الاثنين 14 شباط (فبراير) 2011

النهايات صعبة والبدايات أصعب

الاثنين 14 شباط (فبراير) 2011 par عبدالوهاب بدرخان

كانت فعلاً ثورة مصرية، بكل خصوصياتها وتفاصيلها، بأفراحها وآلامها، كأنما مصر استفاقت يوم 25 يناير فإذا شعبها شعب آخر، انكسرت حواجز الخوف والصمت، وكوابح الأقدام والتضحية.

استيقظت فجأة القيم الإنسانية الطيبة، وكأن هذا الشعب يكتشف نفسه من جديد، كأن الثلاثين عاماً التي مرت لم تغير طبيعته، فإذا بالملايين في الشارع يلتقون ويهتفون كما لو أنهم دربوا لاحترام الهدف الذي جاء بكل واحد منهم إلى هذا الميدان أو ذاك، في القاهرة أو الإسكندرية أو السويس والإسماعيلية.

مرت الأسابيع الثلاث كأنها فترة علاج نفسي لابد منه، للانعتاق من الكابوس، والخلاص من محنة طال أمدها، كان أروع ما في هذه الثورة استيلادها الدينامية ذاتياً، وشحذها الوعي والإصرار والعناء، رغم قمع الأيام الأربعة الأولى وإرباكات الأيام الأربعة عشر التالية، وصولاً إلى لحظة انفجار الفرح.

ثمة قيمتان انبثقتا من هذه التجربة العظيمة: قوة الشعب التي لم يعد في إمكان أي نظام أن يتجاهلها أو يحتقرها، وانضباط الجيش في واحد من أصعب الاختبارات التي يمكن أن يتعرض لها أي جيش، أما القيمة الأخرى المستعادة فهي مصر التي في خاطر كل عربي، فهي لم تبدد الخيبات الكثيرة التي أقحمت العرب فيها على مر العقود الماضية فحسب، وإنما أعاد افتخارها بنفسها افتخار العرب بها.

هذه سنة عربية تدخل التاريخ، وهذه سنة عربية يفترض أن تدخل العرب في روح العصر، فالأنظمة المزمنة استطاعت أن تهلك وتستهلك بضعة أجيال ظن أبناؤها أن حتى أبناءهم لن يروا يوماً مشرقاً كالذي أصبحت عليه تونس ثم مصر، أو كالذي ستصبح عليه هذه أو تلك من بلدان العرب، فإذا بهم يغالبون دموع الأسى بدموع الفرح وهم يشهدون أن الغمة يمكن أن تنقشع عن الأمة، عاشوا كأنهم ما عاشوا إلا لهذا اليوم، وجاءهم الفرج من الجيل الذي ظنوه خائباً وجاهلاً ومعدوم الهمة.

في الحالين، كان المستحيل هو الممكن، ولم يكن ممكناً التراجع إلا بعد السقوط الجلي المدوي للنظام، ولوهلة عادت للإنسان ودمه وروحه وصوته قيمة غير تلك التي يحددها العسس والسجانون والبلطجية، حفظ الثوار أسماء الذين سقطوا على الإسفلت والأرصفة والكباري لكي يستطيع أترابهم أن يكملوا ويصمدوا، أن يتظاهروا ويعتصموا، وأن يحققوا الهدف، هؤلاء الأبطال بلا قادة ولا زعماء، مناضلو الـ “كي بورد”، الذين تثقفوا بالدردشة والبديهيات والأفكار العارية الطاهرة، رفضوا أن يكونوا مجرد جثث واقفة أو أجساد محنطة تسعى على غير هدى، خرجوا من ضمير الشعب.

كلنا اليوم يغبط مصر على إنجازها العظيم، على شعبها الذي قدم تجربة رائدة، كما غبطنا تونس وشعبها الذي أثبت أولاً أن شيئاً لن يتحقق من دون تضحية ووعي ومثابرة، بل لا يزالان يثبتان أن الحفاظ على الإنجاز أعزب من أن يترك للسياسيين وحدهم، وإنما لابد من أشعارهم بأنهم تحت رقابة صارمة، وبأنهم لن يستسلموا من الغضب الشعبي، هذه لحظة ثمينة في عمر الشعوب والدول، وإذا لم تبن مدماكاً للمستقبل فستمضي كأنها لم تكن.

