الأربعاء 13 نيسان (أبريل) 2011

نفق ليبي طويل

بقلم / سامح راشد
الأربعاء 13 نيسان (أبريل) 2011

بعدما دخلت الأزمة الليبية منعطفاً مهماً بتولي حلف الناتو قيادة العمليات العسكرية الجارية هناك، تشير المعطيات الميدانية إلى أن انتهاء تلك العمليات لم يعد احتمالاً قوياً في المدى القريب. بل إن التطورات على الأرض تحمل كثيراً من التساؤلات حول مستقبل الوضع العسكري في ظل عدم تمكن قوات الثوار من التقدم نحو المدن والمناطق الخاضعة لسيطرة القذافي، بالإضافة إلى تكرار حالات قصف قوات الثوار خطأ من قبل طائرات الناتو. وإذ لا تزال الحلول السياسية مبهمة ومفتوحة على كافة التصورات؛ فإن المشهد الليبي الراهن بأكمله يشير إلى تطويل إضافي في المدى الزمني للأزمة، ودخولها في نفق غير معلومة نهايته لا العسكرية ولا السياسية.

طغت على تفاعلات الأزمة الليبية في الأيام الماضية، السجال بين المجلس الوطني الانتقالي الليبي بقواته المقاتلة ضد القذافي، ودول المجتمع الدولي التي تدير الأزمة، بشقيها السياسي والعسكري. وبعد أن كانت التطورات على ما يزيد على شهر منصبة حول الضغط على القذافي سياسياً وعسكرياً للخروج من السلطة، أصبحت الساحة الرئيسة للاتصالات والتفاعلات الجارية بشأن ليبيا محورها موقف المعارضة الليبية سواء من الحلول السياسية المطروحة، أو من التطورات الميدانية، فضلاً عن رؤية الدول المعنية ليس فقط لأسس الحل السياسي لكن أيضاً لطريقة إدارة العمليات العسكرية.

وينم هذا التحول النسبي في وجهة تفاعلات الأزمة، عن تغير أو ربما مراجعة للحسابات وتقدير الموقف من جانب الأطراف المعنية، خصوصاً دول المجتمع الدولي بشكل عام، ودول مجموعة الاتصال الدولية حول ليبيا بشكل خاص.

فقد كشفت الأيام القليلة الماضية من عمر الأزمة في ليبيا، أن الحزم العسكري الذي كان مأمولاً قبل أسبوعين، ليس بالسهولة التي كانت متصورة، وأن التداعيات المترتبة على العمليات العسكرية الجارية هناك من جانب مختلف الأطراف، من شأنها إطالة أمد المعارك وليس حسمها سريعاً، وذلك وفقاً للشروط والاعتبارات المراعاة من جانب الدول المعنية خصوصاً ما يتعلق بقرار مجلس الأمن رقم 1973، الذي حدد أهداف العملية بحماية المدنيين، وأكد حظر مبيعات الأسلحة التي قررها المجلس في قرار سابق برقم 1970، فضلاً عن الحسابات السياسية المرتبطة بمستقبل الوضع السياسي في ليبيا حال انتهاء العمليات العسكرية، وهو ما يتسم بالغموض والضبابية إلى حد بعيد. وانعكست تلك الحالة من التردد السياسي والمراوحة العسكرية على الوضع العام لما يجري في ليبيا، حيث بات الوضع أقرب إلى الاستقرار والثبات على ما هو عليه منذ ما يزيد على أسبوع.

وأصبح مشهداً معتاداً في ساحة المعارك الليبية أن تتقدم قوات الثوار الليبيين إلى منطقة أو مدينة وتكاد تدخلها، ثم سرعان ما تتراجع تحت وطأة القصف الذي تقوم به قوات العقيد القذافي بقوة كثافة تشير إلى امتلاكها قدراً كبيراً من التسليح والإصرار على استكمال القتال حتى النفس الأخير. وتصدر هذا المشهد تطورات الأسبوع الحالي، حيث شهدت منطقة أجدابيا معارك طاحنة بين الثوار وقوات القذافي، تبدل خلالها الوضع أكثر من مرة بين سيطرة الثوار عليها ثم قوات القذافي والعكس. هذا بينما بدا من الأداء العملياتي لقوات التحالف الدولي بقيادة حلف الناتو، أن العمل العسكري لم يعد المسار الأساسي لإدارة الأزمة.

