الأربعاء 13 نيسان (أبريل) 2011

غزة صداع مزمن للكيان

بقلم / رائد لافي
الأربعاء 13 نيسان (أبريل) 2011

«إسرائيل» هي من بدأت التصعيد العسكري الأخير في قطاع غزة، وليس كما يكذب ويدعي قادتها بأن غاراتها الجوية وقصفها المدفعي المكثف، الذي أودى بحياة 18 فلسطينياً وحوالي 70 جريحاً، جلهم من المدنيين وبينهم نساء وأطفال، في غضون ثلاثة أيام فقط، جاء رداً على ما وصفوه بتجاوز حركة «حماس» للخطوط الحمر، باستهدافها حافلة ركاب تقل تلاميذ مدارس، وإصابة طفل بجروح بالغة، وإصابة سائق الحافلة بجروح طفيفة، ظهر يوم الخميس الماضي السابع من إبريل/ نيسان الجاري.

في 31 مارس/ آذار الماضي توافقت فصائل المقاومة في غزة على التهدئة طالما التزمت بها «إسرائيل»، وذلك بعد أيام من التدهور الأمني، لكن «إسرائيل» لم تلتزم ولم تحترم هذه التهدئة التي بادرت إليها الفصائل، وواصلت طلعاتها وغاراتها الجوية، وكانت أخطرها الغارة التي نفذتها طائرة حربية «إسرائيلية» فجر يوم السبت الثاني من نيسان الجاري، واغتالت فيها القيادي البارز في كتائب عز الدين القسام الذراع العسكرية لحركة «حماس» إسماعيل لبد، ومعه ناشطان آخران هما شقيقه عبد الله، ورفيقه محمد الداية.

مرت أيام قبل أن ترد حركة «حماس» على عملية الاغتيال، بإطلاق صاروخ «كورنيت» مضاد للدروع على حافلة الطلاب، التي أكدت الحركة فيما بعد أنها لم تكن تستهدفها عمداً، ولكن الحافلة كانت تسير على طريق عسكرية قريبة من السياج الحدودي مع قطاع غزة.

لم تحتمل «إسرائيل» هذا الهجوم من حركة «حماس»، ورأت فيه تعدياً للخطوط الحمر، وسعياً من الحركة لتغيير قواعد اللعبة.

الرد «الإسرائيلي» على هجوم «حماس» كان قوياً ودموياً، إذ نفذت الطائرات الحربية عشرات الغارات الجوية، بالتزامن مع قصف مدفعي مكثف على امتداد السياج الحدودي المحيط بالقطاع، أسفرت عن استشهاد 18 فلسطينياً وجرح حوالي 70 آخرين، بينهم عدد كبير في حال الخطر، وسط تهديدات ومطالبات من أركان الحكومة «الإسرائيلية» والمعارضة على حد سواء، بشن حرب شاملة وموسعة ضد القطاع، لاستعادة ما وصفوها بـ «قوة الردع» التي تحققت في الحرب الماضية التي تطلق عليها «إسرائيل» عملية «الرصاص المصبوب» قبل أكثر من عامين، ويرون أن هذه القوة قد تآكلت مع مرور الوقت.

ولعلنا لن نكون مغالين أو مبالغين بالقول إن ما شهده قطاع غزة على مدار ثلاثة أيام بدأت عقب الهجوم على الحافلة وحتى فجر الأحد العاشر من نيسان الجاري، لم يكن تصعيداً وحسب، وإنما حرب مصغرة، أعادت إلى أذهان الفلسطينيين ذكريات الحرب الماضية، التي اعتمدت «إسرائيل» في أيامها الأولى على القصف الجوي المكثف، قبل أن تخوض الحرب البرية في اليوم الثامن من أيام الحرب الـ 22.

وبدا لافتاً أن «إسرائيل» تقود حربها ضد غزة، وسط انشغال المحيط العربي بثوراته التصحيحية المطالبة بالإصلاح السياسي والديمقراطية، ومعها تراجع الخبر الفلسطيني إلى مرتبة متأخرة في نشرات الأخبار، بعدما كان لفترة طويلة يحتل صدارة الترتيب.

