الجمعة 29 تموز (يوليو) 2011

طريق الدولة الاسمية وطريق التسوية الوهمية

الجمعة 29 تموز (يوليو) 2011 par راكان المجالي

بغض النظر عن أي حسابات فان الفلسطينيين عقدوا العزم على التوجه إلى الأمم المتحدة لانتزاع اعتراف الغالبية الساحقة من دول العالم بالدولة الفلسطينية الاسمية، وهذا التوجه يعني ان القيادة الفلسطينية قد غسلت يدها من مسيرة التسوية والمفاوضات. وبعد عشرين عاما من انطلاقة مؤتمر مدريد في العام 1991 لم تتوقف في كل المراحل تصريحات وبيانات وإعلانات نعي التسوية، سواء على هيئة «خيبات وخذلان وأسف»، او على هيئة «شماتة»، على المصير الذي آلت اليه جهود اطراف عديدة، محلية واقليمية ودولية، في الوصول الى تسوية تاريخية للصراع في «الشرق الأوسط». فما معنى ذلك..؟.

لا يبدو الأمر مفاجئاً لأحد في المنطقة. فالمخذولون والشامتون يبدون اكثر «حكمة..» من أي وقت مضى، بشكل يجعل «الفشل»، كما هي العادة في المنطقة العربية، يبدو «لقيطاً» أو مجهول النسب.

والحق ان التصريحات الفلسطينية الأخيرة لم تكن اول المؤشرات على الفشل الفعلي لـ «لعبة التسوية»، بقدر ما هي اعلان لأحد اطراف اللعبة، التي اخذت مؤخراً شكل المهزلة، عن عدم قدرته على الاستمرار في اللعبة، وفق شروطها السرية او المعلنة، لافتقاده لمعظم ادوات وعناصر الاستمرار فيها.

ففي مثل هذه الأيام، من خريف العام 1996، وعشية فوز بنيامين نتنياهو رئيساً «للحكومة الإسرائيلية» للمرة الأولى (وللمفارقة في تشابه بين الأمس واليوم، كانت الإدارة الأميركية برئاسة بيل كلينتون، كما هي اليوم برئاسة باراك اوباما، وكلاهما من الحزب الديمقراطي ، يقابلهما حكومة يمينية «إسرائيلية» بزعامة نتنياهو)، أوعز العاهل المغربي الراحل، الملك الحسن الثاني، الى «أكاديمية المملكة المغربية» لعقد ندوة عالمية، يشارك فيها عرب واوروبيون واميركيون و«إسرائيليون»، للإجابة عن سؤال واحد هو: «وماذا لو اخفقت عملية السلام في الشرق الأوسط؟».

وللأسف ، وعلى الرغم من اقرار معظم المشاركين باخفاق عملية السلام في «الشرق الأوسط»، وتوافقهم نسبيا في تشريح «جثة السلام»، إلا أنهم لم يتمكنوا من تحديد ملامح فعلية لما يمكن ان يحدث ما بعد عملية الإخفاق.

من عادته ان يعيد الفشل اصحابه، وحتى معارضيه، الى اول الاشياء، درساً وتفكراً وتفهماً وعبرة، الا في بلادنا. فالفشل الكبير يغرق الجميع في دوامة التفاصيل والملامة ، وخصوصاً حكمة الادعاء الجوفاء: «ألم نقل لكم..؟».

فجوهر عملية «سلام الشرق الأوسط»، هو انها عملية سياسية، قامت الولايات المتحدة الأميركية بوضع «تصميمها»، ثم اطلقتها برعايتها، بمشاركة رمزية من الاتحاد السوفييتي السابق ثم روسيا الاتحادية. اما الهدف المعلن لها، فهو ايجاد حل للقضية الفلسطينية، وتسوية الصراع العربي الصهيوني، وصولاً الى سلام في المنطقة، يحكمه «نظام إقليمي جديد».

وقد باشر الراعي الأميركي، منذ انعقاد مؤتمر مدريد (1991) اجراء مفاوضات متعددة الاطراف، بهدف اقامة نظام اقليمي جديد، يكون «لإسرائيل» فيه مكان مميز، وهو «نظام الشرق الأوسط». وهذا النظام جرى إعداده في «معهد الشرق الأوسط» في جامعة هارفارد، خلال عقد الثمانينيات، ويتضمن ستة قطاعات أساسية هي : الاقتصاد، التسليح، البيئة، السكان، أنظمة الحكم، وتوزيع الثروة. وهناك رؤية «إسرائيلية» وتصوّر حول كل قطاع من هذه القطاعات، لما ينبغي ان يكون عليه الوضع في المنطقة ، والدور الخاص الذي يجب ان تؤديه «إسرائيل» فيه.

