الثلاثاء 23 آب (أغسطس) 2011

كيف نرد العدوان «الإسرائيلي»؟

الثلاثاء 23 آب (أغسطس) 2011 par د. علاء الاسواني

حدثت هذه الواقعة يوم 17 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2004، كان العسكري المجند عامر أبو بكر عامر واقفاً في نوبة حراسته في مدينة رفح المصرية ومعه زميلاه المجندان على صبحي النجار ومحمد عبد الفتاح. في الساعة الثالثة صباحاً لمحوا دبابة «إسرائيلية» من طراز «ميركافا» تقترب منهم حتى أصبحت على مقربة عشرين متراً ثم أطلقت نحوهم دانة مدفع أعقبتها بإطلاق نيران كثيفة.. أدى القصف الى استشهاد المجندين على صبحي ومحمد عبد الفتاح فوراً، أما عامر ابو بكر فقد أصيب بجراح بالغة أدت فيما بعد الى استشهاده في المستشفى.. هذه واحدة من حوادث عديدة اعتدت فيها «إسرائيل» على ضباط وجنود مصريين على الحدود فأصابتهم وقتلتهم، وفي كل مرة كانت الجريمة تمر بلا عقاب.. وعود بتحقيقات وبضع كلمات تعبر عن أسف الحكومة «الإسرائيلية» ثم ينتهي الأمر عند هذا الحد. في أعقاب أحد هذه الاعتداءات، التقى حسني مبارك بصديقه العزيز بنيامين نتنياهو، وبعد أن انتهى الاجتماع سأل صحافي أجنبي مبارك إن كان تحدث مع نتنياهو عن الشهداء المصريين الذين قتلتهم «إسرائيل»، عندئذ قال مبارك باستخفاف:

ـ وماذا تريد لنتنياهو أن يفعل؟! لقد اعتذر وانتهى الأمر.

كان حسني مبارك يبذل كل ما في وسعه لإرضاء «إسرائيل»، حتى وصفه أحد القادة «الإسرائيليين» بأنه كنز استراتيجي للدولة العبرية. أفرج مبارك عن الجاسوس عزام عزام، ولم يطالب «إسرائيل» بأية تعويضات عن الأسرى المصريين الذين قتلتهم أثناء حروبها مع مصر، وأعاد السفير المصري الى «تل أبيب»، ووقع اتفاقيات الغاز بأسعار أقل من الأسعار العالمية، ومارس ضغوطاً شديدة على حركة «حماس»، إرضاءً لـ «إسرائيل». كان هدف حسني مبارك من ارضاء «إسرائيل» أن يكسب الى صفه اللوبي الصهيوني في الإدارة الأميركية من أجل توريث حكم مصر الى ابنه جمال. هكذا راح دم الشهداء المصريين هباء، باستثناء واقعة فريدة حدثت للمجندين الثلاثة الذين استشهدوا عام 2004، فقد قامت أسرهم برفع قضية تعويض وحكم لهم القضاء المصري العظيم بتعويض مبلغ 10 ملايين دولار لكل شهيد. كان منطق المحكمة أن هذا المبلغ ذاته أقرته المحاكم الدولية كتعويض لكل ضحية من ضحايا حادثة «لوكربي» الذين سقطت بهم الطائرة فوق اسكوتلندا، وقد أكدت المحكمة أن التعويض عن القتل يجب ان يكون واحداً لأن قيمة النفس الإنسانية واحدة سواء كان الضحايا عرباً أم غربيين.. هذا الحكم التاريخي (الذي لم ينفذ حتى الآن) صدر من الدائرة 4 تعويضات من محكمة استئناف القاهرة، وكانت الدائرة برئاسة المستشار أحمد البرديسي وعضوية المستشارين حمدي غانم وأحمد سليمان وحضور أمين السر سعيد زهير.

الغضب العارم من العدوان «الإسرائيلي» نبيل ومشروع. المصريون يحسون بأن المعاملة «الإسرائيلية» المهينة التي تحملوها أيام مبارك آن لها أن تتوقف. يجب على «إسرائيل» أن تدرك أن مصر تغيرت، وكما أن حليفها مبارك في قفص الاتهام أمام محكمة الجنايات فإن الشعب المصري لن يقبل بعد الثورة أن يُقتل أبناؤه ويفلت القتلة من العقاب. السؤال : لماذا اخترقت «إسرائيل» الحدود المصرية واعتدت على جنودنا الآن بالذات؟

