الأحد 23 أيار (مايو) 2010

إستراتيجية مصر في حوض النيل

بقلم:د‏.‏ جمال عبد الجواد
الأحد 23 أيار (مايو) 2010

تم قبل أيام في مدينة عنتيبي في أوغندا فتح باب التوقيع علي الاتفاقية الإطارية للتعاون بين دول حوض النيل‏,‏ وهو الاتفاق الذي ترفضه مصر والسودان بقوة بسبب ما ينطوي عليه من تعريض مصالح مصر المائية للخطر‏.
‏ ذهاب بعض من شركائنا في حوض النيل لهذا الحد في تجاهل المطالب المصرية يثير القلق‏,‏ ولكن يجب ألا يثير الفزع‏,‏ فما تم حتي الآن هو مجرد إجراء تزيد قيمته الرمزية كثيرا عن قيمته الفعلية‏.‏ بالطبع فإن القيمة الرمزية لخطوة التوقيع بالأحرف الأولي يمكن لها أن تتحول إلي تهديد حقيقي ما لم تطور مصر والسودان السياسات الصائبة تجاه هذا التطور‏,‏ وهو الاحتمال الذي يجب علي مصر ألا تتواني في العمل علي منعه‏.‏

مازالت عملية إقرار اتفاقية دول حوض النيل تمر بمراحلها الأولي‏.‏ فالدول التي وقعت بالأحرف الأولي مازال عليها استكمال إجراءات التصديق علي الاتفاق‏,‏ أما موقف دول المنبع التي لم توقع علي الاتفاق فمازال موقفها غير محدد‏.‏ ومن المهم ملاحظة أن الأغلبية من دول الحوض لم تضع توقيعها حتي الآن علي هذا الاتفاق‏,‏ فمن بين الدول العشر الأعضاء في مبادرة حوض النيل‏,‏ لم يوقع علي الاتفاق سوي إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا‏.‏ هذه الدول الأربع تمثل الدول الأكثر تشددا في معارضة مطالب مصر والسودان‏,‏ أما باقي دول الحوض كينيا والكونجو وبوروندي وإريتريا‏-‏ فتميل لتبني مواقف معتدلة تسمح بالتوصل لحلول وسط تخدم مصالح الأطراف كلها‏.‏

الخطوة الأولي في تطوير إستراتيجية مصرية فعالة للتعامل مع هذا التهديد هي تشخيص طبيعة التهديد الذي نواجهه‏.‏ إذ ليس من الواضح حتي الآن ما إذا كانت دول الحوض الأربع الأكثر تشددا قد قررت بشكل لا رجعة فيه المضي في تجاهل مصالح مصر والسودان‏,‏ أم أن ما حدث حتي الآن هو جزء من إستراتيجية تفاوض خشنة تقوم علي الذهاب بالأمور إلي حافة الهاوية حتي يمكنها الحصول علي أكبر قدر ممكن من التنازلات من دول المصب‏.‏ وأيا كانت نوايا الدول الأربع في هذا المجال فإن علي السياسة المصرية العمل لجعل ما حدث في عنتيبي إجراء تفاوضيا وليس قرارا وإستراتيجية نهائية‏.‏
الخطوة الثانية هي اختيار أسلوب التعامل مع دول الحوض‏,‏ وما إذا كانت مصر ستعتمد علي أساليب الصراع والضغط‏,‏ أم ستفضل اعتماد سياسة تقديم الحوافز والإغراءات لتشجيع دول الحوض علي التعاون‏.‏ المؤكد أن مزيجا من الضغوط والحوافز هو الأكثر فعالية‏,‏ بشرط أن يتم صياغة هذا المزيج بحساب دقيق لتجنب تحقيق نتائج عكسية‏.‏ والمؤكد أيضا أنه أيا كان وزن أدوات ووسائل الضغط في هذه الحزمة‏,‏ فإن علي مصر أن تقدم سياساتها علي مستوي الخطاب الإعلامي والدبلوماسي في إطار تعاوني يتجنب الاستفزاز‏,‏ ويترك الباب مفتوحا لدول الحوض المتشددة للعودة عن طريق التشدد‏.‏
المكون الثالث لسياسة مصر تجاه دول الحوض هو الموازنة بين أساليب العمل والتفاوض الجماعي متعدد الأطراف من ناحية‏,‏ والتركيز علي العمل الثنائي مع كل دولة علي حدة من ناحية أخري‏.‏ الخطاب السياسي والإعلامي المصري عليه مواصلة التركيز علي أهمية الأطر الجماعية متعددة الأطراف‏,‏ وعليه التمسك بمبادرة حوض النيل‏.‏ أما العمل السياسي والدبلوماسي المباشر فعليه تطوير مجموعة من السياسات تناسب ظروف ومواقف كل دولة من دول الحوض علي حدة‏.‏ في هذا السياق فإن أولوية العمل السياسي والدبلوماسي المصري يجب لها أن تذهب إلي تشجيع دول الحوض المعتدلة علي مواصلة تمسكها بمواقفها‏,‏ بحيث يظل الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بالأحرف الأولي في عنتيبي اتفاقا بين الأقلية من دول الحوض‏.‏