لا يمكن التقليل من أهمية ما يدور في ساحات العديد من الدول العربية من ثورات تستحق أن يتم تركيز الضوء عليها، ولكن لا ينبغي لوسائل الإعلام العربية أن تغفل الساحة الفلسطينية، لما تتمتع به من خصوصية، ولابد من مواصلة منحها أهمية إعلامية متقدمة، وعدم منح الاحتلال الفرصة للاستفراد بها وارتكاب الجرائم تحت ستار من التعتيم أو الإهمال.

الحرب «الإسرائيلية» المصغرة التي تعرضت لها غزة، توقفت إثر تدخل مصري وغربي، تكلل بالتوصل إلى تهدئة ميدانية غير مكتوبة تقضي بوقف «إسرائيل» عملياتها العسكرية في مقابل توقف حركة «حماس» وفصائل المقاومة عن إطلاق الصواريخ انطلاقاً من القطاع على البلدات والتجمعات الاستيطانية «الإسرائيلية» المحيطة بالقطاع، داخل فلسطين المحتلة عام 48.

وقبل البحث في هذه التهدئة، هل سيكتب لها النجاح أم ستسقط كما سقطت سابقاتها، ينبغي طرح الأسئلة التالية : لماذا تبادر «إسرائيل» بين الحين والآخر لاستفزاز فصائل المقاومة في غزة؟، وهل تسعى «إسرائيل» إلى إعادة احتلال قطاع غزة؟، وهل في مخططات «إسرائيل» القضاء على حكم حركة «حماس» في القطاع؟.

الإجابة عن السؤال الأول هي أن «إسرائيل» لا تريد لفصائل المقاومة أن تلتقط أنفاسها، وأن تعمل بهدوء على تعزيز قدراتها العسكرية والتزود بأسلحة متقدمة، تخل بقواعد اللعبة المعروفة، ولذلك فإن «إسرائيل» تعمل بين الحين والآخر على توجيه ضربات استفزازية الغرض منها الكشف عن القدرات العسكرية التي وصلت إليها فصائل المقاومة في غزة، وبناء عليه تستطيع «إسرائيل» رسم خططها للتعامل مع غزة.

لكن يبدو أن فصائل المقاومة، وحركة «حماس» تحديداً، باتت تدرك هذه الحيلة «الإسرائيلية»، ولم تعد تنساق سريعاً إلى ردود فعل غير مدروسة، وتحرص على الرد على العدوان وفق خطوات مدروسة، ووفق ما يتطلبه الواقع الميداني وبحسابات سياسية واضحة، وهذا ما لاحظته المؤسسة العسكرية «الإسرائيلية» في التصعيد الأخير، عندما قالت إن حركة «حماس» لم تظهر قدرتها العسكرية الفعلية، وفضلت الاحتفاظ بقدراتها وعدم استخدامها هذه المرة وعدم الانجرار لمحاولات «إسرائيل» لكشفها، واكتفت بضرب المواقع القريبة من القطاع.

في الحرب السابقة على غزة، استخدمت حركة «حماس» لأول مرة صواريخ قصفت بها بلدات «إسرائيلية» على بعد 60 كيلومتراً في عمق فلسطين المحتلة عام 48، ويبدو أن «إسرائيل» على قناعة أن الحركة تمكنت في العامين الماضيين عقب الحرب من التزود بصواريخ ذات أبعاد أطول، حتى أن مسؤولين «إسرائيليين» صرحوا في الآونة الأخيرة أن الحركة تمتلك صواريخ تصل لأبعد من 70 كيلومتراً وبإمكانها قصف تل أبيب، وهي التصريحات التي ردت عليها الحركة بسياسة «الغموض البناء»، فلم تنف ولم تؤكد، واكتفت باتهام الاحتلال بالمبالغة والتهويل، لتبرير أي عدوان ضد غزة.

