الخميس 5 أيار (مايو) 2011

عودة قوى مصر الناعمة

الخميس 5 أيار (مايو) 2011

تتجه مصر بخطوات حثيثة نحو استعادة دورها الإفريقي والعربي، بعد ثلاثة عقود ظلت خلالها العلاقات المصرية - الإفريقية العربية تراوح مكانها، وسط غياب كامل للدبلوماسية الرسمية عن التعاطي مع العديد من الملفات القارية المهمة وفي مقدمتها ملف المياه، الذي يعد أحد أخطر ملفات الأمن القومي للبلاد.

وتعوّل مصر كثيراً على «قواها الناعمة» بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، في إصلاح ما أفسده النظام السابق طيلة فترة حكمه التي جاوزت الثلاثين عاماً، ليس فقط في محيطها الإفريقي والعربي بل والإسلامي أيضاً، وقد تجسد ذلك في تلك الرحلات المكوكية، لوفود الدبلوماسية الشعبية التي استهلت برنامج عملها في القارة الإفريقية قبل أسبوعين، بزيارة إلى أوغندا ولقاء الرئيس موسيفيني، تلتها زيارة أخرى إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، في محاولات اعتبرها مراقبون خطوة جادة على طريق استعادة مصر دورها الريادي في محيطها الإفريقي.

عادت فكرة الدبلوماسية الشعبية بقوة كأحد أبرز تجليات الثورة المصرية الوليدة، عبر مبادرة طوعية تبناها شباب الثورة، قبل أن تحظى هذه المبادرة بدعم سياسي من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وعدد من الأحزاب المصرية الكبيرة التي أجهضت ممارسات النظام السابق، محاولاتها الحثيثة للعمل على استعادة الدور المصري المفقود في محيطه القاري والعربي والإسلامي، وإن ركزت المبادرة في برنامجها الرئيسي على الاهتمام أولاً بعودة العلاقات الدافئة مع دول حوض النيل، التي تشكل في نظر كثيرين «دائرة الانتماء الرابعة» مع الدوائر الثلاث التي نادت بها ثورة 23 يوليو 1952 وهي الدوائر العربية والإفريقية والإسلامية.

المؤكد أن توقيع اتفاقية المصالحة الفلسطينية بين «فتح» و«حماس»، يعد أبرز تجليات استعادة مصر دورها الإقليمي في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير، فعلى مدى سنوات القطيعة بين «حماس» والسلطة، لم تنجح مصر برغم تلك الزيارات المكوكية التي قام بها رئيس جهاز المخابرات العامة ونائب الرئيس السابق عمر سليمان إلى الأراضي المحتلة في التقريب بين الطرفين، وهو ما اعتبره مراقبون دليلاً جديداً يضاف إلى قائمة الاتهامات الموجهة للنظام السابق بموالاة «إسرائيل» التي بدا من وقائع الأحداث أنها كانت حاضرة وبقوة في المشهد، بطريقتها الخاصة عبر مبارك، وهو الأمر الذي أكده من قبل أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في أثناء إحدى زياراته ضمن جولات الحوار التي كانت تجري في القاهرة، عندما ألمح صراحة إلى أن السبب الرئيس وراء تعطيل المصالحة كان ينبع من شعور الطرفين بأن الوسيط المصري «غير نزيه» عبر انحيازه الدائم لوجهة نظر السلطة الفلسطينية من دون الوضع في الاعتبار الرأي الآخر المتمثل في رؤية حماس للاتفاق وبنوده.

[**العودة إلى «الدوائر الأربع»*]

استعادة مصر لدورها الإقليمي والعربي على وجه الدقة تجلى أكثر خلال الأيام القليلة الماضية في تلك الزيارات التي بدأها الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء المصري، وهي زيارات بنظر كثيرين تتوازى مع تلك الزيارات التي يقوم بها وفد الدبلوماسية الشعبية إلى القارة الإفريقية، والتي يخطط من خلالها للتواصل مع دول حوض النيل، وإن كان الاتجاه ناحية الشرق في هذه الفترة يكتسب أهمية خاصة، من أجل تأكيد ليس فقط عمق الروابط العربية المصرية، وإنما لجهة إضفاء مزيد من الثقة على توجهات الثورة الوليدة التي تسعى إلى فتح صفحة جديدة مع جميع الأشقاء من دون استثناء في محيطها العربي والإسلامي.