ثلاثة عقود من المعاناة انتهت في غضون أسابيع، في تونس كان النظام الذي سقط هو ذاك الذي استمر يحكم ويتقلب منذ الاستقلال لكنه تحول من يد دكتاتور أبوي نظيف إلى دكتاتور عدواني فاسد، وفي مصر انتهى عملياً نموذج الدكتاتورية العسكرية الذي نشأ بعد ثورة 23 يوليو، وفي الحالين، إذن يسود منطق التأسيس، وهناك الكثير مما يجب عمله إما من نقطة الصفر كما بالنسبة إلى إعادة الاعتبار للقانون ولكرامة الوطن والشعب، وإما للتصحيح في مختلف القطاعات، هنا وهناك ينبغي الانتهاء أولاً من وباء الفساد الذي شكل نزيفاً دائماً للموارد والمساعدات، وسرقة يومية صريحة لجهد الشعب وقوته.

النهايات في عمر الدول والشعوب هي أيضا البدايات، ومن الطبيعي بالتالي أن تكون صعبة ومفعمة بالتحديات، لابد للشعب أن يستشعر التغيير بسرعة، ولابد لهذا التغيير أن يتناسب وينسجم مع الروح الجديدة التي بثتها الثورة في النفوس، سمعنا مصريين وتونسيين عاديين يقولون إنهم تنفسوا الصعداء أخيراً مع أنهم يعيشون في المكان والبيئة ذاتيهما، سمعناهم يؤكدون أنهم لمسوا أخيراً أن أصالتهم بقيت سالمة ولم يستطع الحكم الظالم أن يمسها، لا بطول مكوثه فوق صدورهم ولا بقسوة المعاملة التي لاقوها من أجهزته وأعوانه، كل ذلك له مغزى عميق في تاريخ الأمة، كل ذلك يحفز كل شعبه على إنهاء معاناته، لتكون هذه الثورات بداية لعصر عربي جديد، عصر الشعوب، عصر الحرية والحكم الرشيد، وعصر دولة القانون للجميع، هذا هو الرهان الآن، وكل تراجع أو تأخر أو تلك لن يكون لمصلحة أحد، لا للشعب ولا للنظام المكابر.

لا يمكن لأحد أن ينفي أو يستبعد كلياً أن ثمة دوراً خارجياً قد يكون لعب على هذا المستوى أو ذاك، وفي هذه اللحظة أو تلك، لكن أحداً لا يستطيع القول إن الونسي محمد البوعزيزي أحرق نفسه، بالتواطؤ مع أي جهة، أو أن حرقه شعبه وردود الفعل على تضحيته بنفسه كانت من تدبير أي جهاز استخباري مهما طال باعه وعظم شأنه، ولم يكن أصدقاء المصري خالد سعيد عملاء لأي جهة حين صرخوا وكتبوا ضد اغتياله المدبر، ولم يكن هناك أحد إلى جانب المصرية أسماء محفوظ عندما صورت نداءها إلى أترابها كي يشاركوها التظاهر والمطالبة بإسقاط النظام، كانت تعرف المخاطرة وأقدمت عليها بإملاء من ضميرها، من صرخة النقمة في أعماقها.

هؤلاء الشباب برهنوا أن كل شيء يتقرر في الداخل أولاً وأخيراً، ولو كانت هناك أيدٍ أجنبية لما رأينا الشعب يهب جميعاً لنصرة أبنائه والسير وراءهم مهما كلفه الأمر، أما الخارج الذي كان يتكرم بنصائح الإصلاح والتغيير على آذان يعرف مسبقاً أنها صماء، فوجد نفسه أمام وضع جديد ومفاجئ لا يمكنه سوى التعامل معه بحقائقه لا بالأفكار المسبقة التي كانت تميل دائماً إلى الاعتقاد بأن شعوب العرب ماتت ولا قيامة لها.

وبمعزل عما إذا كانت الظاهرتان المصرية والتونسية ستعمان العالم العربي أم لا، فإنهما وفرتا كل الدروس الضرورية لمن يريد أن يتعلم ويعمل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2180975

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2180975 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40