وهو ذات النظام، الذي عبر عنه شمعون بيريز، في مقال كتبه «بالعربية..»، بعنوان: «عصر جديد، لا يطيق المتخلفين، ولا يغفر للجهلة»، ثم قام بتطويره وشرحه في كتاب بعنوان «الشرق الأوسط الجديد».

وبالفعل، حشد الراعي الأميركي للعملية دعماً كبيراً، في اعقاب انعقاد مؤتمر مدريد، فأقنع ثلاثين دولة بالمشاركة في اجتماعات لجان المفاوضات، المتعددة الاطراف، المختصة بقطاعات انشاء نظام اقليمي جديد، واحاطها بأضواء اعلامية مكثفة. وما لبثت قوة الدفع الاميركية، لدفع ذلك النظام قدما، ان تضاءلت تدريجياً.

المنطلقات الاميركية لرعاية التسوية انطلقت من فرضيتين أساسيتين، لم تثبت صحة اي منهما حتى هذه اللحظة. الفرضية الاولى: هي ان مجرد الاتيان بأطراف الصراع، والجلوس على مائدة المفاوضات، كفيل بتوفير قوة دفع ذاتية لعملية التسوية، وايصال الاطراف الى اتفاقات. اما الثانية، فهي انه في حال تعثرت المفاوضات، ووصلت الى طريق مسدود، فان بامكان الراعي الاميركي للمؤتمر التدخل من موقع «الحكم» لحسم الامر. وهي فرضية قدمها هنري كيسنجر، وزير الخارجية الاميركية المخضرم، في ورقة عمل بعنوان: «برنامج لما بعد الحرب»، مشدداً على ان «تتم عملية التسوية للصراع العربي «الإسرائيلي» بعيداً عن الامم المتحدة، كي لا تستدرج الولايات المتحدة الاميركية، بتأييدها« اسرائيل»، الى موقع الخصم، وان تتولى هي رعاية العملية مع الاتحاد السوفييتي، لتصبح حكماً».

ومن مفارقات البداية، التي تشبه مفارقات ما يسمونه الآن بالنهاية، ان اسحق شامير رئيس «حكومة إسرائيل»، الذي بدأ المفاوضات وشارك في مؤتمر مدريد، حين فشل في الانتخابات «الإسرائيلية»، وبعد تسعة شهور من الشروع في عملية التسوية، صرح: انه كان عازماً على ابقاء المفاوضات عشر سنين، والمضي قدماً، اثناء المفاوضات، في الاستيطان، حتى لا يبقى شيء يمكن التفاوض عليه.

واليوم، وعشية التمهيد للإخفاق، تهيئة للانتقال الى مرحلة اخرى من مراحل «الادارة بالكوارث» وفي عهد الرئيس اوباما لم تتوقف الوعود والمبادرات حتى بعد ان اعلان جورج ميتشيل مبعوث الرئيس اوباما ان التسوية قد ماتت وكما هو معروف فان طروحات اوباما ركزت على استئناف المفاوضات والحد من المستوطنات مقابل تطبيع عربي جماعي.

وهو تماماً ما قام به «جيمس بيكر»، عندما تعثرت مفاوضات مدريد، بعد انطلاقها، حين جاء الى المنطقة حاملاً مشروعاً، اهم ما كان فيه هو التزام «إسرائيل» بوقف المستوطنات في الاماكن كثيفة السكان، مقابل تقديم ضمانات القروض «لإسرائيل»، وكذلك بعض المقترحات في قضية القدس، يحولها الى مجرد «اماكن عبادة»، مقابل الغاء المقاطعة العربية للشركات الاجنبية التي تتعامل مع «إسرائيل».

بالادارتين الاميركيتين الجمهوريتين التاليتين لم يتغير الكثير في جوهر الهدف الاميركي للتسوية. فأحداث ايلول ـ سبتمبر الاميركية، منحت الادارة الجمهورية المحافظة زخماً لتحويل المشروع الى «نظام اقليمي كبير» يخص «شرق اوسط كبير»، وهو بالضبط ما رآه الناس والحكومات، في اعقاب «حرب الصدمة والترويع»، من ضغوط بشأن الديمقراطية وحقوق الانسان ومنظمات المجتمع المدني. اي باختصار شديد، فشلت الادارة الاميركية، منذ العام 1991، في كل محاولاتها اقامة «نظام اقليمي جديد» لا مكان فيه «للمتخلفين»، ولا «يغفر للجهلة» على حد تعبير شمعون بيريز.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2165274

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165274 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010