وينظر كثير من المراقبين في مصر إلى «الدوائر الأربع» التي تسعى ثورة الخامس والعشرين من يناير إلى التحرك فيها خلال المرحلة المقبلة، باعتبارها متلاحمة على نحو لا يمكن الفصل في ما بينها، أو تقديم دائرة عن أخرى، انطلاقاً من طبيعة مصر باعتبارها «الشقيقة الكبرى» ليس فقط لشقيقاتها من الدول العربية، وإنما أيضاً لجيرانها من الدول الإفريقية العشر التي تتشارك معها في مياه النيل، فمصر كانت ولا تزال هي أرض العمران الأول على امتداد وادي النيل، وقد اخترقت بمؤثراتها الحضارية على مدى قرون من الزمان العديد من دول الجنوب الإفريقي، وهو ما تجلى على نحو واضح في العديد من القواسم المشتركة بين الحضارات المصرية المتعاقبة، وبين حضارات ممالك إفريقية عديدة من حضارة «كوش» التي لا تخلو من ملامح مصرية أصيلة.

وتسعى الدبلوماسية الشعبية المصرية خلال جولاتها المكوكية في القارة الإفريقية إلى تفعيل مبادئ إعلان القاهرة للمياه الإفريقية، الصادر عن الندوة الدولية لسياسات تكنولوجيا المياه في القارة المنعقد في 27 يونيو/ حزيران من عام 1990، إذ يعد هذا الإعلان أحد أهم الوسائل التي يمكن التأسيس عليها لجهة إحداث تنمية حقيقية وتدعيم أواصر التعاون بين الدول الإفريقية، بروح الاعتماد الجماعي على الذات، وباعتبار هذا التعاون هو الضمانة الحقيقية الوحيدة لتأمين الحقوق المصرية التاريخية والقانونية في مياه النيل.

وتستند مصر في تحركاتها الإفريقية إلى تاريخ طويل من العلاقات الدافئة التي بلغت ذروتها مع ثورة 23 يوليو في عام 1952، التي كشفت عن وجه مصر الإفريقي، فعبرت لأول مرة حاجز الصحراء، الذي كان يفصل بين الشمال الإفريقي وجنوب القارة السوداء، وقد تزامن هذا العبور في الستينات من القرن الماضي مع تحركات إفريقية حقيقية باتجاه البحث عن هوية، وهو الأمر الذي لعب دوراً كبيراً في أن ينال التوجه المصري إلى إفريقيا اهتماماً كبيراً من جانب الأفارقة أنفسهم، لتتحول مصر في غضون سنوات قليلة إلى جسر لتدعيم أواصر العلاقات العربية الإفريقية، وقد تجلى ذلك في أول مؤتمر إفريقي يعقد بعد تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية في عام 1963، إذ لم يكن هناك سوى دولتين من الجنوب نالتا الاستقلال هما ليبيريا وإثيوبيا، ثم انضمت إليهما غانا في ما بعد، بينما اشترك في المؤتمر خمس دول عربية من شمال إفريقيا.

لعبت مصر خلال الفترة من عام 1952 وحتى عام 1977 دوراً مهماً على الساحة الإفريقية، وقد تحولت طوال فترة الستينات إلى معقل للثورات وحركات التحرر الإفريقية، وذلك عبر عدد من الفعاليات السياسية ربما كان من أهمها إنشاء الرابطة الإفريقية في عام 1955 بالقاهرة، وقد كانت هذه الرابطة هي البوابة الرئيسة التي قدمت من خلالها مصر خلال تلك الفترة الدعم العسكري والمادي والتدريبي لمعظم حركات التحرر الإفريقية.

بلغت العلاقات المصرية الإفريقية ذروتها عندما قطعت الغالبية العظمى من الدول الإفريقية علاقاتها مع «إسرائيل» بعد وقوع العدوان «الإسرائيلي» على مصر في عام 1967، ووقوف دول القارة السمراء إلى جانب الحق العربي بقوة في حرب أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1973، وقد توجت هذه العلاقات بانعقاد أول قمة عربية إفريقية بالقاهرة في مارس من عام 1977.

