الأربعاء 6 نيسان (أبريل) 2011

تحرير فلسطين... من الطوباوية إلى الممكن

الأربعاء 6 نيسان (أبريل) 2011 par د. فايز رشيد

لفت نظري حينها كما كثيرين، ما ورد في خطاب سابق لأمين عام «حزب الله»، عندما قال بما معناه : (إن أي اعتداء «إسرائيلي» جديد على لبنان، فان الحديث ساعتها سيجري عن إزالة الكيان الصهيوني، وعن وجه جديد للمنطقة). استغربت ذلك الحديث وهذه الثقة بالنفس، خاصة أن الخطاب جاء في أردأ الأوضاع العربية : هيمنة أمريكية على العالم ومنطقتنا بشكل خاص، صلافة «إسرائيلية» منقطعة النظير، انقسام فلسطيني سياسي، مباحثات عبثية مع «إسرائيل». مرحلة من التردي العربي، وما بدا أنه استكانة جماهيرية للنظام الدكتاتوري العربي، احتلال للعراق.. عوامل كثيرة أخرى من نفس النمط.

على الصعيد الآخر، فإن شعار تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ملأ الأذهان الفلسطينية والعربية منذ النكبة عام 48، وتعزز في الحقبة الناصرية، خاصة بعد إفشال عدوان بريطانيا وفرنسا و«إسرائيل» على مصر في عام 1956، لا سيما أن الأحزاب القومية في تلك المرحلة حملت هذا الهدف، هزيمة عام 1967 كانت بمثابة الفجيعة للفلسطينيين والعرب، حين هُزم النظام الرسمي العربي، لكن الانطلاقة الحقيقية للثورة الفلسطينية التي كانت إرهاصاتها تتفاعل في منتصف الستينيات، حين أعلنت «فتح» عن انطلاقها في عام 1965، وتعزز الشعار أيضاً بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية. جاء برنامج النقاط العشر في عام 1974 بعد حرب 1973 التي أُريد منها التحريك السياسي لا التحرير، ثم توالت الأحداث بتوقيع اتفاقية كمب ديفيد وما تلاها من اتفاقيات مع «إسرائيل» لتجعل من شعار : تحرير فلسطين مسألة طوباوية بعيدة عن الواقع وتبدو خارج إطار التاريخ والزمن. ومع ذلك ظل اللاجئون الفلسطينيون في الشتات يحملون مفاتيح وكواشين بيوتهم وأراضيهم، وظلت فئات غير قليلة من الفلسطينيين والأمة العربية تؤمن بالشعار، رغم الخلفيات المتعددة للتفسير : دينية (ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية)، وطنية تقدمية، وطنية قومية، لكنها كلها، عكست الإيمان بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر. بعد توقيع الاتفاقيات مع «إسرائيل» وإنشاء السلطة ضمن ما يسمى بــ (المساومة التاريخية)، ابتعد شعار التحرير بمعناه الكلي، ومع ذلك ظل كثيرون يؤمنون به. جاءت المبادرة الرسمية العربية في قمة بيروت (2002) لتُبعد هذا الشعار مسافات إلى الخلف.

للأسف، بتوقيع هذه الاتفاقيات والمساومات لم يُدرك موقعوها حقيقة العدو «الإسرائيلي»، والحدود القصوى الممكن لـ «إسرائيل» الذهاب إليها في أية تسوية مع الفلسطينيين والعرب. أدرك الرئيس عرفات قبل وفاته بسنوات قليلة النقطة السابقة، ولذلك شكّل كتائب شهداء الأقصى ودعمها، ولذلك حرصت «إسرائيل» على سجنه في المقاطعة لثلاث سنوات واغتالته، بتسميمه. «إسرائيل» رفضت المبادرة العربية ورفعت شعار : السلام مقابل السلام وليس السلام مقابل الأرض والحقوق، وجاء فشل المفاوضات التي امتدت ما يقارب العشرين عاماً ليؤكد استحالة القبول «الإسرائيلي» بوجود دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة إلى جانب دولة «إسرائيل»، وصول التسوية مع الفلسطينيين إلى طريق مسدود، واعتبار القدس والجولان أراضي «إسرائيلية» (تم ضمهما بقرارين في «الكنيست»)، وانسداد الآفاق نهائياً أمام حل الدولة الديمقراطية الواحدة، والدولة ثنائية القومية، والدولة لكل مواطنيها، فـ «إسرائيل» تستهدف إنشاء دولتها اليهودية، وفي سبيل هذا الهدف قوننت العنصرية وما تزال (القوانين الأخيرة التي تم سنها في «الكنيست» وتستهدف مواطني 48)، وجعلت من قبول الفلسطينيين والعرب بهذا الشرط، محطة للبحث في التسوية معهم.

