الأربعاء 26 أيار (مايو) 2010
التسلط الحواري والرأي العام وحدود الآراء المعارضة

عندما تذهب وسائل الإعلام إلى الحرب ...

تأليف : أنتوني ديماغيو- عرض وترجمة : محمد ابراهيم فقيري
الأربعاء 26 أيار (مايو) 2010

في هذا الكتاب، الجديد والمثير، يستخدم المؤلف وهو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة إيلينوي الأمريكية، أنتوني ديماغيو، الحرب الأمريكية على العراق والصراع الأمريكي الإيراني كوسائل اختبار لتمحيص العلاقة الواهية بين الأخبار و”البروباغندا” في وسائل الإعلام الأمريكية والغربية . وفي كتابه، ينهل ديماغيو ويقتبس من مفاهيم المفكر الإيطالي اليساري أنتونيو غرامشي، التي تركز على التسلط والهيمنة الثقافية، ويستشهد ديماغيو كذلك بأعمال ومؤلفات مناهضي الإمبريالية السياسية والثقافية من أمثال نعوم شومسكي، إدوارد هيرمان، وروبرت ماكشيسني . وببراعة يمزج ديماغيو نهجه الأكاديمي التجريبي الصارم بلغة تحليلية واقعية وجزلة، لينير القراء ويسلط الضوء على قضايا جوهرية، ويقدم دفعة إيجابية للنضال من أجل إعلام ناقد وهادف، وديمقراطية فاعلة .

الإعلام الأمريكي في خدمة الأهداف الإمبريالية

يكشف ديماغيو، أن ما تقدمه الصحف والبرامج التلفزيونية الإخبارية، الأمريكية والغربية، التي تلعب دوراً كبيراً في التأثير في أدمغة الجمهور المتلقي، لا يعدو كونه مجرد “بروباغندا” هائلة، تدعم الدكتاتورية الإمبريالية والنخب المتسلطة التي تحكم العالم .

في مقدمة الكتاب، يسهب ديماغيو في تمحيص ما بات يعرف ب “بروباغندا موديل”، وهو مفهوم طوره المفكران شومسكي وهيرمان في العقدين السابقين .

وهذا المفهوم، أو النظرية الإعلامية، يهدف لتحليل محتوى أنباء وتقارير السياسة الخارجية الأمريكية والرؤى التي تتناول هذه السياسة في كبريات أجهزة الإعلام الأمريكية .

ومنذ أن أخرج شومسكي وهيرمان دراستهما الكلاسيكية التي كان عنوانها “تلفيق الرضا” التي نشرت في العام ،1988 وتضمنت مفهوم “البروباغندا موديل” منذ ذلك الحين ظلت تغطيات الميديا الأمريكية للسياسة الأمريكية الخارجية، ملتصقة بشدة ومؤيدة للقوى والعناصر المحدودة، التي تمثل قمة الإمبريالية والتعصب في أمريكا .

تحت ظل وولاية الميديا الأمريكية، يتم تصوير وتجسيد “العم سام” دوماً باعتباره الرجل النبيل، المعطاء، الديمقراطي، الذي يتمتع بنوايا حسنة تجاه العالم، والعم سام (أمريكا) لم يكن يوماً ما عنيفاً، أو خبيثاً، أو قاتلاً ولم يكن كذلك مجرماً قمعياً ولا إمبريالياً . وتزعم الميديا أن الولايات المتحدة ترتكب “أحياناً” أخطاء “محزنة”، وهفوات تكتيكية فنية ناجمة من سوء الحظ، وهذه الأخطاء والهفوات تأتي في سياق تنفيذ سياساتها الخارجية الفاضلة، وهذه السياسات ليست أبداً غير شرعية، أو غير أخلاقية كما انها في جوهرها ليست إمبريالية “نحن الأمريكيين طيبون ومثاليون” والناس الذين يواجهون مصيرهم، بفعل “إرهاب الدولة الذي تمارسه الولايات المتحدة، وحلفاء واشنطن (مثل “إسرائيل” والدول الغربية) هم أناس تافهون ولا يستحقون الاهتمام بهم ولا التعاطف معهم، ومعاناتهم لا تسترعي الانتباه . فهؤلاء الضحايا موجودون في الجانب الخطأ والخفي، الذي توجد فيه بنادق وسياسات العم سام وأصدقاؤه الشريفة والنبيلة .