ويشير إلى هذا التقييم كل من السلوك العسكري الفعلي، والخطاب الرسمي الصادر عن مسؤولي الناتو، فضلاً عن الاهتمام المتزايد بالمسار السياسي. فبعد أيام من تجميد الوضع وتراجع معدل طلعات الطيران الدولي، عاودت طائرات الناتو تكثيف طلعاتها الجوية لتأمين حظر الطيران على مختلف مناطق القتال، بالإضافة إلى قصف أرتال من القوات البرية للقذافي لمنع محاولاتها الزحف نحو مناطق سيطرة الثوار، ووقف خطوط إمدادها عبر البحر خصوصاً من ناحية أجدابيا التي ساعد هذا التحرك من جانب الناتو في استعادة الثوار السيطرة عليها مجدداً.

[**تحرك سياسي*]

مقابل هذا الوضع العسكري المعلق، تصاعدت وتيرة الحراك السياسي الرامي إلى تسوية سياسية للأزمة، حيث تحركت مختلف الأطراف المعنية بالأزمة نحو إيجاد صيغة سياسية أو مبادئ أساسية لحلحلة الموقف، بغض النظر عن التطورات العسكرية على الأرض. وتجدر الإشارة إلى أن العمل على المستوى السياسي بدأ منذ شهر تقريباً، عندما بادر الاتحاد الإفريقي بتشكيل لجنة رفيعة المستوى للتدخل والبحث في حلول سياسية، إلا أنها لم تلق استجابة حقيقية لا من جانب القذافي فيما بدا اعتقاداً منه بالقدرة على حسم الأزمة عسكرياً في صالحه، ولا من جانب الثوار الذين كانوا في تلك الفترة في حالة من العنفوان الثوري فرفضوا اقتراح الاتحاد الإفريقي بأن تقوم حكومة القذافي بإصلاحات سياسية، ما يعني الانطلاق من أرضية بقاء القذافي وحصر التغيير المطلوب في إصلاحات يقوم بها. ولم يختلف الموقف كثيراً في ما تلا ذلك من تحركات قامت بها تركيا لتسوية الأزمة، على خلاف اتجاه الحركات السياسية الدولية التي جسدها مؤتمر لندن الذي انعقد في 29 مارس/ آذار الماضي، والذي ناقش الموقف على الصعيدين العسكري والسياسي، وشهد مبادرتين إحداهما فرنسية بريطانية مشتركة، والثانية إيطالية. فقد اعتبرت المبادرتان خروج القذافي من السلطة أمراً أساسياً لأي حل سياسي، بيد أن تلك الفكرة لم تلق استجابة من القذافي، كما لم تتبلور عملياً بين الأطراف المعنية خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن غموض الموقف العربي بشأن فكرة إجبار القذافي على التنحي والخروج من السلطة.

ومع عودة اللجنة رفيعة المستوى الإفريقية إلى الظهور على سطح الأحداث مجدداً، فإن ثمة إشارات إلى أن الحل السياسي المحتمل لن يكون بالضرورة محصوراً في إقصاء القذافي عن الحكم هو وأولاده، وهو ما تشير إليه ملابسات زيارة اللجنة إلى ليبيا ومباحثاتها التي أجرتها مع القذافي ثم مع المجلس الوطني الانتقالي . فقد حظيت مهمة اللجنة باهتمام سياسي وإعلامي من جانب مختلف الأطراف، يشار هنا إلى أن رئيس جنوب إفريقيا جاكوب زوما كان قد غير جدول أعماله للمشاركة في تلك المهمة، ثم عاد إلى بلده سريعاً بعد لقاء اللجنة مع القذافي، تاركاً بقية أعضائها لاستكمال المهمة بالتباحث مع المجلس الوطني في بنغازي. ما يشير إلى أن مهمة اللجنة قد تقررت على عجل وبشكل مفاجئ، وهو ما يحمل دلالات مهمة لجهة فرص تسوية الأزمة وطبيعة تلك التسوية بالنظر إلى أن مهمة اللجنة سبقت مباشرة اجتماع مجموعة الاتصال الدولية (التي تقرر تشكيلها في مؤتمر لندن)، وذلك في الدوحة أمس (الأربعاء)، ما يمكن اعتباره محاولة إفريقية لاستباق ذلك الاجتماع المهم. وتشكل وفد اللجنة من جاكوب زوما رئيس جنوب إفريقيا وأمادو توماني توري رئيس مالي ومحمد ولد عبدالعزيز رئيس موريتانيا ودينيس ساسو نغيسو رئيس الكونغو، ووزير خارجية أوغندا هنري أوكيلو.

