الثلاثاء 17 أيار (مايو) 2011

للنكبة طعم آخر هذا العام!

الثلاثاء 17 أيار (مايو) 2011 par د. نهلة الشهال

لم يبق شيء لم نسمعه بخصوص المؤامرة والتلاعب اللذين يقبعان في عمق الثورات العربية الجارية، مِن أن واشنطن تحرك الخيوط تحت ستارة تطلُّب الحرية والكرامة والخبز، وأنها تقطف اليوم ثمرة صرفها الملايين على مؤسسات المجتمع الأهلي في البلدان العربية المختلفة، وأنها تحقق بذلك الشرق الأوسط الجديد الذي دعت إليه، وأن الثورات الجارية وطنية (بالمعنى المحلي) وديموقراطية (بالمعنى الليبرالي)، ولا علاقة لها بمفهوم الأمة العربية، ولا بفلسطين... بل راحت «دلائل» تدعِّم هذه المقدمات، ومنها التوصل الى اتفاق المصالحة الفلسطينية، والمباشرة بضم الأردن فجأة الى دول مجلس التعاون الخليجي. فقيل بتعالٍ : هاكم التمهيدات اللازمة لصفقة وشيـكة مع «إسرائيل»، تهندسها الولايات المتحدة وتعيد رسم خريطة المنطقة لجعلها ملائمة لها. بل حتى قتل بن لادن «الآن» أُدخل في هذا السياق.

ينبئ هذا الاعتقاد الشائع الى حد كبير عن مقدار الافتقاد العام للثقة بالنفس، وبأنه يمكننا الانجاز، وإنْ تطلب الأمر بالضرورة المرور بصعوبات وعوائق وتعقيدات لا تحصى، راحت هي الأخرى، حالما أطلت برأسها، تمد ذلك الاعتقاد بأسانيد. ويرغم أن الناس فرحت بالثورات وأبدت الاستعداد لدفع اثمانها دماء وتضحيات شتى، ودفعتها بالفعل، ولكنه في مكان ما من عقولهم كان هذا الوسواس ينخر ويؤلم. وكلما ابتعدنا عن النواة الفاعلة في الثورات، وكلما ابتعدنا عن مواطنها، قويَ الوسواس. ولعل ذلك أمر طبيعي، فنحن في منطقة عانت من الهزائم والخيبات كما لم تعانِ سواها، واستُهدفت من قبل الغرب بشكل مركز وعلى صعد متنوعة، وأمكن بناء على ذلك، دفع نخبها الى التخلي عن دورها، بالتدجين والإغراء أو بالإرهاب والتيئيس. وهي اعتادت بناء على هذا التخلي الاّ تمتلك تأويلاً ولا رؤية لواقـعها ولا تطلباً لأفق. فصارت السياسة ثرثرة لفظية ديماغوجية، وتوطَّن في الوجدان أن وراء كل شيء ـ من كلام وأحداث ـ معنى غير مصرح عنه، هو الفعلي.

والأدهى أن مثقفين و«خبراء» يسيِّدون في مداخلاتهم هذا الرأي، مستطلعين على الدوام الموقف الأميركي بغاية قراءة الأحداث، وكأن الإرادة والإدارة الأميركيتين تحركان أزرار لعبة من ألعاب الفيديو. وعلى الرغم من ملاقاة آراء هؤلاء السينيكيين ـ وهم يرون في مواقفهم براغماتية ليس إلاَّ ـ للاعتقاد الشائع، فهم معلقون في الهواء، وأرجلهم ليست على الأرض. وقد أخطأوا في قراءة ما يجري، ولم يكن نقيض ذلك في مقدورهم بحكم الموقع والمسار اللذين يطبعان سِيَرهم. فهذه بالفعل ثورات تبحث عن وسائل تأصيلها، وتتلمس بتوفق متفاوت، وبطريقة صراعية، هذا الهدف. بدلالة الكم الهائل من الأمل الذي حركته، وبدلالة تلك الأثمان المدفوعة والتي ستُدفع. ولا يعني ذلك بحال من الأحوال أن التآمر والتلاعب ومساعي التدخل والسيطرة والحرف، من جهات عليا متنفذة، عالمية وإقليمية ومحلية، لا وجود لها. فمثل هذا الجدل يلاقي هو الآخر العقل القاصر، الذي يفترض للوقائع ـ للواقع ـ ماهيات جوهرية، أبعاداً أحادية أو ثنائيات نابذة : إما ثورات أو مخططات، إما استبداداً أو استعماراً، إما إيران أو السعودية، إما شيعة أو سنَّة، إما صدَّام أو بوش الخ... ويسمونها «واقعية» ووضوحاً، فيما الواقع نقيض ذلك، متشابك متداخل معقد صراعي.

