمية منها والخاصة، التي باتت تنتقي منها ما يناسبها ويخدم مصلحتها الخاصة ويسيء الى خصومها السياسيين، وتستخدم النصوص الأميركية الغنية والشاملة لجميع العرب من دون استثناء، وسيلة للتشهير لا للنقاش او المراجعة او المحاسبة، المتوازنة والدقيقة قدر الإمكان.
الحاجز الثقافي والنفسي بين العرب وبين الغرب مرتفع جداً، لكن المعيار المهني حاسم في هذا المجال، وكذا المعيار السياسي: الجمهور العربي متعطش لمثل هذه البرقيات، بغض النظر عن قيمتها الفعلية، اكثر من الجمهور الصيني او الروسي او الهندي.. بغض النظر عن سذاجة مؤسس موقع ويكيليكس جوليان اسانج الذي اشاد برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي رأى ان نشر البرقيات الدبلوماسية الأميركية خدم السلام في الشرق الاوسط!