ورغم أن الحل الإفريقي الذي يحمل اسم «خارطة الطريق» لا يختلف في جوهره عما كان مطروحاً من جانب اللجنة ذاتها قبل شهر، إلا أن القذافي قبل «الخارطة» هذه المرة بعد مباحثات استغرقت عدة ساعات حرص خلالها القذافي على المظاهر التقليدية للقاءاته كزعيم لليبيا، مثل لقاء اللجنة في خيمته ثم التوجه بالتحية للمواطنين الليبيين تجمعوا خارج الخيمة بعد انتهاء اللقاء. وتضمنت خارطة الطريق الإفريقية المقترحة عدة بنود أهمها :

- الوقف الفوري للأعمال العدوانية.

- تسهيل نقل المساعدات الإنسانية إلى السكان.

- حماية الرعايا الأجانب بمن فيهم العمال الأفارقة في ليبيا.

- إطلاق حوار «بين الأطراف الليبيين» حول فترة انتقالية.

ومن خلال ما ورد في بنود الخطة الإفريقية، يمكن استقراء عدة دلالات في التوجه الإفريقي نحو الحل السياسي وأهمها :

- إسقاط خيار الإطاحة بحكم القذافي، على الأقل ليس بشكل فوري أو في المدى القصير. وهو ما يتعارض مع الشرط الذي وضعته المعارضة الليبية لقبول أي حل سياسي. من هنا أعلن المجلس الانتقالي عدم موافقته على الخطة الإفريقية لأنها لا تتضمن نصاً صريحاً بتنحي القذافي، إذ أعلن رئيس المجلس مصطفى عبدالجليل بعد اجتماعه إلى اللجنة «أن الخطة الإفريقية تجاوزها الزمن».

- وقف النار وليس إنهاء النزاع المسلح. لم تتضمن الخارطة الإفريقية إشارة إلى إنهاء النزاع المسلح القائم بشكل كامل، وإنما نصت على وقف إطلاق النار، الأمر الذي يفقدها شقاً مهماً من مقومات التسوية السلمية للأزمة، حيث يعني ذلك احتمالات استئناف القتال مجدداً من جانب أي طرف، بحجة انتهاك الطرف الآخر لوقف النار. فضلاً عن أن الوضع المتصور بناء على ذلك يربط انتهاء الأزمة بالفترة الانتقالية، ما يجعل المستقبل القريب للوضع الأمني والعسكري مقروناً بما ستؤول إليه المفاوضات السياسية.

- النص على فترة انتقالية تتضمن إصلاحات سياسية يعني أن التغيير السياسي المقترح لن يكون جذرياً حتى في حالة غياب رأس النظام أي القذافي شخصياً. ففكرة الإصلاح تفترض ضمنياً استمرار النظام القائم، أي أن يكون التغيير داخل النظام وليس في النظام ذاته. وهي مسألة جدلية إلى حد بعيد لسببين، أولهما أن المجلس الوطني الانتقالي والمواطنين الليبيين يعتبرون النظام الليبي كله هو الرئيس وعائلته والجوقة المحيطة به، والإبقاء على النظام يعني الإبقاء على كل هؤلاء أو بعضهم، ما يثير مخاوف كبيرة من إجراءات انتقامية شديدة ضد المعارضين وضد مؤيدي الثوار فضلاً عن الثوار ذاتهم. السبب الثاني أنه لا يوجد في ليبيا نظام سياسي بالمعنى الحقيقي خصوصاً من الزاوية المؤسسية.

- حماية الرعايا الأجانب، بمن فيهم العمال الأفارقة، يحمل طياته ضمانات أمنية للعناصر الإفريقية المنتشرة في بعض مناطق ليبيا حالياً، وهي مسألة لها دلالاتها المهمة لجهة موقف المرتزقة الذين يقاتلون لحساب القذافي. وبغض النظر عما إذا كان هذا الجزء من الخطة جاء تلبية لمطلب القذافي، أم بمبادرة من أعضاء اللجنة رفيعة المستوى، الشاهد أن الخطة تتضمن حماية للأفارقة الموجودين في ليبيا، دون إشارة مقابلة بحماية للمعارضين والثوار، فضلاً عن أن هذا بذاته يعني غض الطرف عن الجرائم والانتهاكات التي مارستها عناصر المرتزقة التابعين للقذافي بحق المواطنين الليبيين المدنيين وليس فقط تجاه الثوار المسلحين. وهو أمر قد يتعارض مع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، بل واتفاقيات حماية المدنيين أوقات النزاعات المسلحة.