وتنظر الميديا الأمريكية للانتخابات المحدودة المدارة بواسطة نخب الصفوة في أنظمة متحالفة مع الولايات المتحدة، باعتبارها برهاناً شرعياً على ديمقراطية مستنيرة .

أما بالنسبة لرؤية الميديا الأمريكية لأعداء واشنطن الرسميين، فتبدو الأمور مختلفة تماماً، إذ تكرر الميديا نثر اتهامات ومزاعم العم سام ضد الحكومات والجماعات التي يناوئها البيت الأبيض والبنتاغون . فهذه الدول والجماعات تعتبر سيئة وممقوتة . والانتخابات في الدول المعادية يجري تصويرها بإعتبارها ممارسات غير شرعية تتم في أجواء خداع جماهيري شاملة.

ومن ينتقدون السياسة الخارجية الأمريكية، باعتبارها لا أخلاقية، وغير شرعية أو إمبريالية ينظر لهم باعتبارهم متطرفين ايديولوجياً ولا يجب أخذهم على محمل الجد .

ويستند تحليل شومسكي وهيرمان للميديا الأمريكية على خمس سمات، يريانها بمثابة مرتكزات أساسية تحدد وتغربل المحتوى السياسي والاخباري، وهذه السمات هي:

1- الميديا الأمريكية تتسم بتركيز هائل للملكية (عدد قليل من الناس يملك كبريات أجهزة الإعلام الأمريكية)، كما أن المؤسسات الإعلامية الكبرى لديها توجه صارخ نحو تحقيق الأرباح .

2- تشكل الإعلانات مصدر الدخل الرئيسي للمؤسسات الإعلامية .

3- اعتماد الميديا على معلومات توفرها الحكومة، والشركات التجارية والمالية “عالم البيزنس عموماً، بالإضافة إلى خبراء ومختصين يمولون وتوافق عليهم مصادر السلطة والمال .

4- مدافع النقد التي يوجهها الجناح اليميني الذي يتهم المؤسسات الإعلامية القيادية بأنها تميل نحو اليسار، ويتهمها كذلك “بالنعومة” تجاه أعداء أمريكيا، وتستغل مزاعم التيار اليميني كوسائل لضبط وتوجيه الميديا .

5- اعتبار مناهضة الشيوعية بمثابة ديانة قومية مقدسة وآلية ضبط ورقابة . “إلصاق أي تهديد لسياسة ونفوذ الولايات المتحدة للشيوعية العالمية التي يفترض أنها تتآمر على أمريكا باستمرار، متخذة موسكو “قلعة الماركسية” قاعدة للمؤامرات .

وفي هذا السياق، من المهم أن ندرك أن كتاب “تلفيق الرضا” كتبه شومسكي قبل انهيار الحرب الباردة الثانية . بيد أن لغة مناهضة الشيوعية لا تزال تشكل ركيزة من ركائز تحليلات الميديا الأمريكية . وينوه ديماغيو إلى أن السمة الخامسة من سمات أو مرتكزات الميديا الأمريكية - هذه السمات تسمى بالمصافي “Filters” - يمكن تأويلها بحيث تشمل مكافحة الإرهاب كوسيلة من وسائل إسكات الانتقادات .

