الاثنين 6 حزيران (يونيو) 2011

كتاب | خارج الإطار .. النضال لأجل الحرية الأكاديمية في «إسرائيل» 1/4

تأليف : إيلان بابي | عرض : عبدالله ميزر.
الاثنين 6 حزيران (يونيو) 2011

«إن الرحلة خارج الصهيونية هي رحلةٌ فكريةٌ وإيديولوجية، وسياسيةٌ بالطبع. لكنّها تتضمن أيضاً اضطراباً عاطفياً وجفاءً اجتماعياً يختبره الشخصُ من قبل أشخاصٍ مختلفين»، هكذا قال البروفيسور إيلان بابي عن تجربته، وعن الضغوطات التي تعرّض لها على الصعيد الاجتماعي والأكاديمي في «إسرائيل».

في هذا الكتاب الصادر عن دار النشر البريطانية «بلوتوبرس» بعنوان «خارج الإطار: النضال لأجل الحرية الأكاديمية في «إسرائيل»» في 246 صفحة من القطع المتوسط للبروفيسور «الإسرائيلي» إيلان بابي، الذي يعدّ من المؤرخين «الإسرائيليين» الجدد، ومن أكبر المتحدّين للسياسات الصهيونية، التي ترمي إلى قمع الأصوات المعارضة، وتنبذ كلّ من يصف حرب 1948 بعملية التطهير العرقي، والتي يصرّ إيلان بابي على حدوثها، ويؤكّد كلامه بالتقارير والأبحاث والمقابلات مع ضحايا النكبة. يناضل بابي لأجل الاعتراف بالنكبة داخل «إسرائيل»، وعدم نكرانها، لأن ذلك يضمن عملية سلام حقيقية على المدى المنظور. يعمل بابي الآن في معهد الدراسات العربية والإسلامية في جامعة إيكستر، وهو مدير المركز الأوربي للدراسات الفلسطينية في الجامعة نفسها، ومدير مشارك في مركز إيكستر للدراسات الإثنية السياسية.

كما يتحدث بابي عن قصة الطفلة/السيدة فاطمة، التي كانت شاهدة على المقابر الجماعية في ،1948 وظلت أسيرة المشاهد الكارثيّة طيلة خمسة عقود من الزمن، ولابدّ للقارئ - مهما كانت صلابته - أن يذرف دمعة على الإنسانية المهدورة بشكل عام، والفلسطينية بشكل خاص.

[**أوسلو حوّل منظمة التحرير إلى مراقب لمخيمات السجن في الضفة وغزة*]

يعتقد إيلان بابي في تمهيده للكتاب أن كتابة التجربة الشخصية تحمل من الحرج والقسوة الكثير، لكن إيماناً منه أن هذه التجربة الشخصية أو وجهة نظره الفردية يمكن لها أن تعكس صورة أوسع عن الواقع الحقيقي، وتساعد على توضيح الكثير من الأشياء المعتم عليها داخل «إسرائيل».

وعن لجوئه إلى كتابة قصته مع الصهيونية، وعن رحلته التي لا عودة منها، المتّسمة بمراحل متعددة قال: «إنها قصة شخص نشأ على الصهيونية، ويكافح ليغادرها عبر عملية تزايدية. إن الرحلة خارج الصهيونية هي رحلة فكرية وإيديولوجية، وسياسية بالطبع. لكنها تتضمن أيضاً اضطراباً عاطفياً وجفاء اجتماعياً يختبره الشخص من قبل أشخاص مختلفين».

جاء كتابه هذا على شكل ردّ لكلّ من كان يسأله: «متى وكيف تحوّل فهمك عن الحقيقة الفلسطينية «الإسرائيلية»؟ بعد أن كان يقدّم في الكثير من المناسبات إجابات غير مرضية وكافية عن هذا السؤال، الذي وجّه إليه كثيراً. كما يوضّح أن رحلته في الخروج من الصهيونية جاءت متأخرة، بعد أن أكمل واجباته العسكرية الصهيونية، حتى أن فترة خدمته في الجيش كانت في مرتفعات الجولان، لكن بعد مغادرته «إسرائيل» إلى بريطانيا، للتحضير لشهادة الدكتوراه في جامعة أكسفورد، بدأ التغيير يغزو فكره الصهيوني على نحو أسرع ممّا توقعه، وبشكل خاص بعد اجتياح إسرائيل جنوب لبنان 1982.