الإجابة تجرنا الى موقف «إسرائيل» من الثورة المصرية. في يوم 4 شباط (فبراير) الماضي، كتب المفكر الأميركي الكبير ناعوم تشومسكي مقالاً مهماً في جريدة «الغارديان» البريطانية فند فيه المقولة الشائعة بأن اميركا وحلفاءها لن يسمحوا بالديموقراطية في مصر خوفاً من الإسلاميين. قال تشومسكي إن الولايات المتحدة لا تعتبر الإسلاميين خطراً حقيقياً، والدليل على ذلك أنها تحالفت مراراً مع أكثر الإسلاميين تشدداً من أجل تحقيق مصالحها. فقد تحالفت الولايات المتحدة على مدى عقود مع السعودية، موطن الأفكار الوهابية المتطرفة، كما تحالفت مع الجنرال ضياء الحق، وهو من أكثر الحكام المستبدين إجراماً، الذي طبق في باكستان نظاماً صارماً لتطبيق الشريعة باستعمال أموال السعودية. الخطر على الولايات المتحدة في رأي تشومسكي لا يأتي من الإسلاميين، إنما في أن تتحول مصر الى دولة مستقلة فعلاً. ويخلص تشومسكي الى أن الولايات المتحدة ستقبل الإطاحة بمبارك بضغط من الثورة لكنها ستبذل كل جهدها لكي يتولى الحكم بعد مبارك رئيس مصري، لا يخرج أبداً عن المسار المرسوم له (تأمل المحاولات المستميتة للدفع بعمر سليمان وأحمد شفيق الى رئاسة الجمهورية).

انتهى كلام تشومسكي لنفهم منه أن «إسرائيل» ومن خلفها الولايات المتحدة، في حالة فزع من التغيرات التي تحدث في مصر. «إسرائيل» تدرك جيداً أن مصر تملك إمكانات كبرى لا تملكها دولة أخرى في المنطقة، وأن مصر الديموقراطية ستكون دولة حديثة قوية عملاقة تقود العالم العربي وتحدد ما يحدث في المنطقة بأسرها. من المنطقي أن تفعل «إسرائيل» كل شيء من أجل تعطيل التحول الديموقراطي في مصر، خلال الستة أشهر الماضية التي أعقبت تنحي مبارك لم تكن «إسرائيل» بحاجة الى التدخل لأن الوضع في مصر كان مرتبكاً والرؤية مشوشة تماماً. تعديل دستوري تم إلغاؤه ببيان دستوري وانفلات أمني وأزمة اقتصادية من تراجع السياحة والاستثمارات، والأخطر من ذلك خلاف خطير بين القوى الثورية تحول الى ما يشبه الصراع بين جماعات الإسلام السياسي والمناصرين للدولة المدنية. استغرق الجميع في جدل طويل حول ما إذا كان يجب كتابة الدستور أولاً أم إجراء الانتخابات أولاً.. أضف الى ذلك أن الإجراءات التي اتخذها المجلس العسكري عجزت عن حماية الثورة ومنحت لفلول النظام القديم فرصة ذهبية لمحاربة الثورة، ثم بدأت مواجهات مؤسفة بين شباب الثورة والمجلس العسكري تطورت الى اتهامات متبادلة ومطاردات ومحاكمات عسكرية. كانت «إسرائيل» بلا شك تراقب الوضع في مصر وهي مطمئنة الى أن الثورة المصرية تجهض نفسها بنفسها. فجأة بمبادرة من المجلس العسكري، استعاد الأزهر دوره التاريخي ووضع وثيقة عظيمة للتوافق الوطني حدد فيها ملامح الدولة المصرية القادمة، وإذا بكل القوى الوطنية توافق على وثيقة الأزهر، حتى السلفيين الأكثر تشدداً وافقوا على الوثيقة وأبدوا عليها ملاحظات بسيطة غير جوهرية. هكذا انتهى الجدل حول الدستور وتوحدت القوى الثورية من جديد وقطعت مصر خطوة واسعة نحو التحول الديموقراطي .لم يتبق لنا إلا أن نقنع المجلس العسكري بإجراء انتخابات نزيهة تأتي الى الحكم بحكومة منتخبة. هنا، في تقديري، كان لا بد لـ «إسرائيل» أن تتدخل بقوة لإفساد مسار الثورة... بدأ الأمر بظهور مفاجئ لجماعات مشبوهة مزودة بأسلحة وفيرة، راحت تعتدي على أقسام الشرطة وتزعزع سيطرة الدولة في سيناء. المقصود هنا التدليل على الانفلات الأمني في سيناء، مما يبرر العدوان «الإسرائيلي» الذي لم يتأخر، فدخلت القوات «الإسرائيلية» الى الأراضي المصرية وقتلت وجرحت عدداً من الضباط والجنود المصريين. الأهداف من العدوان «الإسرائيلي» متعددة : اختبار السلطة الجديدة في مصر وإرباكها وإظهارها بمظهر العاجز عن حماية الوطن وتعطيل التحول الديموقراطي، وقد يكون الهدف استدراج مصر الى مواجهة عسكرية غير محسوبة تقضي على الثورة قضاءً نهائياً (كما تم استدراج عبد الناصر في عام 1967).. ما العمل؟ كيف نرد العدوان بطريقة تفهم منها «إسرائيل» أن عهد حسني مبارك الذي فرّط في حقوق المصريين وكرامتهم قد انتهى الى الأبد. هناك خطوات عاجلة وفعالة يجب اتخاذها وتتلخص في الآتي :

