الأربعاء 10 آب (أغسطس) 2011

وعاظ السلاطين والشعوب العربية : نقبركم.. أو نتسلط عليكم

الأربعاء 10 آب (أغسطس) 2011 par توفيق شومان

حين سئل الفيلسوف الصيني موتزو (480 ـ 390 ق.م) عن مواصفات الحاكم وآليات حكمه في الصين القديمة، قال إن الحاكم إذا أراد نكاح امرأة اختار أجمل النساء وأرفعهن نسباً وحسباً، ولا يأخذه سبيل إلى رابط القربى، وإذا اعتل الحاكم وأقعده مرض أو أجلسه داء، استجلب أمهر الأطباء وأكثرهم كفاءة، ولا يعقد صلة قرابة بين الطبيب والسلالة الحاكمة، وحين يروم طيبة مأكل وزينة ملبس لا تأخذه غفلة إلى الأقرباء والمقربين دماً وأبناء عمومة وأخوال، بل يثقله البحث عن المهرة، وكذلك حاله مع قصوره ومنازله، حيث المعماري المصطفى والمختار، قد يكون من أبعد الأبعدين، ولكن حين يهم الحاكم بالتوزير يلتفت إلى «بطن أمه» فيولي أشقاءه، أو يهرول نحو بطون عماته وخالاته وأصلاب أعمامه ليسلط أقرباءه على مقامات السلطة، ولا يعني ذلك سوى أن الدولة في ذيل اهتمامات الحاكم، ولو أراد لها خيراً كما أراد لنفسه لاصطفى الأمهر والأكفأ من الناس لوزارته ودولته، كما فعل مع أحوال شخصه وملذاته وانفعالاته.

هذا النص للفيلسوف الصيني القديم، ربما اختزنته ذاكرة الزمن ليساجل فيه «فلاسفة الاستعباد» العرب، المتخندقين دفاعاً عن «سلطان غشوم درءاً لفتنة تدوم»، وحيث ديمومة مواصفات الحاكم العربي لم تأخذها سنة ولا نوم منذ ألفين وخمسمئة عام، إذ سلطة الغلبة لما يُسمى «ابن السماء» (التوصيف الصيني القديم للحاكم ـ الملك ـ الإله) ما فتئت تجتر آلياتها نفسها، حيث الحاكم هو رجل سلطة وليس رجل دولة، أو رأس النظام وليس رئيس دولة، ولذلك تخرج الدولة من دائرة تفكيره واهتمامه، ولهذه العلة لم تتشكل «الدولة الوطنية» في أي قطر عربي، بل انبسطت الممارسة السياسية، عربياً، على بناء أنظمة فئوية أو سلطات فئوية استلهمت مقولة معاوية بن ابي سفيان في السلطة والحكم حينما قال: «إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون».

هي السلطة إذاً... من عند الله، وقد اصطفى الله، بحسب النص السفياني، معاوية للسلطة والحكم والتسلط، وهذا هو لسان السلطان العربي في هذا الزمان، ولسان حاله يقول «أتأمر عليكم وأنتم لي كارهون» وحين تشرئب رؤوس الكارهين قليلاً، يستحضر الجند، بيضَ الهند، وهي السيوف المستوردة من بلاد الهند والسند كما كان يحلو لعنترة العبسي نعتها، فيمعنون في قطف الرؤوس التي أينعت كما ذهب الحجاج بن يوسف في خطبته الشهيرة، وأما «فلاسفة الاستعباد» في الزمن العربي الرديء، فيستحضرون ما قاله المتنبي في كافور الإخشيدي :

لا تشترِ العبد إلا والعصا معه *** إن العبيد لأنجاس مناكيد

والعبيد في النص السفياني ـ الفلسفي ـ الاستعبادي، هم الجمهور ـ المجتمع ـ الشعب، يساقون بالعصا ـ السيف ـ البندقية ـ المدفع، وإذا لزم الأمر بالطائرات المقاتلة (نموذج معمر القذافي) أو بالسلاح الكيماوي (نموذج صدام حسين)، وإلى جانب أدوات القتل والإخضاع، يجترح «فلاسفة الاستعباد»، أضحوكات فكروـ سياسية وأهبولات اقتصادية حين ترتفع حناجرهم بالقول إن الثورات الشعبية العربية يمتطيها تضليل الغرب ـ الإمبريالي الهادف إلى إشاعة نماذجه السياسية والاقتصادية في «أمتنا العظيمة» بحيث يصار إلى تنميط العرب العاربة والعرب المستعربة وفق مشيئة الاستعمار الجديد، وهنا بيت القصـيد الأول وفيه نقاش :