ويقول ديماغيو إن ثمة سمة أخرى “مصفاة سادسة” ينبغي إضافتها للسمات الخمس، التي ذكرناها آنفاً، وهي تتعلق بالانحياز لواشنطن، ومصادقتها، في كبريات أجهزة الميديا الأمريكية، وهذا ما يعرف “بالكتابة الموضوعية” التي تعمل أكاديميات الصحافة الأمريكية على تدريسها وغرسها في غالبية كليات الإعلام التي تنتج معظم الصحافيين والإعلاميين الأمريكيين .

شومسكي وهيرمان طبقا ببراعة نموذجهما على محتوى وتقارير وتحليلات الميديا الأمريكية منذ مذابح وحروب الإمبراطورية الأمريكية، حروب الهند الصينية، التي شنتها أمريكا على فيتنام وكمبوديا ولاوس في الستينات والسبعينات، مروراً بالثورة الإيرانية، والغزو السوفييتي لأفغانستان، كذلك طبق هيرمان شومسكي نموذجهما على “فضيحة ووترغيت”، وعلى جلسات استماع قضية إيران كونترا وعلى حروب أمريكا الوسطى الإرهابية التي هندستها الولايات المتحدة، وكما أوضح شومسكي وهيرمان لا تزال الايدولوجيات الأساسية . “السمات أو المصافي الخمس أو الست الرئيسية” لا تزال تحدد أبعاد تغطيات وتحليلات الميديا الأمريكية المتعلقة بتصرفات وسياسات الولايات المتحدة في العالم .

الإعلام وغزو العراق

وبعد المقدمات المستفيضة والتمهيد، يستعرض ديماغيو في بدايات مؤلفه تغطية وتحليلات الميديا الأمريكية لمسألة الانسحاب من العراق منذ أن نادى بذلك عضو الكونجرس جاك مورثا العام 2005 الذي كان أول مسؤول أمريكي يطالب بانسحاب الولايات المتحدة من العراق، وعلى عكس مزاعم التيار اليميني القوي الخرقاء التي تدعي أن الميديا الأمريكية تميل نحو اليسار، يظهر ديماغيو أن مؤسسات الصحافة والأخبار والتحليلات الأمريكية، اصطفت في مكان مختلف تماماً عن موقف حركة مناهضة الحرب، ويلاحظ ديماغيو أن قضية الانسحاب من العراق أصبحت موضوعاً إخبارياً متداولاً، عندما اتضح أن غزو العراق لم يكن سريعاً، ولا سهلاً، وعندما أصبح جلياً أن هذا الغزو مكلف جداً “مادياً وبشرياً” . عند هذه النقطة “صعوبة الغزو وتكلفته الباهظة” أبدى الصحافيون والإعلاميون الأمريكيون نزوعهم نحو انتقاد غزو العراق، وبدأت تظهر تقارير وتحليلات تبحث إمكانية وآفاق الإنسحاب من العراق .

ويكشف ديماغيو أن ذرائع الميديا الأمريكية فيما يتعلق بالانسحاب من العراق، ذرائع براغماتية انتهازية، بل هي مجرد تكتيكات تتم داخل أطر اللعبة الإمبريالية .

ويقول ديماغيو (في الفصل الأول من الكتاب) ان انتقاد غزو العراق كعمل غير شرعي ولا أخلاقي، أو كما تقول حركة مناهضة الحرب، عمل إمبريالي إجرامي مدفوع بالرغبة في السيطرة على نفط العراق، كان غائباً تماماً عن تحليلات وتغطيات وتقارير كبريات وسائل الإعلام الأمريكية .

