الاثنين 11 نيسان (أبريل) 2011

مبارك القديم والجديد : الديكتاتور يفتّش في أدراجه

الاثنين 11 نيسان (أبريل) 2011 par وائل عبد الفتاح

[**I*]

صوت الرئيس. إنه هو بالفعل. اللازمة نفسها، «أيها الإخوة والأخوات»، والإيقاع الرتيب، المتصلّب، بلا مشاعر ظاهرة. النبرة تكشف عن عتاب وتجبّر في الوقت نفسه. لا يزال يشعر أنه رئيس، ويوجّه كلماته إلى رعايا، أو قطيع ينتظر الحقيقة، أو بركات الإله المختفي خلف حاشية حراس وهيلمان، لا تناسبه نفسية موظف لم تتغيّر. وفي أول ظهور صوتي، لم يدافع سوى عن ذمته المالية، كأنه أمين خزنة في شركة عمومية، يعتب على من تناول سيرته.

هو الموجة الثالثة من الحكام العساكر. موجة الموظفين المهرة في ألعاب البيروقراطية. من هنا لم يعد الاستبداد بالكاريزما الملهمة للزعيم، بل بخبرة الموظفين في الإغراق بالقوانين، استبداداً بالقانون.

مبارك لم يعرف السياسة إلا عندما استدعاه السادات لتعيينه نائب رئيس. يومها تخيّل أنه سيحصل على منصب في شركة مصر للطيران، لكنه حصل، كما تقول النكتة المصرية، على مصر كلها.

حقق مبارك ما لم يحققه أبناء الثورة. استمر بالحكم أكثر من عبد الناصر والسادات معاً. تعلّم السياسة في البلاط (قصر الرئاسة) على أنها فن إدارة الحكم، لا مواقف سياسية ونضالات ومقاومة ومشاريع.

ديكتاتور في درج مكتب يفتش في الأوراق ليخرج دليل براءة، وينتظر 60 يوماً ليخفي الأدلة. لا يعرف أن جريمته لا تمسّ سمعة شخصية، أو عائلية، لكنها مسؤولية سياسية عن فساد واستبداد، لصوص سرقوا الثروات وحولوا الشعب إلى عبيد منزوعي الكرامة.

مبارك لم يفكر لحظة في جريمته، لم يشغله سوى خوفه من الإهانة بالمحاكمة، ولم يتعامل إلا كأنه في حرب دفاع أخيرة عن موقعه. تكلم مبارك كما لو كان في إجازة اختيارية، ينقذ بها البلاد من الاحتراق. لم يعتذر ولم يظهر الندم، ولا تفهّم ما حدث. بدا أنه في قفصه الشخصي يحاول أن يفلت من الهزيمة أمام الجموع، بالدخول إلى دائرته الضيقة، وكلما اقترب من هذه الدائرة، شعر بالصدمة فعلاً، فهو لم يكن من وجهة نظره سوى: مبعوث العناية الإلهية إلى مصر.

[**II*]

«مبعوث العناية»، أنقذ مصر من مصير أسود، هذا ما يراه مبارك بالفعل، ويبدو سرّ العجرفة ونبرة العتاب في كلمته الأولى بعد التنحّي. لم يصدق مبارك بعد أنه خارج السلطة، وأن هناك من يحكم. فالوقت الطويل الذي التصق فيه بالمقعد العالي، خلق نوعاً من التوحّد بالسلطة، ما يعني أنه تحدث بلسان الضحية النبيلة التي انسحبت عندما رأت أن وجودها سيشعل مصر.

لم يفكر لماذا يشعل وجوده مصر؟ ولا ماذا يعني أن يقف ديكتاتور عارياً في مواجهة شعبه، بعدما سقطت أقنعته واحداً واحداً بمجرد صرخات رفض واحتجاج على الحياة من دون كرامة، وعلى الاستسلام لمصير الغنيمة البائسة.

إنها مؤامرة كما يتخيّلها. يستدعي من أجلها العناد الباقي في شخصيّته. صورته لم تظهر. لم يجد مرآة سياسية. كل مراياه في شرم الشيخ عائلية. مرآة الشعب غائبة، غاب شعور اللذة بأن الجماهير تسمع كلماته كأنها قدر نازل من السماء. هو اليوم يلقي بيان البراءة من دون صبغات ترسم على مبارك العجوز صورة أكثر شباباً، وفتوّة عاش بها في سنواته الأخيرة.

اختار الصوت بما فيه من سلطة غير مكلفة، واستعادة لنبرة راعي القطيع. بدا أنه في بيان يستحثّ الأمة على تصديقه، ونصرته على أعداء. يتناسى أن سقوطه جاء عبر ثورة شعب أراد الهروب من شهوات التمساح وعصابته.