1 : يشتري «فلاسفة الاستعباد» ثلاجاتهم وهواتفهم المحمولة من الغرب، ويقتنون سياراتهم الفارهة المصنعة في المنظومة الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة (هل تذكرون المنظومة الإشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي؟) ويتعطرون بما تنتجه باريس، ويتفاخرون بأحذيتهم الإيطالية، ويرتدون البذلات المستوردة من عواصم الشر والشيطان في أوروبا، ويسافرون في طائرات أنتجتها شركات «ما فوق رأسمالية» والخلاصة، أن الغرب يقبع في تفاصيل الحياة اليومية لـ «فلاسفة الاستعباد»... وحين يصل الأمر إلى الديموقرطية، يغدو الحديث عنها او الهمس بها، مؤامرة يقتضي تجييش الجيوش ضدها وتجنيد الجحافل لإسقاطها!

2 : تقوم النظم السياسية العربية على بنى دعوية حين تقارب المؤسسات عملية توزيع السلطة، فهناك رئيس ـ امير ـ ملك، تعاونه حكومة ووزراء، وفي معظم مشهد النظم العربية، مجلس تشريعي وسلطة قضائية، وكذلك عمليات انتخابية واستفتاءات، والمفارقة في هذا الاستدعاء لبنى النظم في العالم العربي، أن «فلاسفة الاستعباد» لا يعترضون على مصدرها الغربي ـ الاستعماري، ولا يعتبرونها غزواً وزحفاً مشبوهاً، أي انهم غربيون في تبريرهم لشكلانية النظم التي يتفلسفون دفاعاً عنها، أما حين تثور الشعوب العربية مطالبة بتفعيل هذه الأطر وتحويلها إلى مؤسسات فعلية منفصلة بعضها عن بعض، فيستل «فلاسفة الاستعباد» نص المؤامرة، ويحركونه ميمنة وميسرة وباتجاه كل قطر عربي تحركت ملايين بشره وناسه هاتفة بكسر سلطة الشخص ـ الإله وقائلة بولاية الناس على أنفسهم وباستحالة ان يكون «الشخص» وحده بطلاً ـ مقداماً ـ وطنياً ـ شريفاً، فيما الوطن بقضه وقضيضه تحت مقصلة الاتهام وفي دائرة شبهة الولاء لحاله ونفسه. والمثير في نص «فلاسفة الاستعباد» انهم يمجدون ويقدسون النظام السياسي الغربي بنموذجه الفاشي ـ النازي ـ الستاليني الذي استلهمه السلاطين العرب، ويؤبلسون ويلعنون الديموقراطية الغربية، فالفاشية ونظيراتها طاهرة مطهرة، والديموقراطية مؤامرة ورجس من أعمال الشيطان.

3 : أكثر ما يهذي به «فلاسفة الاستعباد» مقولة توازي بين الثورة العربية الراهنة ومؤامرة النهب الاقتصادي الغربي، بل إن الأولى صنيعة الثانية وفق التمنطق ذاته، وهذه البلاهة (من دون اعتذار ومن دون تواضع) تتعامى عن كون الغرب مثلاً يضبط سقف إنتاج النفط في «وطننا العربي الكبير»، ويحدد أسعاره ويبوصل طرق صادراته، وأما عائدات النفط وفق الأمر المعلوم والمعروف، فتذهب إلى مصارف الغرب وبيوتاته المالية طيعة مطواعة، وبرضى السلاطين والخلفاء العرب، أي ان الغرب يحصل علناً على ثروة «الأمة الخالدة»، فلا تعوزه ثورات ولا مؤامرات حتى تأخذ يساره من يمينه.