وبالنسبة للسؤالين المتعلقين بإعادة احتلال قطاع غزة، وإسقاط حكم حركة «حماس»، يبدو أنه من المستبعد جداً أن تفكر «إسرائيل» مجدداً باحتلال القطاع، لما مثله هذا القطاع الساحلي الصغير لها من صداع مزمن، وتحديداً منذ احتلاله في العام 1967، حيث مثل القطاع خلال العقود الأربعة الماضية الحاضنة لكل فصائل المقاومة، ومنه انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى (1987-1993)، التي لم تستطع «إسرائيل» القضاء عليها عسكرياً، فعمدت إلى إخمادها بجر منظمة التحرير إلى مربع التسوية، ونجحت على مدار العشرين عاماً الماضية منذ مؤتمر مدريد في العام 1991 في الزج بالقضية الفلسطينية وبالمشروع الوطني التحرري في متاهات المفاوضات العبثية.

هذه هي غزة ذاتها التي صرح رئيس وزرائها الراحل إسحق رابين حين كان قائداً لهيئة الأركان في جيش الاحتلال «أنه يتمنى لو يستيقظ يوماً ويرى غزة وقد ابتلعها البحر»، وهي غزة التي أجبرت رئيس الوزراء «الإسرائيلي» الأسبق أرييل شارون وهو الأب الروحي للمشروع الاستيطاني اليهودي منذ أن عمل وزيرا للزراعة عام 1977، على الهروب منها وإخلاء مستوطناتها بيده في العام 2005، خشية من قنبلتها الديموغرافية، وهو الذي قال يوماً أن مستوطنة نتساريم (كانت أصغر مستوطنات القطاع قبل الانسحاب) بأهمية تل أبيب لديه.

استناداً لذلك، لا يبدو أنه وارد في مخططات «إسرائيل» إعادة احتلال القطاع، حرصاً منها على عدم العودة إلى صداعها من جديد، وما سيمثله لها القطاع من قلق دائم، وربما يكون الحل الأمثل الذي تسعى إليه هو الانفصال تماماً عن القطاع، وإلقاء المسؤولية عنه في وجه مصر، هذا ما كانت تفكر به قبل سقوط نظام الرئيس المصري حسني مبارك، لكن يبدو أن الحسابات اختلفت بالتغيير الذي طرأ على السياسة المصرية الحالية تجاه غزة، وهذا ما بدا واضحاً بطريقة تعاطي الخارجية المصرية مع أحداث التصعيد في غزة، وتحذيرها «إسرائيل» من مغبة شن حرب على القطاع، ومن ثم تدخلها الفاعل لوقف التصعيد «الإسرائيلي».

لا يبدو أن «إسرائيل» تمانع في الانفصال عن غزة كلياً، بل لعل التصريحات المعلنة لقادتها تصب في هذا الاتجاه، شرط أن تضمن أمنها وخروج القطاع من دائرة الصراع. وفي هذا السياق جاءت الخطة التي أعلنت عنها «إسرائيل» أخيراً وتتضمن إقامة جزيرة في البحر على بعد أربعة كيلو مترات ونصف من شاطئ غزة تشمل هذه الجزيرة مطاراً وميناءً بحرياً، بما يتماشى مع تصريحات رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو قبل ثلاثة شهور بأنه يريد فصل البنية التحتية تماماً مع القطاع، وهكذا تتحقق لـ «إسرائيل» فرصة خداع العالم بأن غزة أصبحت دولة مستقلة بذاتها، ويكون معها كامل الحق لضربها بكل قوة ومن دون أن تخشى أي رد فعل دولي في حال شعرت بتهديد أمنها انطلاقاً من القطاع.

هذا التصور لا يمكن له أن يتحقق في ظل وحدة الفلسطينيين، وربما يكون أحد دوافع التصعيد «الإسرائيلي» الأخير إفشال الزيارة المرتقبة للرئيس محمود عباس من أجل بحث المصالحة مع حركة «حماس» لإنهاء الانقسام القائم منذ حوالي أربعة أعوام. ويمكن لهذا الأمر أن يفسر إقدام «إسرائيل» على اغتيال ناشطين من عناصر كتائب القسام في السادس عشر من مارس/ آذار الماضي، بقصف موقعهما جنوب غزة، بينما كان الوضع هادئاً، وتزامنت مع إعلان الرئيس عباس عن نيته زيارة غزة.