تجاهل حركة مناهضة الحرب

وبالنسبة لحركة مناهضة الحرب نفسها، يكشف ديماغيو في الفصل الثاني وعنوانه: “لا يوجد محتجون هنا”، استخفاف الميديا الأمريكية وتجاهلها موجة مناهضة الاحتلال التي تنامت داخل الولايات المتحدة، وتوجت بمسيرات مجموعة “قدامى الجنود المناهضين للحرب في العراق” IVAW وكانت تلك المسيرات الاحتجاجية بلغت قمتها في سبتمبر/ ايلول ،2007 وفي تلك الفترة تعمدت الصحف وشبكات التلفزة الأمريكية الرئيسية، عدم تغطية المسيرات الاحتجاجية في صفحاتها الأولى أو نشراتها الإخبارية الرئيسية، وكانت تخصص لها تغطيات هامشية، ومن دون تحري الدقة الإحصائية اللازمة، زعمت الميديا الأمريكية أن مسيرات أنصار التيار اليميني المؤيدة للحرب كانت مماثلة في ضخامتها وأهميتها لمسيرات مناهضي الحرب .

وتعمدت الميديا الأمريكية إيلاء اهتمام أكبر وتهويل حوادث عنف معزولة جرت أثناء تظاهرات مناهضي الحرب، عوضاً عن الاهتمام بمقترحات ومطالب المحتجين الحيوية المتعلقة بإنهاء الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان .

وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية، رفضت كذلك الاستشهاد بنشطاء مناهضة الحرب الذين يكشفون صراحة الطبيعة الإمبريالية، غير الإخلاقية للاحتلال الأمريكي، ويبرهنون عدم شرعية هذا الاحتلال، وبدلاً من ذلك لجأت الميديا لتضليل الرأي العام، عبر إظهار جدل ونقاش مناهضة الحرب على ألسنة أفراد ومنظمات محافظة تعرض جدل مناهضة الاحتلال في صورته البراغماتية، التكتيكية “التكلفة الباهظة للاحتلال والخسائر الأمريكية” وتفرد الميديا الأمريكية مساحات واسعة وبارزة للمضللين من أمثال مجموعة أو منظمة “موف أون دوت أورغ” “move on - org” المقربة من الحزب الديمقراطي .

دعم الحرب

وفي أعقاب تظاهرات سبتمبر/ ايلول 2007 المناهضة للحرب، نشرت كبريات الصحف الأمريكية افتتاحيات كثيرة مؤيدة للحرب، وواصلت تقاريرها وتغطياتها الملتوية الملوثة بتعابير ومصطلحات مؤيدة للحرب، وبخبث شديد تصور الميديا الحرب على أنها صراع بين “جنودنا” وتعبير “جنودنا” تعبير ملطف ومخادع لوصف قوات “جندرمة” إمبريالية منخرطة في عملية كولونيالية إجرامية .

وفي إطار التلاعب بالألفاظ والمصطلحات أطلقت الميديا الأمريكية لقب “المتمردين” على الذين يقاومون الغزو الإمبريالي، أما كلمة “إرهابيين” فتطلق فقط على من يعارضون الاحتلال، ولكن لا يتم أبداً وصف المحتلين أنفسهم بهذا اللفظ .

في الفصل الثالث، يجدد ديماغيو التذكير بالأسس التجريبية لمفهوم هيرمان شومسكي المتعلقة بنموذج البروباغندا، خاصة التمييز بين ما يعرف بالضحايا الذين يستحقون الاهتمام، والضحايا الذين لا يستحقون “الاهتمام” ففي هذا الفصل يقارن ديماغيو بين تغطية كبريات وسائل الإعلام وتحليلاتها حول:

1- ضحايا الأكراد العراقيين في ظل نظام صدام حسين المعادي للولايات المتحدة .

2- تعرض أكراد لاضطهاد عرقي تحت نظام دولة تركيا الحليفة للولايات المتحدة .

3- النزاع داخل الكونجرس الأمريكي حول سياسة التطهير العرقي التي “يزعم” أن تركيا مارستها على الأرمن .

4- المذابح والقتل الجماعي الذي تعرض له المدنيون العراقيون تحت نير الاحتلال الأمريكي .

وقد كانت النتائج مطابقة تماماً لنموذج هيرمان - شومسكي “نموذج البروباغندا” .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 47 / 2181074

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2181074 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40