الاثنين 8 آب (أغسطس) 2011

عبد الناصر والإخوان (1-2)

الاثنين 8 آب (أغسطس) 2011 par د. عبد الحليم قنديل

قصة صدام عبد الناصر مع الإخوان طويلة، ولا يتسع المجال لرواية تفاصيلها، وإنما نقف عند أبرز ملامحها ومغازيها.

ويلزم أن نرفع عما جرى صفتين : أولهما : أن يكون صداماً دينياً، ثانيهما : أن يكون صداماً مدفوعاً إليه أو تم لحساب جهات أجنبية، وأغلب كتابات الإخوان تدور حول التفسيرين، ووصل الحال بكاتبة إخوانية هي السيدة زينب الغزالي أن تقول في مذكراتها : «إن المخابرات الأمريكية والمخابرات الروسية والصهيونية العالمية قدمت تقارير مشفوعة بتعليمات لعبد الناصر بالقضاء على الحركة الإسلامية».

وتفسير تآمري كهذا لا يصمد لنقاش، بل من العبث أن يناقشه أحد، إنه يجور على بديهية استقلالية عبد الناصر وعدائه الصارم للغرب بكافة تلاوينه وأطيافه، كذلك لا يجوز التفسير الديني، لأنه ليس للإخوان، ولا لغيرهم حق إدعاء سلطة دينية ليست في الإسلام، ثم إن عبد الناصر لم يكن غريباً عن الإسلام، بل كان وارثاً ومجدداً لصيغة التوفيق الفعال بين الإسلام والعقل الثوري المنفتح على العصر.

لم يبق غير التفسير الواقعي جداً، وهو أن ما جرى كان صداماً بين تنظيمين وصيغتين، وأن ما حدث من تجاوزات مدان من الجميع، وأولهم الناصريون، لكنه لا يصح أن يعمينا عن رؤية ما هو جوهري في القصة كلها.

كان الإخوان يمثلون موروثاً يتحدى الوافد ويصارعه، كانوا حالة دفاع عن ثقافة وحضارة مهددة، كانوا يعرفون مالا يريدون، أما ما يريدونه فلم يكن معلوماً بالدقة ولا بالإجمال المفيد، بينما عبد الناصر كان يعرف طريقه، لا أعني أنه كانت لديه إيديولوجيات متكاملة منذ البداية، بل كان في الواقع دليله ووراءه ميراث التوفيق الفعال في التاريخ المصري الحديث والمعاصر بالذات. ودعونا نعيد تأمل ما جرى :

نشأت بداية حركة الضباط الأحرار ـ كما هو معروف ـ سنة 1938، وقتها كان عبد الناصر يعمل في منقباد، ويقول لزملائه من الضباط الوطنيين : «إن الإنجليز أصل بلائنا كله» والتاريخ له مغزاه، ففي العام نفسه تحولت حركة الإخوان إلى العمل السياسي، وأعلنت حركة مصر الفتاة عن تحولها إلى حزب، ثم كانت معاهدة 1936 تؤتي أكلها، فقد تفسخت المؤسسة السياسية القديمة بكل أحزابها، وقنع زعماؤها بدور الشريك الأصغر لقصر الملك ودور المندوب السامي، وقررت سلطات الاحتلال فتح أبواب الكلية الحربية لفئات كانت محرومة، وكان الهدف تقوية الجيش المصري لتوريطه في الصدام مع جيوش النازي الزاحفة من شمال إفريقيا، ويذكر اليوناني «فاتيكيوتيس» في كتابه (الجيش المصري في السياسة) : «أن الأحد عشر ضابطاً الذين ضمتهم الهيئة التأسيسية لجماعة الضباط الأحرار في أواخر 1949 دخل منهم الكلية الحربية سنة 1936 ثمانية والباقون دخلوا بعدها، وأن خمسة منهم ولدوا سنة 1918 واثنين 1917 والباقون أقل سناً، وكانت غالبيتهم من أصول شعبية، كما أن صلتهم بالريف لا تبعد عن جيل الآباء أو الأجداد».