[**شياطين النكبة*]

يستهلّ الكاتب الفصل الأول المعنون «شياطين النكبة»، بالحديث عن نشأته كطفل يهودي في حيفا، حيث لم يكن يدرِ شيئاً عن المصطلح العربي «النكبة»، ولا أهميته، لكن أول مرة سمع به كانت في فترة الدراسة في المرحلة الثانوية، حينما أشار زميلان فلسطينيان له في المرحلة الثانوية - أثناء جولة مدرسية ضمن المدينة القديمة - إلى أحد البيوت المتبقية من النكبة، والتي كان أحد الشيوخ يدرّس فيها التلاميذ، واقتصر الأمر على الإشارة دون التوسع فيما قصداه، خشية من المدرّسين.

خدم بابي ثلاث سنوات في الجيش «الإسرائيلي»، وشهد حرب 1973 في فترة خدمته، وفي فترة شبابه لم يكن يهتم بموضوع التاريخ، كان يعمل في فترة التحضير للماجستير مستشاراً تطوعياً للحزب الصهيوني من الجناح اليساري، بدأت نظرته للتاريخ «الإسرائيلي» تختلف في فترة الماجستير في الجامعة العبرية، وعند التوجه إلى دراسة الدكتوراه في أوكسفورد، قرر أن يكرّس أطروحته على ما حدث في 1948، من دون إدراكه أنه سيكتشف أشياء جديدة، تخالف ما علّمه الفكر الصهيوني.

يتحدث عن البحث الأكاديمي التوثيقي الذي أجراه، معتمداً على المعلومات المؤرشفة، وفي عام 1988 ظهرت أطروحته في كتاب باسم: «بريطانيا والصراع العربي «الإسرائيلي»، 1948-1951»، وعن ذلك قال: «في هذا الكتاب، فضحت الأسطورة «الإسرائيلية» التأسيسية القائلة إنه في عام 1948 كانت بريطانيا عدواً للصهيونية و«إسرائيل». بالاستناد إلى بحثي، ذهبت إلى أبعد من ذلك، قائلاً إن بريطانيا لعبت دوراً رئيساً في السماح للحركة الصهيونية بالوجود في فلسطين عبر التطهير العرقي لسكانها الأصليين». وفي تلك الفترة ظهر كتابان آخران لمؤلفَين «إسرائيليين» دعماً لما طرحه بابي، الأول كان بيني موريس في كتابه «ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين»، والثاني آفي شليم في كتابه «التواطؤ عبر الأردن».

يشير إلى أن مصطلح «التاريخ الجديد لـ «إسرائيل»» ورد في مقالة لموريس في صحيفة تيكون، والذي يشير إلى إعادة بناء جزئية لأحداث 1948، وتمّ تقديم هذا المصطلح من قبل بابي وموريس إلى الحديث الأكاديمي «الإسرائيلي»، كجزء من محاولة لإثارة الوعي العام المتعلّق بوجود رواية غير صهيونيّة عن الحرب العربية «الإسرائيلية» في 1948.

ومما قاله حين العودة إلى «فلسطين المحتلة» بعد نيل شهادة الدكتوراه: «عندما عدتُ لأبدأ مهنة أكاديميّة، اكتشفت ظاهرة نكران النكبة، وقد كانت جزءاً من ظاهرة أكبر هي إقصاء الفلسطينيين من الحديث الأكاديمي المحلي».

يتحدث بابي عن زيارته إلى مصر وتونس، كانت هاتان الزيارتان أكثر من كونهما رحلة جسدية خارج الغيتو «الإسرائيلي»، بل كانت بالنسبة له تحرراً سيكولوجياً من التلقينات والمبادئ الصهيونية الماضية.