«إسرائيل» حريصة على بقاء الخلاف الفلسطيني وتعميقه، ولعل في هذا إجابة بالنفي على السؤال الخاص بإسقاط حكم حركة «حماس» في القطاع، ذلك أن وجود حكومتين وسلطتين فلسطينيتين متنازعتين يمثل مصلحة «إسرائيلية»، وهذا الأمر يتطلب بقاء حركة «حماس» في الحكم، ولكن شرط أن لا يمثل وجودها تهديداً لأمن «إسرائيل».

تدرك «إسرائيل» أن إسقاط حكم حركة «حماس» إن كانت تستطيع ذلك فعلاً - يشكل مغامرة كبيرة، ربما تؤدي إلى القضاء تماماً على مخططها بالانفصال عن غزة، والتنصل من مسؤولياتها كدولة احتلال إزاء مليون ونصف المليون فلسطيني يقطنون في القطاع.

تريد «إسرائيل» من وراء اعتداءاتها بين الحين والآخر، أن تخضع غزة وتكسر إرادتها، وليس إعادة احتلالها، ولو أن الوضع في الضفة الغربية الساكنة بفعل دور الأجهزة الأمنية وملاحقة فصائل المقاومة ونزع أسلحتها، مماثلاً لنظيره في القطاع، لشكل ذلك عامل قوة كبيراً تعجز معه «إسرائيل» في الاستفراد بالقطاع، مثلما عليها الحال في كل مرة.

وكما أن لـ «إسرائيل» حساباتها، فإن لحركة «حماس» التي تحكم القطاع منذ إطاحتها بغريمتها حركة «فتح» والأجهزة الأمنية الموالية لها في منتصف يونيو/ حزيران 2007، حساباتها الخاصة، فالحركة تريد أن توازن بين مشروعها السياسي ومشروع المقاومة الذي رفعت لواءه منذ انطلاقها في العام 1987، من دون الانزلاق إلى حرب شاملة، تدرك الحركة أن غزة لا تحتملها حالياً وهي التي لا يزال جرحها نازفاً منذ الحرب السابقة، فضلاً عن كون الظروف العربية القائمة حالياً بفعل الثورات الشعبية، تمنح الاحتلال أفضلية في ارتكاب الجرائم مستغلة الانشغال العربي وحتى الدولي بالتغيرات التي تشهدها الخارطة السياسية للمنطقة.

تفضل حركة «حماس» الانتظار، وتراهن على أن يصب التغيير المتلاحق في الأنظمة العربية لصالحها، وتكتفي إلى ذلك الحين بردود محسوبة على الاعتداءات «الإسرائيلية»، لا تستجلب ردود فعل «إسرائيلية» قاسية قد تكلفها كثيراً، وتحد من طموحها السياسي الذي تسعى إليه ببطء ودون إعلان صريح، بقيادة الشعب الفلسطيني، خلفاً لغريمتها حركة «فتح» التي ظلت تمتلك القرار الوطني لأربعة عقود، وتبدو حالياً في أضعف مراحلها، ولا يحفظ لها مكانتها إلا وجود زعيمها الرئيس عباس في منصب رئاسة السلطة الفلسطينية.

غزة لم تعتد على رفع الراية البيضاء، بل اعتادت على التعامل بندية مع خصومها وأعدائها. صحيح أن فصائل المقاومة في غزة لا تمتلك ترسانة متطورة - حتى إن صدقت «إسرائيل» في تهويل قدرات الفصائل العسكرية - ولكنها تمتلك إرادة قوية تأبى الانكسار، ومن هنا كان إصرار الفصائل في التهدئة الأخيرة التي توسطت فيها مصر وأطراف غربية، بأن تكون متبادلة «تهدئة مقابل تهدئة»، ورفض قواعد اللعبة الجديدة التي تسعى «إسرائيل» إلى فرضها وتقوم على «القتل مقابل الصمت»، وتعمل بموجبها على تصفية من تصفهم بـ «القنابل البشرية الموقوتة» في إشارة إلى نشطاء المقاومة الذين ترى أنهم يشكلون خطراً عليها، من دون أن يكون لفصائل المقاومة الحق في الرد، الأمر الذي ترفضه الفصائل، ويتهدد بانهيار التهدئة في أي لحظة جنون «إسرائيلية».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2178765

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2178765 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40