القيادات «الإسرائيلية» هي من أغبى القيادات، إذ توفّرت لـ «إسرائيل» فرصة لاعتراف فلسطيني (عملياً تم في أوسلو) وعربي جماعي بها، ولو أقدمت على تسوية مقبولة مع الفلسطينيين والعرب، لأزالت الكثير من الحواجز لاعتبارها دولة معترفاً بها من دول المنطقة، ولكن لأن فاقد الشيء لا يمكن له أن يعيطه، فالدولة «الإسرائيلية» في تناقض تام مع مفهوم السلام العادل، والتعايش السلمي مع العرب، لأنها ابتداء من أساطير التضليل التي مارستها الحركة الصهيونية، واستشراس هذه مع أصولية توراتية، وتربية غاية في عنصريتها للأجيال الجديدة، والتأثير التوراتي على ممارسة السياسة، والعدوان والابتزاز والنظرة الفوقية إلى الآخرين.... كل ذلك طبع «إسرائيل» بالنهج الذي يعرفه القاصي والداني عنها، ولذلك نرى الامتدادات المتزايدة سنة بعد سنة للأحزاب اليمينية الدينية والفاشية في «إسرائيل» (إقرأ الاستطلاعات الأخيرة عن هذه المسألة في الصحف العربية)، وازدياد نفوذها وتأثيراتها السياسية على القرار «الإسرائيلي»، وتأثيراتها على الحياتين الاجتماعية والسياسية في «إسرائيل».

«إسرائيل» تُدرك أن السلام هو مقتلها، ذلك أن التناقضات التي تملأ أجواءها البنيوية، ستفعل فعلها أضعاف ما هي عليه الآن، فالإجماع على العداء للفلسطينيين والعرب، يخفف من حدة هذه التناقضات، ومع ذلك فإن التناقضات تترك فعلها في الشارع «الإسرائيلي»، وهي تناقضات متنوعة إثنية في مظهرها العام، وبالضرورة تتحول إلى شكل ديني، ظهر في سؤال غير محسوم حتى اللحظة، اعتبار من هو اليهودي، وتأثيرات ذلك على تشكيل الهوية، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن عقبات كثيرة ما زالت تقف أمام إمكانية تشكيل المجتمع «الإسرائيلي». الهوية الدينية بإنشاء «إسرائيل»، تحولت إلى هوية قومية فسيفسائية بعيدة عن التجانس رغم مرور ما يقارب الـ 63 عاماً على إنشاء الدولة. «إسرائيل» ما زالت محكومة بعقلية الغيتو والأسوار الواقية، ولذلك فإن الأمن يشكل هاجسها الدائم، وبالتالي يتدخل في كل مكوناتها السياسية والعسكرية، ولذلك فإن التناقضات في «إسرائيل» تأخذ مناحي متعددة.

وبالعودة إلى شعار تحرير فلسطين، فإن التغييرات الثورية العربية التي تمت والتي هي في طريقها إلى التحقيق، تصب في مجرى تحقيق الشعار بإعادة الصراع إلى مربعه الأول، وتصليب الموقف الفلسطيني. أما في ما يتعلق بردود الفعل الأمريكية والغربية على إمكانية تحقيق هذا الشعار، فأذكر مقالة لواحد من أبرز شيوخ الصحافة المصرية وهو الأستاذ محمد التابعي، فقد كتب في مجلة «المصور»، في أحد أعداد عام 1969، وقد احتل منصب رئيس تحريرها آنذاك، مقالة قال فيها ما فحواه : لو استطاع العرب تحرير فلسطين من البحر إلى النهر في ضربة قاصمة وسريعة، لرضخ المجتمع الدولي إلى هذا الأمر. ما يجري على الأرض يؤكد أن هدف التحرير انتقل من إطاره الطوباوي إلى إمكانيته الواقعية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 50 / 2178417

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2178417 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40