[**على خطى إدوار سعيد*]

في تلك الأيام أرسى بابي صداقة مع المفكّر الفلسطيني الأمريكي إدوار سعيد، الذي ساعده على التبحّر في المياه الفكرية الشائبة للأكاديمية «الإسرائيلية»، وعنه قال بابي: «إن منهجه أكاديمي وإنساني جداً للعالم ما بعد الكولونيالي، خالٍ من أية رغبة بالانتقام، لكنه مليء بتصورات بنّاءة في مسألة مفهوم الضحية، وقد ألهمني في كتاباتي عن فلسطين منذ أمد بعيد. وإن نقده الحادّ لأوسلو كعملية فاسدة، من شأنها أن تحوّل منظمة التحرير الفلسطينية من موقع قيادة حركة التحرير إلى موقع المراقب لمخيمات السجن الجديدة - الضفة الغربية وقطاع غزة - في خدمة «إسرائيل»، وأثبت في نقده أن الأمر دقيق بشكل مخيف». كما يتطرق إلى مناقشة الكثير من انتقادات إدوارد سعيد، ومن بينها نقده لياسر عرفات، ومما قاله ترجمنا التالي: «توجّه إدوارد سعيد بالانتقاد إلى عرفات أيضاً، إن عرفات لم يقبل الفساد على الإطلاق وانتهاك حقوق الإنسان كممارسات مسموح بها، لأن القيادة مشتركة في صراع التحرير. التقيت مع عرفات شخصياً، وكنت أقلّ اقتناعاً بمدى فعالية هذا النقد. صحيح أنّه لم يكن حارساً للحقوق المدنية والإنسانية، لكن من وجهة نظري عرفات لم يكن فاسداً».

يجد أن مصير ومستقبل اللاجئين تم تجاهله في أغلب الاتفاقيات، وفي هذا يؤيد إدوارد سعيد ويوافقه قائلاً: «أعتقد أنه من دون قبول «إسرائيل» حق عودة اللاجئين، فإنه ليس هناك من فرصة للسلام والمصالحة في فلسطين». ويتطرق إلى الحديث عن كتاب إدوار سعيد «الاستشراق»، الذي يجده بابي أنه أثّر على الدراسات البحثية في «الشرق الأوسط» بشكل عام، وعلى فلسطين بشكل خاص.

كما يجد أن لاتفاقيات أوسلو جوانب إيجابية أيضاً، ضمنت اعترافاً ثنائياً بين منظمة التحرير الفلسطينية و«إسرائيل» بحق الوجود، حتى وإن لم يضع هذا نهاية للاحتلال «الإسرائيلي»، أو بؤس اللاجئين أو مشاكل القدس. والأكثر أهمية بالنسبة له أن أوسلو مكّنته من السفر إلى تونس كضيف على منظمة التحرير الفلسطينية، وعن ذلك قال: «في ذلك الوقت شعرت أنني محمّل على جناحي التاريخ لكي ألعب دوراً حاسماً في صنع السلام. لكن أدركت فيما بعد، أنه كان دوراً ثانوياً للغاية، في نص أوسلو غير المرضي».

يسهب في الحديث عن لقائه بعرفات وبأكثر الرجال الفلسطينيين طلباً في «إسرائيل»، ويجد أن رحلته هذه أثارت بداخله لحظتين عاطفيتين: الأولى كانت حفلاً تأبينياً للشبان الفلسطينيين ممن قتلوا جراء القصف «الإسرائيلي»، والثانية كانت اللقاء مع الشخص الذي ترأس الهجوم الفدائي على يخت في لارانكا، والتي قتلت فيها ابنة خالته الوحيدة مع زوجها عند توجههم إلى قبرص.

زار بابي حينها العديد من بيوت الفلسطينيين في تونس، وتعرّف هناك إلى قوة الذاكرة الفلسطينية، ومما قاله: «في كل منزل فلسطيني زرته، كانت هناك زاوية من غرفة المعيشة منظمة على شكل متحف مصغّر، يصوّر قصّة الهوية الوطنية». وعندما عاد إلى فلسطين المحتلة، وتعرف إلى الفلسطينيين عن قرب بشكل أكثر، وجد أن هناك الكثير من الشبه في منازلهم، التي يمكن لشخص لبيب أن يقرأ رواية الجرح الفلسطيني الغائر.