وكانت حركة الضباط الأحرار نوعاً من الاستطراد في ظروف جديدة لتقليد راسخ في حركة الوطنية المصرية، فقد نشأ الجيش الحديث مع تجربة محمد علي الاستقلالية، وتحرك الجيش المصري وراء عرابي، وفي ثورة 1919 تحركت جمعيات سرية مساندة في أوساط الجيش كما يقول اللواء محمد نجيب في مذكراته، وبعد الحرب العالمية الثانية نما النشاط الوطني في صفوف الجيش المصري باطراد، فقد التفت مجموعة من الضباط الشبان (بينهم عبد اللطيف بغدادي ـ حسن إبراهيم ـ عبد المنعم عبد الرءوف) حول عزيز المصري، وكان عزيز المصري معروفاً بشدة عدائه للإنجليز وتعاونه مع حركة رشيد عالي الكيلاني في العراق، وكان جمال عبد الناصر يعتبر عزيز المصري بمثابة الأب الروحي، وإن لم ينضم لجماعته، واقترب عبد الناصر من تنظيم سري آخر في الجيش تابع لجماعة الإخوان المسلمين، ثم انشق عن التنظيم الإخواني سنة 1947، بعد مناهضة الإخوان لانتفاضة العمال والطلبة سنة 1946، وخرج معه آخرون بينهم كمال الدين حسين وخالد محيي الدين، وإلى جوار هذين التنظيمين كان هناك تنظيم عسكري ثالث لحركة «حدتو» الماركسية تشكل سنة 1945، ثم انشق عنه أغلب أعضائه بعد التزام «حدتو» (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) بموقف الاتحاد السوفيتي المؤيد لإنشاء «إسرائيل» وتقسيم فلسطين، وإلى جوار تلك التنظيمات الشخصية والأيديولوجية الثلاثة، كان هناك عدد هائل من الضباط وصف الضباط الوطنيين استفزهم حادث 4 شباط/فبراير 1942، وهو الحادث الذي أجبر خلاله الملك فاروق على تعيين وزارة وفدية بأمر مباشر من المندوب السامي البريطاني السير «مايلز لامبسون» وتحت تهديد الدبابات التي تطوق القصر الملكي.

وكان عبد الناصر يتأمل ما جرى في الجيش، ثم يتلمس مراكز التأثير خارجه، وقد احتك بالوفد حيناً وانضم إلى مصر الفتاة حيناً آخر، واقترب من الإخوان والماركسيين والحزب الوطني وجهازه السري بقيادة عبد العزيز علي، ثم كان اشتراكه كقائد فيلق في حرب 1948 نقطة النهاية في رسوخ اليقين لديه بضرورة التغيير وأداته الممكنة، وأدرك عبد الناصر وهو محاصر في منطقة الفالوجا الفلسطينية : «أن المشكلة ليست في الأسلحة الفاسدة التي زود بها الجيش المصري، بل في ترك العواصم للذئاب ترعاها»، وعاد إلى القاهرة ليجمع كل معارفه من الضباط الوطنيين من كل الاتجاهات في تنظيم واحد أطلق عليه اسم «الضباط الأحرار»، وتم اجتماعه القيادي الأول في تشرين الأول/أكتوبر 1949، وهنا تجلت موهبة عبد الناصر في التنظيم المحكم الذي تنتهي كل خيوطه إليه شخصياً، كما نجح في جعل التنظيم مرآة عاكسة لكل تيارات الأجيال الجديدة «فقد تفرعت عن قيادة الضباط الأحرار إدارة اسمها «إدارة الاتصال بالكتل الشعبية» إلى جوار أربع إدارات أخرى للتجنيد والتمويل والإرهاب والأمن» وفي سنة 1950 وضع عبد الناصر للتنظيم الجبهوي برنامجاً من ست نقاط : القضاء على الاستعمار وأعوانه من الخونة المصريين، والقضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، إقامة عدالة اجتماعية، إقامة جيش وطني قوي، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة.

وقد يسأل سائل : وأين الإسلام ؟ سؤال طرحه حسن الهضيبي مرشد الإخوان على عبد الناصر في أيام الثورة الأولى، ورد عليه عبد الناصر : «إن التحرر من الاستعمار والاستغلال بداية العمل للإسلام» ويقول د. حسن حنفي ـ وكان وقتها عضواً بحركة الإخوان : «إذا كان القرآن هو الدستور، فإن ذلك يعني خلع الملك والقضاء على الفساد والظلم الاجتماعي وتحقيق الجلاء، وهو ما حققته الثورة» ويضيف د. حنفي : «لم يتجاوز الإخوان حدود الشعارات الدينية ولم يملأوها بمضمون سياسي، في حين حققت الثورة المضمون دون الشعار».

كانت تلك صيغة البداية، وفيها يتضح تأثر عبد الناصر بحاجات الواقع وبصيغة «التوفيق الفعال»، وقد يصح هنا أن نضيف لمحة عن خريطة القراءات التي أسهمت في تشكيل وعي عبد الناصر قبل الثورة، وقد نشر السويسري «جورج فوشيه» قائمة إصدارات بالعربية والإنجليزية استعارها عبد الناصر من مكتبة مدرسته الثانوية ثم من مكتبة الكلية الحربية التي تعلم بها وعمل بها بعد تخرجه، وتبرز في قائمة فوشيه مؤلفات رموز «التوفيق الفعال» الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان وسيرة مصطفى كامل ومؤلفات عبد الرحمن الرافعي عن تاريخ الثورة المصرية وديوان على الغاياتي «وطنيتي»، وتبرز أيضاً قراءاته في التاريخ والاقتصاد السياسي والاستراتيجية العسكرية بعدها تجئ قراءاته في سيرة بسمارك والثورة الفرنسية، ومجلد ضخم اسمه «معجزة اليابان» كتجربة بلد حقق تنمية هائلة بعيداً عن سيطرة الغرب.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 25 / 2177789

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2177789 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40