من هنا، يمكن القول إن التحركات السياسية الجارية والمتصاعدة في الأيام الأخيرة، تركز بشكل أساس على ما يمكن اعتباره تخطياً للمرحلة الحالية بكل ما فيها، والانتقال إلى وضع مختلف سياسياً على وجه الخصوص. ويلاحظ أن هذا التطلع إلى وضع سياسي مختلف غير مصحوب بتحرك أو أية أفكار حول فرص وشروط الوصول إلى وضع عسكري مختلف أيضاً، الأمر الذي يجعل التحركات السياسية الجارية ليست فقط أحادية النظرة، وإنما أيضاً ضعيفة المقومات للنجاح والاستمرار.

ولا يعني ذلك أن الحل السياسي لا بد أن ينطلق بالضرورة من تخلي القذافي عن السلطة، فهذا الاحتمال وارد وغير مستبعد خاصة في ظل عدم التوافق الغربي على المستقبل المتوقع في ليبيا حال رحيل القذافي، وخشية بعض الدول من تحول الساحة السياسية الليبية إلى بيئة مفتوحة للأصولية الإسلامية سياسياً، وللتنظيمات المسلحة عسكرياً. لكن انفصال تلك الأفكار السياسية عن الوضع العسكري وعدم اشتمالها على تصور واضح ومحدد لكيفية التعامل مع الانقسام الفعلي الحاصل على الأرض بين شرق وغرب ليبيا، يجعل الحلول السياسية القائمة على خروج القذافي من السلطة، وهو ما تفضله بعض العواصم الغربية خاصة واشنطن ولندن وباريس عسيرة على التنفيذ ما لم يسبقها تمهيد وتهيئة للوضع العسكري إما بتكثيف العمليات التي تستهدف قوات القذافي مباشرة حتى تفكك منظومته الأمنية وسقوطها، أو بتشديد العمليات غير المباشرة التي تستهدف أي تحرك عسكري لتلك المنظومة والقوات الموالية للقذافي. ما يساعد بدوره على فرض حل سياسي يخرج القذافي من المعادلة السياسية.

وعليه، فإن العامل الخارجي أصبح هو المتغير الحاسم في توجيه دفة الأمور في الأزمة الليبية سياسياً، وهو أساساً المتحكم فيها إلى حد بعيد عسكرياً. وبعد أن اجتمعت القوى الدولية في الدوحة أمس، وتجتمع أطراف أخرى في الجامعة العربية اليوم برئاسة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، فإن الاحتمالات المتوقعة سياسياً أصبحت متشابهة إلى حد بعيد، حيث تشترك جميعها في مبدأ التسوية السلمية، كما أنها تبحث عن الخروج من الأزمة وليس بالضرورة خروج القذافي من ليبيا أو من الحكم. كما يتفق معظمها في الانطلاق من فكرة إدخال إصلاحات على النظام وليس تغير النظام، بدءاً بتغيير رأس النظام.

[**استبعاد الحسم العسكري*]

وخلاصة تلك الملامح التي تتبلور سريعاً للصورة العامة في ليبيا، أن الحسم العسكري الذي سيؤدي بدوره إلى حسم سياسي، يبدو غير مطروح من جانب أي قوة بدءاً بالناتو الذي يقود العمليات العسكرية وفي قدرته ترجيح كفة الثوار أو كشفهم أمام قوات القذافي. ما يفسر بدوره أن الحلول السياسية المطروحة كلها لا تفتح باباً لحسم نهائي للأزمة بإنهاء حكم القذافي سواء كشخص أو كنظام. ما يعني في التحليل الأخير أن السيناريو الأرجح هو بقاء الوضع على ما هو عليه بكل مشتملاته، كر وفر عسكري وانتصارات محدودة وتكتيكية لكل طرف بشكل تبادلي. مع الاحتفاظ بالمواقع الرئيسة والتوازن القتالي والاستراتيجي العام برعاية وبضمانة عسكرية من جانب الناتو. وصيغ سياسية مرحلية غير شاملة لا تحمل مقومات نجاحها في إنهاء فعلي وسليم للأزمة. والمغزى الأبعد الكامن الذي يمكن استشرافه من كل ذلك، أن ليبيا مقبلة على صراع عسكري مفتوح وممتد، وفراغ سياسي بين بقايا نظام فقد شرعيته لدى كثير من دول العالم، وكيان وليد لم يحظ بعد بمقومات الدولة حتى تطمئن له القوى الكبرى في العالم. ما يعني أن ليبيا مقسمة فعلياً على الأرض، ومحل انقسام أيضاً حولها في البيئتين الإقليمية والدولية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2165261

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165261 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010