[**خارج معسكر الصهيونية*]

يتحدث بابي عن بعض الأحداث التي جرت معه، والأحاديث التي دارت بينه وبين الأكاديميين «الإسرائيليين»، الكثير منها متعلق بآرائه حول التاريخ وعن الحرية الأكاديمية، وممن التقى بهم من الشخصيات الأكاديمية: آرنون سوفير، وهو أحد الديموغرافيين البارزين في «إسرائيل»، الذي حمل فكرة جدار الفصل بين الضفة الغربية و«إسرائيل»، وقال لبابي: «بيني وبينك، ضمن أربعة جدران مغلقة، أنت واحد منّا، لكنه من الحسن أن تجمّل صورة «إسرائيل» في الخارج». وحسب ما يذكر فإن هذه المحادثة وملاحظات أخرى من بعض زملائه الأكاديميين دعته للانضمام إلى الحزب الشيوعي الاجتماعي، وأصبح حينها رسمياً خارج معسكر الصهيونية، لكن كان ذلك فقط بداية هذا الطريق، طريق الانعتاق من الفكر الصهيوني، واكتشف فيما بعد أنه أكثر بعداً عن الصهيونية من رفقائه اليهود الآخرين في الحزب.

كما يعبّر عن تأثره العميق بالدراسات الحديثة حول التاريخ من قبل أكاديميين «إسرائيليين»، شكّلوا هيئة أبحاث تتناول التاريخ، وبشكل رئيس في صحيفة «النظرية والنقد»، وكانت هذه الأبحاث تسلّط الضوء على الفترة التاريخية من 1882 حتى الوقت الحاضر. كما عرضوا أصول العسكرة «الإسرائيلية»، ودققوا في الصهيونية باعتبارها كولونيالية في السنوات الأولى، ولامسوا الموقف تجاه الهولوكوست، وتطرقوا إلى السياسة المتبعة مع الفلسطينيين داخل «إسرائيل» وكذلك مع «اليهود المزراحيين»، والتي تعني في العبرية «اليهود المشرقيين»، ويخبرنا بابي أن الكاتب أوري رام جمعها في كتاب يشمل هذه المقالات تحت عنوان: «المجتمع «الإسرائيلي»: وجهات نظر نقدية».

يجد بابي أنّ أي نداء لمناقشة مسائل الأحداث التاريخية، كانت مرفوضة بالكامل من قبل الأكاديمية المحلية، التي يتلخص موقفها فيما قاله موشيه لايساك - الذي يعدّ من أهم البروفيسورات في علم الاجتماع - أثناء مناقشة عامّة معه في جامعة «تل أبيب»: «صحيح أنّ هناك شيئاً من الرواية التاريخية، لكن الرواية الصهيونية هي صحيحة بشكل علميّ». وبرأيه، إن أي حديث من هذا النوع يثبت أن البحوث التجريبية تعمل على إثبات الادعاءات الإيديولوجية الصهيونية.

يجد أن هناك نقاط ثلاث أثارتها الكتب المدوّنة من قبل المؤرخين «الإسرائيليين» الجدد خاصة (آفي شاليم، وبيني موريس وإيلان بابي)، وكان أول هذه النقاط يتناول أهمية الفهم اليهودي الأردني لما قبل حرب 1948. ثانياً: هو التركيز على أن أغلب اللاجئين طُردوا من أرضهم ولم يغادروها طواعية. ثالثاً: لم يكن القادة «الإسرائيليون» بعد 1948 متلهفين لعقد معاهدات سلام مع خصومهم العرب، في الوقت الذي أظهر فيه العرب رغبة في السلام. وتأثير هذه الأفكار أنتج نسخة منقحة لحرب 1948.

[**تسليح العقل الصهيوني*]

يبدأ الكاتب الفصل الثاني بالحديث عن كتاب «صناعة العسكرة الإسرائيلية» للمؤلف أوري بن - إيليز، الذي يصف «إسرائيل» بأنها «أمة تحت السلاح»، بمعنى أن الهوية الجمعية اليهودية في فلسطين مبنية بشكل رئيسي على عسكرة المجتمع، حيث استخدمت القيادة الصهيونية الجيش كأداة رئيسة للتطوير والتلاحم، وصاغ ملامح الدولة اليهودية.