أولاً : طرد السفير «الإسرائيلي» من القاهرة واستدعاء السفير المصري من «إسرائيل»، والبدء فوراً في إجراءات قانونية تمكن مصر من ملاحقات قضائية دولية تجبر «إسرائيل» على دفع تعويضات كبيرة لكل الشهداء الذين قتلتهم ظلماً وغدراً على مدى أعوام. إن الحكم التاريخي الذي أصدره المستشار أحمد البرديسي وزملاؤه يصلح كأساس لقضايا تعويض على المستوى الدولي سوف تتكبد فيها «إسرائيل» ملايين الدولارات جزاءً عادلاً لجرائمها البشعة.

ثانياً : مراجعة أو إلغاء كل الاتفاقيات التي تربطنا بـ «إسرائيل»، بدءاً من اتفاقية «الكويز» الى اتفاقيات بيع الغاز وتصدير الإسمنت. ونؤكد هنا أن الخسائر الاقتصادية لـ «إسرائيل» أكثر إيلاماً لها من الإدانة المعنوية التي تعودت عليها حتى أصبحت لا تكترث لها كثيراً...

ثالثاً : الرد على شكوى «إسرائيل» من الانفلات الأمني في سيناء يجب أن يكون بالمطالبة بتعديل معاهدة السلام بشكل يسمح بنشر القوات المصرية على سيناء بأكملها. المعاهدة تسمح بتعديل بنودها بشرط موافقة الطرفين وإذا رفضت «إسرائيل» التعديل المطلوب من حقنا طبقاً للمعاهدة أن نلجأ للتحكيم الدولي ولدينا خبراء قانون دولي يستطيعون انتزاع حقوقنا في المحاكم الدولية كما حدث في موضوع طابا.

رابعاً : واجبنا الآن أن ندعم القوات المسلحة في مواجهتها ضد «إسرائيل»، ولكن واجبنا أيضاً أن نلحّ على المجلس العسكري حتى يسرع بإجراءات تمهّد الأرض أمام أول انتخابات ديموقراطية في مصر منذ ستين عاماً. مطالبنا معروفة ومحددة : الإسراع بمشروع استقلال القضاء واستبعاد القضاة الذين أشرفوا على تزوير الانتخابات في عهد مبارك. تطهير الشرطة من الضباط المزورين والفاسدين. تغيير النائب العام الذي اضطر الى مواءمات سياسية كثيرة في عهد مبارك وتعيين نائب عام جديد يعبّر عن الثورة، مثل المستشار زكريا عبد العزيز أو المستشار أشرف البارودي أو المستشار هشام البسطويسي أو غيرهم من رموز استقلال القضاء. إيقاف المحاكمات العسكرية فوراً والإفراج عن آلاف المعتقلين في السجن الحربي وإعادة محاكمتهم أمام القضاء المدني. منع استعمال دور العبادة الإسلامية والمسيحية في الدعاية الانتخابية. إعطاء المصريين في الخارج حقهم في التصويت في الانتخابات، وأخيراً قبول الرقابة الدولية على الانتخابات كدليل على نزاهتها أمام العالم كله.

خامساً : بعد أن يتم تحقيق الإجراءات التي تضمن نزاهة الانتخابات، يجب التعجيل بإجرائها في أقرب فرصة. هنا أتوقع أن يرتفع السياسيون في مصر الى مستوى المسؤولية وأن يضعوا مصلحة الوطن قبل مصالحهم الضيقة. إن إجراء الانتخابات بشكل محترم وعادل أهم بكثير من نتائجها .إذا كنا ديموقراطيين حقاً فيجب أن نحترم اختيار الشعب حتى لو اختلفنا معه.

إن التظاهرات الحاشدة والهتافات المدوية والاعتصامات وانتزاع العلم «الإسرائيلي» من شرفة السفارة «الإسرائيلية» وإحراقه.. كل هذه ممارسات تلقائية صادقة تعبر عن غضب شعبي نبيل، لكنها في رأيي أقل بكثير من الرد المناسب على العدوان «الإسرائيلي».. الرد الصحيح على العدوان «الإسرائيلي» سوف يتحقق بتفويت هدفه، ولن يحدث ذلك إلا بنقل السلطة الى حكومة منتخبة حتى تتفرغ القوات المسلحة لمهمتها القتالية، وتبدأ مصر المستقبل الذي تستحقه...

الديموقراطية هي الحل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2180935

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2180935 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40