ذاك هو بيت القصيد الأول، وأما بيت القصيد الثاني فيتعلق بوعاظ السلاطين الذين يفتون بحرمة الثورة الشعبية درءاً للفتنة أو بحرمة الخروج على أولي الأمر (وما أدرى وعاظ السلاطين بأولي الأمر)... وهنا ثمة نقاش أيضاً :

1 : في المتعارف الديني والمأثور الفقهي الإسلامي (الملل والنحل الإسلامية كافة) أن التكليف الشرعي للذكور تتراوح فئته العمرية بين 13ـ 15عاماً، (أما للإناث فقد اختلف القوم، فقيل من السنة التاسعة وقيل أبعد من ذلك بسنتين أو ثلاث، والتكليف الشرعي بمعناه العملي، وقوف المرء على مسؤولية أفعاله، وخضوعه للمساءلة والمحاسبة أمام رب العالمين في يوم الحشر والقيامة، «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، نَارٌ حَامِيَةٌ» ـ (سورة القارعة)، وبما يعني أنه حين يبلغ الإنسان سن التكليف الشرعي يغدو مخيراً في تحديد موقعه في العالم الآخر، أي انه حر في اختيار أفعاله وأعماله وسلوكياته التي يتأسس عليها الخلود في الجنة أو الجحيم، ومثل هذه الحرية التي منحها الله تعالى للإنسان في اختيار آخرته. يأتي «وعاظ السلاطين لينزعوها عنهم في أمر دنيوي يتمثل في اختيار الحاكم، وبمعنى آخر، فإن سن التكليف ـ المسؤولية ـ الرشد ـ النضج، الممنوح للبشر إلهياً، تجاه أمر أخروي خلودي خطير، مسلوب المفاعيل من قبل وعاظ السلاطين دنيوياً، أي انهم يصادرون من البشر حقاً (الحرية) منحهم الله إياه، حيث يُسقط وعاظ السلاطين حق الشعوب في الاختيار، فلا سن رشد سياسياً لديهم، (التكليف الشرعي) ولا من يحزنون.

2 : الشطر الأول من بيت القصيد الثاني إذاً، يوجز «وعظية السلب» القائمة على مصادرة مسؤولية الشعوب واختياراتها الحرة الممنوحة من رب العالمين، وأما الشطر الآخر فيرتبط بالشورى، وفي القرآن الكريم نقرأ التالي :

أ : «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» ـ سورة الشورى.

ب : «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» سورة آل عمران.

مبتدأ الكلام في هذا الجانب، ينهض على ملاحظة الفظاظة وغلاظة القلب المسوغتين لانفضاض الناس عن النبي محمد (ص) لو نحا نحوها، وهو ما يشكل مبرراً كافياً لانفضاض الناس عن الحاكم العربي والخروج عليه، وهذه هي حال الثورات العربية، حيث استجمع سلاطين العرب، ما استطاعوا إليه سبيلا من فظ وغليظ، وشدة وقسوة، واستكبروا عن الرحمة، وأنكروا الغفران لشعوبهم، وأخذتهم العزة بالإثم، ونهبوا وسلبوا، وقتلوا وصلبوا، وحين التفتوا إلى السماء، قرروا منافسة الخالق في حضوره في المكان والزمان، فتصنموا، وراحوا يزرعون صورهم وتماثيلهم في كل حدب وصوب، وإذ عجزوا عن التقاط الزمان، لجأوا الى التوريث، لتبقى أسماؤهم خالدة مخلدة، يتناقلها ويتداولها ويتناولها الناس كما يفعلون مع الله حيث تجري أسماؤه على ألسنة عباده في كل مكان وزمان.

وصفوة القول هنا، ان الشورى سمة أهل الإيمان والتقوى، وتالياً، الاضطراب في الاجتماع البشري. وتلك هي قواعد التاريخ الإنساني ومعادلاته، أي الطاغوت يقابله الاضطراب فالثورة، وهذا ما يفعله عرب القرن الحادي والعشرين حين يثورون على طواغيتهم الذين تجاوزوا حد الحق إلى الباطل، وحد العدل إلى الظلم، وحد الشورى إلى الاستبداد، وحد الأنسنة إلى التأله، ومع ذلك يتحدث وعاظ السلاطين للمقتولين والمظلومين والمجلودين والمسجونين والمنهوبين والجوعى وأصحاب الصرخة واللوعة عن «تزاحم المصالح» الذي يعني في السياسات العربية دوام عرش الطاغوت وورثة الطاغوت وورثة ورثة الطاغوت.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2177857

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2177857 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40