لكن يجد بابي أنه بمرور السنين، قام الجيش بأشياء أكثر من ذلك، حيث أثّر على شخصية السياسة «الإسرائيلية»، في كل من الداخل والخارج. على الصعيد الخارجي، أنتج سياسات عدائية مع دول الجوار. أمّا على الصعيد الداخلي، اتّبع الجيش سياسة قسرية تجاه أي فئة تحمل أجندات تناقض الأهداف العامّة للصهيونية، كما أن الإطارات المدنية للنشاطات الحكومية تمّ عسكرتها، من سنوات تأسيس «إسرائيل» ذاتها، وبقيت حتى اليوم الحاضر، حيث الجيش هو العامل المتحكّم في الاقتصاد والسياسة والإدارة والثقافة.

وعن النشاطات الحكومية التي تم عسكرتها: بناء المستوطنات، فحتى 1948 كانت هذه المهمة في أيدي الوكالة اليهودية - الحكومة الجنينية للجالية الصهيونية. لكن بعد حرب ،1948 بات الاستيطان يعني احتلال القرى المهجورة بعد طرد الفلسطينيين منها. وتكفّل بهذه المهمة الجيش «الإسرائيلي»، الذي - كان ولايزال - لديه وحدة خاصة لتنفيذ هذا الأمر الصهيوني الجائر.

يمضي الكاتب في الطريقة التي يتحكم بها الجيش في الإعلام، الذي تم توظيفه لخلق ميثولوجية البطولة «الإسرائيلية» في أنه من المستحيل أن يُهزم على أرض المعركة، ويجد أن الإعلام «الإسرائيلي» يعمل دور الناطق باسم الجيش «الإسرائيلي» ويحجب ممارساته العدوانية تجاه الفلسطينيين، ولايقوم بأيّ دور رقابي، الذي يشكّل أهمّ ميزة من ميزات الإعلام الحر في دولة تدّعي الديمقراطية. كما يجد أنه كان هناك نَفس تفاؤلي بعد اتفاقيات أوسلو، بناءً على ما صرّح به العديد من علماء الاجتماع «الإسرائيليين»، على أن عهداً جديداً سيبدأ، ومن شأنه أن يضعف نموذج «أمة تحت السلاح»، كما يتحدث عن رفض الإعلاميين تمرير بعض المواد الصحفية تحت رقابة الجيش، وبدأ هذا السلوك الإعلامي المخالف للتلقين الصهيوني مع اندلاع الانتفاضة الأولى، لكن بعد اغتيال إسحاق رابين عاد الجيش ليتحكّم بالإعلام مرة أخرى.

يتحدث بابي عن الفساد الأخلاقي للإعلام «الإسرائيلي» عند اندلاع انتفاضة الأقصى بعد زيارة شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى، حيث سمح الإعلام لنفسه أن يكون الجيش هو المصدر الوحيد للمعلومات وتحليل الأحداث، وكذلك وصل الفساد الأخلاقي الإعلامي إلى مستوى لم يشهد له مثيل في الهجوم «الإسرائيلي» على لبنان في 2006، وبشكل أكبر عند قصف غزة في 2009.

يجد بابي أن عدد الجنرالات السابقين ازداد في السياسة والإعلام، وبالتالي تزايد التأثير العسكري على الفضاء العام. علاوة على ذلك، هذه الرابطة بين الجيش والأكاديميات «الإسرائيلية» أفسدت الأخلاقيات الجامعيّة التقليدية، وقوت القبضة الآيديولوجية للجيش على الأداء الأكاديمي، وعزلت الجامعات عن لعب دور مستقل في المجتمع.

[**الإعلام «الإسرائيلي» تحت السلاح*]

يجد بابي أن الإعلام الإسرائيلي في كلّ الأحداث: الانتفاضة، والحرب الثانية على لبنان، وفي قصف غزة، كان منهمكاً فيما سمّاه أحد العلماء «أحقية الإقناع الذاتي المحكمة السد»، فقد كانت الصورة المنقولة تحمل وجهاً واحداً للحقيقة أو بالأحرى تحمل الوجه الذي تريده المنظومة العسكرية، ويقول بابي عن ذلك: «الرسالة كانت بسيطة: إن «إسرائيل» - مرة أخرى - تخوض حرباً ضد عدوّ بربريّ، هاجمها من دون وجه حق».