لم يكن غريباً إذن أن يحظى الوفد المصري المسافر إلى أوغندا قبل أسبوعين بكل هذه الحفاوة من قبل الشعب الأوغندي، والرئيس موسيفيني نفسه الذي رد على أحد أعضاء الوفد المصري الذي قال له على مائدة مستديرة استمرت قرابة أربع ساعات: لقد جئنا لأوغندا من أجل صفحة جديدة، فرد عليه الرئيس الأوغندي: «لا بل صفحة قديمة كانت فيها مصر قائدة ومضيئة، قبل أن يحدث غيابها فراغاً كبيراً»، وقد تعهد موسيفيني في هذا الاجتماع الذي ضم مجموعة من السياسيين والمثقفين المصريين إلى جانب ممثلين لشباب الثورة بأن بلاده «لن تسمح بأي مشروع يضر بأي فرد مصري»، وأنها لن توقع على الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل التي قال إنها «لن تدخل حيز التنفيذ إلا إذا وافقت عليها مصر».

الحاصل أن مصر عاشت على مدى فترة السبعينات وبداية الثمانينات على ذكريات ذلك الدور الحيوي الكبير الذي لعبته في القارة الإفريقية في أثناء الحقبة الناصرية، قبل أن تبتعد تماماً عن هذا المحيط الحيوي لأمنها القومي اعتباراً من النصف الثاني من الثمانينات، وما تبع هذا الغياب مع مرور الوقت من فقد القاهرة لتأثيرها المباشر وحضورها القوي في العديد من الملفات المهمة ومن أخطرها ملف مياه النيل.

وبحسب مراقبين فقد برر النظام السابق هذا الغياب في غير مناسبة بالكلفة المالية الباهظة للحضور على طريقة الستينات، وهو ما كان يعكس قراءات سطحية لحجم وقيمة هذه العلاقة، وقد دعم هذا التوجه تبني الدبلوماسية الرسمية في وقت من الأوقات لنظرية المؤامرة، سواء عبر إطلاق أوهام كبرى حول أدوار «إسرائيلية» غير معلنة في دول حوض النيل والقارة الإفريقية، أو الإشارة ضمناً إلى كراهية بعض قيادات دول المنابع لمصر، على خلفية تعرض الرئيس السابق لمحاولة اغتيال فاشلة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في عام 1999، وقد دفعت كل هذه الأوهام النظام السابق إلى التلويح باستخدام القوة العسكرية في التعاطي مع ما وصفه بأي تهديد يتعرض له أمن مصر المائي.

وعلى رغم الموقف الدبلوماسي الرسمي المرتبك تجاه العديد من القضايا الإفريقية المهمة، إلا أن قوى سياسية عديدة ظلت تنادي على مدى السنوات العشر الأخيرة بضرورة البحث عن صياغة جديدة للدبلوماسية المصرية، تستهدف صناعة مقاربة واقعية تجاه دول حوض النيل، وتبحث من جديد عن إمكانات التوافق بين مصالحنا ومصالح بقية الجيران في القارة السمراء، وذلك عبر إحياء قوة مصر الناعمة، وإعادة إشعاعها الحضاري.

عندما تفجرت أزمة الاتفاقية الإطارية الأخيرة لدول منابع النيل تجسد الفشل الكبير للدبلوماسية الرسمية في مصر بعد أن وقعت خمس من دول المنابع على الاتفاقية التي تتجاهل الحقوق التاريخية لمصر والسودان في مياه النهر، بل والاتفاقات الدولية سارية المفعول والمعمول بها منذ عقود طويلة، لتقسيم حصص المياه. وبحسب المحلل السياسي المعروف الدكتور عمرو حمزاوي فقد استيقظت الدبلوماسية المصرية على خلفية الكارثة الجديدة لكنها لم تنتج سوى خطاب رسمي لم يخل من تحايل على الذات، ربما بغرض تخفيف وقع الكارثة، فراح يقلل من أهمية الاتفاقية الإطارية مشدداً على طابعها غير الإلزامي، وكونها لا تمثل سوى موقف أقلية من بين دول حوض نهر النيل، في الوقت الذي ظهر فيه جلياً أن غالبية دول الحوض تتبنى الاتفاقية، وتكتسب لذلك زخماً إقليمياً حقيقياً.