مبارك رجل عادي، خالٍ من الكاريزما، وصل إلى مقعد الحكم بالصدفة التاريخية لكهنة النظام، ورغم ذلك كان الكلام عن تغييره نوعاً من الكفر الواضح والصريح بقوانين الاختيار الإلهي. الرجل العادي درّب نفسه على أن «الله اختار لنا الرئيس مبارك، وعلينا أن نرضى بقدر الله، وسيختار لنا خليفته، وعلينا أيضاً أن نرضى به».

وهكذا كان مبارك رجلاً عادياً يكلم الرجل العادي، ويقول للصحافة عندما تسأل عن مستقبل الحكم: الله وحده يعلم. إيمان حقيقي يجعل الرئيس «قوة عليا» مقدسة، لا مجرد شخص يختاره الشعب، ويمكن أن يغيّره. اختيار الرئيس كان غامضاً، لأنه يرتبط بإرادة لا يمكن قياسها، أو معرفة تدبيرها. الغموض هو انتظار للوحي السياسي لا لتفاعلات الظرف، وطبيعة اللاعبين في مستقبل انتقالي لبلاد كانت تحكم بالوصاية.

الدولة تحت وصاية مؤسسات ضخمة، والرئيس يأتي في موعده مع القدر. هي مقولة قيلت عفواً في بداية حكم الجنرالات في تموز 1952، على لسان زعيمهم جمال عبد الناصر، لكنها كانت تعني فكرة ما في عمق تنظيمات جنرالات التغيير. عبد الناصر قال «لقد جئنا في موعدنا مع القدر تماماً».

إنه شعور بالرسالة، وبالإرسال، وأيضاً بالإنقاذ، وبأن السياسة قدر، الفعل الجوهري فيه غيبي، رغم أن «الثورة علم وعمل». وهذا ما لا يعرفه مبارك.

[**III*]

مبارك سيحاكم غداً أو بعد غد. هذه معلومات من مكتب النائب العام، لم تعلن بعد، ولم يكشف عمّا خلفها من ذعر في أروقة الحكم الحالية. كيف سيحاكم؟ وأين؟ وهل يمكن أن توفر له الحماية؟ هذه تفاصيل لا تناقش حدوث المحاكمة، بل آثارها التي تتصل بالأوساط المحيطة بداوئر الحكم. فهم شركاء الماضي، ولسان الرئيس إن انتقم سيحكي ما لا يعرفه أحد آخر.

هذا رعب يسري في أصحاب قرار المحاكمة التي قد ترضي شريحة واسعة من جمهور الثورة، لكنها قد تفتح باباً جديداً أمام فاتورة باهظة تؤثر على عملية بناء الدولة الجديدة.

محاكمة مبارك من المفروض أنها طبيعية، باعتبار الثورة إعلان نهاية لعصر فاسد ومستبد، ومبارك المسؤول الأول عنه. هو صانعه وإلهه الأوحد. المحاكمة هنا طبيعية، لكنها تأخرت حتى أصبحت ورقة غالية تقام من أجلها مليونية وراء مليونية. فهي هدف ثمين ماذا سيحصل في مقابله المجلس العسكري؟ المحاكمة في مقابل ماذا؟ هل هو عربون محبة جديد، ترمّم فيه علاقة الجيش بالثورة؟ أم ستكون إشارة إلى انطلاق الجيش وحده منفرداً في بناء نظام ديموقراطي؟

مبارك بالنسبة إلى الجيش جنرال وقائد ينتمي إلى المزاج العسكري، وكلها أسباب للتدليل، أثارت الثوار، ودفعتهم إلى الكام على صفقة بين الجيش والرئيس المخلوع، أو تواطؤ على امتصاص الثورة.

الجيش ومبارك يلتقيان في رغبة امتصاص الثورة. ربما ليشعر الرئيس بالشماتة، بعدما عاش طويلاً على فكرة أنه الأب الذي بغيابه ستصيب مصر لعنة الفوضى. وبعدما أصرّت مصر على إزاحته، عاش منتظراً لحظة أن يشمت.

ساخر، صاحب استعراض كوميدي على اليوتيوب، خصّص حلقة كاملة بعنوان «موش ها تشمت فينا يا ريس». مبارك هنا يتحدّى الملل، كما كان طوال حكمه، والمجلس العسكري، بطريقة أو بأخرى، عطّل حركة الثورة إلى درجة وصلت في لحظات غياب تأثير الميدان إلى تمويت بطيء، يريد المجلس أن يكون وحده، ويريد مبارك أن يظل وحده، ووحدها الثورة باستعادة روحها تربك الحسابات بإصرار وعناد على أن تكتمل المهمة.

من سيرى أن محاكمة مبارك استكمال للمهمة وليست منحة من المجلس العسكري؟ ومن سيرى أنها كارت شحن جديد لرصيد المجلس، بعدما نفد وأصبح مداناً باستخدام العنف المفرط، وأصبح طرفاً لا حليفاً للثورة؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2165864

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165864 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010