يرى بابي أن هذا السلوك للإعلام «الإسرائيلي» جعله من بين أكثر الإعلام العالمي تحيّزاً، حيث يزوّد القارئ والمشاهد والمستمع بصورة مخادعة. وبرأيه، يتجه السلوك الإعلامي على هذا النحو، لأنه مدفوع بالكراهية والخوف والجهل، كما أنه يتبنّى الروايات والتفسيرات الحكوميّة من دون انتقاد، وكأنّه يجد مصداقيته مطلقة، لا يجوز المساس أو الشك بها. ويذكر أنه عند اندلاع الانتفاضة الثانية، لم تكن هناك رواية مخالفة في الإعلام كله عن رواية الجيش حول حجم العنف الذي انفجر، وبالتالي كانت الرواية الرسمية هي الرواية التي عرفها الجميع داخل «إسرائيل»».

يذكر بابي أن هناك الكثير من الأمور تسعى الحكومة «الإسرائيلية» إلى إخفائها، وحاولت أن تجنّب الوسائل الإعلامية الدخول في أية تحليلات عميقة، من شأنها كشف زيف ما تروّجه وتظهره للعامة. ويشير إلى أن هناك العديد من الخرافات والأوهام داخل هذا الحجب، وكانت كلّ منها مجسّدة بـ «حقائق» زوّدتها قوى الدفاع «الإسرائيلية»، وجهاز الأمن الداخلي «شاباك»، والاستخبارات الخارجية «الموساد».

أول هذه الخرافات هي اتفاقية كامب ديفيد، التي تجد «إسرائيل» فيها أنها أعطت كل ما تمّ طلبه، والفلسطينيون رفضوا، وكان هذا مدعّماً بتزويد صورة خاطئة عن السلوك الفلسطينيّ الشامل خلال لقاءات أوسلو، التي شوّهت الجهود الفلسطينية الحقيقية لإتمام الاتفاقيات.

الخرافة الثانية كانت أن الانتفاضة الفلسطينية هي حملة «إرهابية» فلسطينية مخطّط لها مسبقاً، على الرغم من أنه كان معروفاً للجميع من أنه لم يكن هناك من قرار فلسطيني بشأن اندلاعها، لكن الصحافة وافقت على توصيفها بالعمل «الإرهابي» حسب ما أملى عليها الجيش.

والخرافة الثالثة هي حول الاستجابة «الإسرائيلية» الإنسانية وتمثلت في أن القوات استخدمت فقط أسلحتها عندما وقعت في خطر مباشر، ولم يتم الكشف أمام الرأي العام «الإسرائيلي» عن القتلى في الأقاليم المحتلة وفي غزة بعدها على الإطلاق.

أمّا الخرافة الرابعة، فقامت بتلفيقها القياداتُ الإعلاميّة بشكل مستقل، حيث قدّموا منظمة التحرير الفلسطينية على أنها جزء من شبكة القاعدة في أعقاب 11 سبتمبر/ أيلول، وسرعان ما قام الجيش بترتيب معلومات لإظهار الاتصال بين القاعدة والسلطة الفلسطينية، ويذكر بابي أن مصادر هذه المعلومات لم يتم الكشف عنها أبداً، لأنها لا تستند إلى أدلة حقيقية.

كما يظهر بابي أن التعتيم «الإسرائيلي» لم يقتصر على الإعلام المحليّ فقط، بل طال الإعلام الخارجي، حيث منعت القوات «الإسرائيلية» الصحافيين الأجانب من نقل ما يجري على أرض الواقع بشكل كامل، بل وفق إملاءات من عندها، أو إظهار حالات يظهر فيها «الإسرائيلي» ضحية عمل إرهابي، كما كان الصحافيون عرضةً للمضايقات والانتهاكات «الإسرائيلية»، خاصة في عملية الدرع الواقي في الضفة الغربية في 2002، والرصاص المصبوب في غزة في 2009. ويقول بابي في النهاية: «هذه هي القصة الحزينة لإعلام في مجتمع يقدّم نفسه على أنه ديمقراطيّ».

- [**المصدر : صحيفة «الخليج» الإماراتية.*]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2165995

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع إصدارات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165995 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 24


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010