عدلت مصر الرسمية من توجهها لتناشد دول الحوض العودة إلى مائدة المفاوضات الجماعية، فبدأت بإرسال الوفود إلى بعض عواصم دول الحوض بحثاً عن بداية جديدة للحوار معها، فيما عرف حينذاك بدبلوماسية اللحظة الأخيرة، لكن هذه الطريقة لم تثمر عن نتائج إيجابية وإنما عكست إلى حد كبير نتائج الغياب الكبير للدور المصري النشيط والفعال عن حوض النيل، ومحدودية العلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية مع دوله.

ظلت الدبلوماسية الرسمية المصرية حسبما يرى كثير من المراقبين تتعامل مع ملف تقسيم مياه النيل بخليط من النهج التأجيلي والتحايلي الذي قللت بمقتضاه طويلاً، من أهمية نزوع بعض دول المنابع إلى تجاهل حقوق مصر في المياه، فلم تأخذ القاهرة على سبيل المثال الحديث المتواتر للمسؤولين الإثيوبيين والأوغنديين عن رفض «سطو» مصر والسودان على مياه النيل على محمل الجد، ويقول حمزاوي: «حتى عندما حلت كارثة توقيع الاتفاقية الإطارية، لم تتجاوز الدبلوماسية الرسمية في فعلها حدود دبلوماسية ما بعد وقوع الكارثة، بتركيزها على التحرك السريع دون مقاربة استراتيجية واضحة، واهتمامها بالتداعيات دون النظر في المسببات».

[**آثار غياب الدور*]

ويرى كثيرون أن غياب الدور المصري في إفريقيا لم يكن سوى تجسيد حي لغياب دورها الحقيقي في محيطها الشرق أوسطي، بعد تراجع ريادة مصر وإشعاعها الحضاري، وانقضاء عصر الانبهار بها كنموذج يحتذى به خلال الفترة الناصرية التي تبنت مصر خلالها العديد من قضايا التحرر الوطني، ومناهضة الاستعمار على امتداد القارة، وما تبع ذلك خلال فترة التسعينات من طغيان للغة المصالح على علاقات القاهرة مع الغرب، وهو الأمر الذي جعل من مناهضة بعض دول حوض نهر النيل للمصالح المصرية أمراً طبيعياً، خاصة بعد أن تحولت النظرة إلى القاهرة في بعض أرجاء القارة، إلى دولة غريبة بدلاً من دولة شريكة .

ويعوّل كثير من المصريين الآن على الدبلوماسية الشعبية باعتبارها أحد السبل التي تنتهجها ثورة الخامس والعشرين من يناير لإصلاح ما أفسده النظام السابق، ولسان حال هؤلاء يقول: ربما لا نملك الأموال الطائلة حتى ننفقها على تنمية شعوب إفريقيا، لكننا نملك بدلاً من ذلك آلاف من العلماء وأساتذة الجامعات من أصحاب الخبرة والقدرة الذين يمكن الاستفادة بهم في إنشاء وإدارة جامعات ومدارس ومستشفيات مجانية في دول منابع النيل، وربما لا نملك الأموال اللازمة لإنشاء المصانع والمزارع الضخمة لكننا نملك في الوقت ذاته الأزهر الشريف والكنيسة الأرثوذكسية، بما يملكانه من سلطة روحية على عدد كبير من مسلمي ومسيحيي هذه الدول، ويقول شباب الثورة إن قوة مصر الناعمة لا تنحصر فقط في الدعم الحكومي وإنما تمتد أيضاً إلى العديد من منظمات المجتمع المدني ورجال الأعمال، الذين أصحبوا مطالبين من اليوم بالعمل سريعاً على البدء في مشروعات تنموية تستهدف خدمة شعوب تلك الدول، فالمسألة جد خطيرة والتحرك الشعبي مطلوب وأساسي لمساندة أي جهد حكومي من شأنه أن يساعد مصر على استعادة دورها المفقود في محيطها الإفريقي .

- **المصدر : صحيفة «الخليج» الاماراتية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2182192

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

26 من الزوار الآن

2182192 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40