المكون الرابع لسياسة مصر تجاه دول الحوض يقوم علي تحديد الأهمية النسبية للمصالح المائية لكل دولة من دول الحوض بين مجمل المصالح الوطنية الإستراتيجية لهذه الدولة‏.‏ فبينما تمثل المصالح المائية لمصر والسودان مصلحة حيوية قصوي‏,‏ فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لباقي دول الحوض الأقل اعتمادا علي مياه النيل‏.‏ وعلي مصر أن تصيغ من السياسات ما يسمح لها بمبادلة المصالح الأكثر حيوية لكل دولة مع مصالحها الأقل أهمية في مياه النيل‏.‏ فلبعض الدول مصالح أمنية جوهرية‏,‏ يمكن لمصر أن تؤثر فيها بأساليب متنوعة‏,‏ ولبعضها الآخر مصلحة في الوصول الآمن للبحر بسبب طبيعتها الجغرافية المغلقة‏,‏ وهكذا‏.‏ ولمصر أن تطور سياسات تتيح لها التأثير بأشكاله المختلفة في المصالح الحيوية لهذه الدول‏,‏ بحيث يمكن في النهاية إقناعها بأخذ مصالح مصر المائية بعين الاعتبار في سبيل حفاظها علي مصالح حيوية أكثر أهمية بالنسبة لها‏.‏
المكون الخامس لسياسة مصر تجاه حوض النيل يقوم علي بناء التحالفات الإقليمية‏.‏ توثيق التحالف مع السودان‏,‏ والعمل معا كجبهة واحدة بحكم المصلحة المشتركة بين البلدين باعتبارهما بلدي المصب الرئيسيين هو المكون الأهم لتحالفات مصر الإقليمية في حوض النيل‏.‏ ويمكن لمصر أن ترتقي بعلاقاتها ببعض دول الحوض الأكثر اعتدالا إلي مستوي التحالف الوثيق‏,‏ ويستلزم تأسيس وصيانة هذه التحالفات تخصيص موارد كافية تبدأ بالدعم شالتحالفات الإقليمية لمصر يجب لها ألا تقتصر علي دول حوض النيل‏,‏ وإنما يمكن لها ألا تتسع لتشمل دولا من غير دول الحوض ولكنها توجد في نفس المجال الاستراتيجي الذي توجد فيه دول الحوض‏,‏ مثلما هو الحال بالنسبة لجيبوتي وأفريقيا الوسطي‏.‏

المكون السادس لسياسة مصر تجاه حوض النيل هو مكون دولي‏.‏ فالموقف المصري من النواحي القانونية و السياسية والتنموية يحظي بدعم الأطراف الدولية الرئيسية‏,‏ ويحظي بالذات بدعم من الهيئات الدولية المعنية‏,‏ خاصة البنك الدولي‏.‏ وعلي مصر أن تعمل عن قرب وبكثافة مع هذه الأطراف حتي تزيل أي شك لديها بشأن صواب الموقف المصري‏.‏ الفوز بتأييد الأطراف الدولية له أهمية حاسمة لأن المجتمع الدولي هو المصدر المحتمل للدعم الفني والمالي الذي تحتاجه دول الحوض لإقامة أي مشروعات كبري لتخزين واستخدام المياه‏,‏ وبدون هذا الدعم فمن غير المرجح أن تنجح دول الحوض في إقامة مشروعات تؤثر علي نصيب مصر من المياه‏.‏

الاستراتيجية المصرية للتعامل مع التحديات في حوض النيل تستحق منا تفكيرا مطولا وهادئا بعيدا عن الشعارات الزاعقة وأبواق الحرب التي راح البعض ينفخ فيها‏.‏ وقد حاولت في هذا المقال تقديم اجتهاد حول بعض الخطوط العريضة‏,‏ لكن الأمر يحتمل عشرات الاجتهادات الأخري‏,‏ وفي هذا فليجتهد المجتهدون‏



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2178258

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع المنبر الحر   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178258 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40