ففلسطين على سبيل المثال كانت منذ اللحظة الأولى المضمر الأشد وضوحاً في هذا الذي يجري. تفحص الصهاينة الغربيون والإسرائيليون تلك الثورات وشعاراتها وخطب أبنائها بعناية، وحين لم يقعوا على الخطابة الرنانة عن فلسطين اطمأنت قلوبهم ومنحوها بركاتهم. وهذا هو الاستشراق في أحد تجلياته. فلسطين لم تكن بحاجة للقول لأنها كانت من بديهيات الموقف. ولم يكن هؤلاء المنتفضون يسعون خلف استعادة زمام أمورهم والكرامة والاعتزاز بالنفس والحرية حتى يستهلكوا ثياباً وهواتف موبايل، بل وحتى طعاماً أكثر مما اتيح لهم قبل ثورتهم. ربط الناس جدلياً بين تلك القيم/ الحاجات التي يسعون إليها وبين الهزائم والهيمنة الغربية والسطوة «الإسرائيلية». تلك كانت خاصية الضمير الجمعي الذي أتاح قيام الثورات. وكانت إدانة السلطات القابعة فوق أنفاسهم تستند الى اكتفائها من الوجود بإرضاء أسيادها مقابل الإبقاء عليها في السلطة تنهب كما تشاء، بلا أي تصور عام للبلاد التي تتحكم بها. ولكن الجديد في المنتفضين أنهم غير جعجاعين، فقد أدركوا أيضاً أن الجعجعة هي دوماً بلا طحن.

وها هي مناسبة السنة الثالثة والستين للنكبة ـ المستمرة والتي ما زالت سائرة لم تتوقف عن تحقيق أهداف المشروع الصهيوني ـ تجيء فتنطلق المبادرات. في مصر، كان من أشد الدلالات أن يدعى الى تظاهرة «الوحدة الوطنية ونصرة فلسطين» معاً، ليس لتقاطع الصدف والأحداث بل لأن هذه تسند تلك. كم مضى زمن طويل لم ترفرف فيه الأعلام الفلسطينية في قلب القاهرة، لم تحاصر السفارة «الإسرائيلية»، لم يطالب بإلغاء اتفاقية كامب دافيد. في الأردن أيضاً انتظمت مسيرات كبرى ذهبت الى موقعة الكرامة شديدة الدلالة على القدرة على النصر عندما توفر شروطه. وخصص السوريون هتافهم في يوم الجمعة، يوم تحركهم المكثف، لدعوة السلطات الى ارسال جيشها الى الجولان، مما يعلن عن البديهية تلك التي اشرنا اليها. ولم يكتفوا بذلك، بل اقتحموا يوم النكبة الشريط الحدودي وذهـبوا الى قرية مجدل شمس وقالوا «عدنا»! وفي لبنان نجحت المسيرة الى مارون الرأس بتجميع عدد غير مسبوق من الفلسطينيين واللبنانيين معاً في إعلان مماثل عن الوجهة. كما اشتعلت فلسطين نفسها بالتظاهرات. وقد تسبب الهلع «الإسرائيلي» إزاء تطورات لم يعتادوا عليها في سقوط شهداء سينضمون الى المحطات العديدة لتاريخ هذه القضية. وعلى كل حال تتكرر الإشارات نفسها في اليمن والبحرين والمغرب وتونس. وفي كل مكان. إن الوعي الحي بفلسطين لم يكن يوماً على هذا القدر من التشكل : تعريف الحق، وإدراك صلة النضال الفلسطيني وما ينوبه بشروط المحيط، وإدراك طبيعة «إسرائيل»، واستنـباط أدوات للفعل السياسي تتحول رويداً الى استراتيجية ذات صدى عالمي وشبكة تحالفات مبنية، بدلالة تفاصيل العمل على اسطول الحرية الثاني الوشيك الانطلاق، وبدلالة حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات التي تتدرج الى آلاف الفعاليات، وتدفع المسؤولين «الإسرائيليين» للكلام عن طرحها لشرعية «إسرائيل».

الاستنتاج أن القضية الفلسطينية ما زالت حية رغم الهزائم. ما زال لم يتحقق الخضوع رغم كل الأهوال. اسألوا شباب الثورات حيث ما شئتم! هذا هو الأساس الذي يمكن البناء عليه. وهناك بمناسبة الحراك التحرري الجاري في المنطقة استعادة للأفكار، وبلورة لما يشكل مرتكزات تعريف المصلحة الوطنية العليا المشتركة، بما فيها الشق الذي يخص فلسطين. وصون وتطوير هذا، هو اليوم أهم من التكتيكات حول كيفية وشروط استعادة بعض الأرض... لا سيما حين تكون عقيمة! لا بد أن الأميركيين منزعجون جداً مما حدث بمناسبة يوم النكبة، وسيسعون لتطويقه بكل الأدوات التي يملكون. لا بد أن «الإسرائيليين» حائرون مما رأوا، وسيتخذونه وسيلة لتعزيز جنونهم العدواني/ الانتحاري. يصطفلوا!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2165344

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165344 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010