السبت 3 أيلول (سبتمبر) 2011

الخروج من الكامب

السبت 3 أيلول (سبتمبر) 2011 par د. عبد الحليم قنديل

هل يمكن أن يأتي يوم تلغى فيه «معاهدة السلام» المصرية «الإسرائيلية» المعروفة إعلامياً باسم «اتفاقية كامب ديفيد»؟.

الجواب المباشر عندي : نعم.

والأسباب ظاهرة، وأهمها ما يجري في مصر الآن بعد ثورتها الشعبية العظمى، والتي تتوالى موجاتها، وتنزح من بئر ألم عظيم يستشعره المصريون بعد سنوات الغيبوبة.

صحيح أن الطرق لا تبدو سالكة بسهولة، وأن مصر ـ بعد ثورتها ـ تواجه مصاعب كبرى، وأن المتاعب في كل اتجاه، فقد بدت الثورة في صورة دراما هائلة، ولكن بلا قيادة مطابقة، وهو ما استدعى لجوءاً إلى الاستعانة بصديق، وتصادف أن كان الصديق في صورة المجلس العسكري، وهو ليس مجلساً لقيادة الثورة، وليست لديه ـ بطبيعة التكوين ـ أحلام الثورة ولا أشواقها ولا طموحاتها، وبدا في وضع «الوكيل» نيابة عن «الأصيل» الذي هو الدراما السائلة لثورة الشعب المصري، وكثيراً ما حدثت أزمات واختناقات بين الوكيل والأصيل، وإلى حد بدا معه الوكيل في حالة من السكون الذي لا يتحرك إلا تحت الضغط الشعبي، بدا المجلس العسكري دائماً في حالة من الإزاحة الفيزيائية، وفي بيئة مناخ متقلب، تهتز فيه أحوال الأمن الداخلي، وتتدافع موجات القلق الاجتماعي، ويتزايد فيه إحساس الناس بأنه لا سبيل لكسب حقوقهم بغير اللجوء للتمرد السلمي، مفرقاً كان أو مجمعاً.

وبينما بدت النخب السياسية التقليدية متصارعة متقاتلة على أشياء تخصها، ومن نوع تنظيم المجال السياسي، وإطلاق حرية تكوين الأحزاب، وبناء نظام انتخابي جديد، ورسم سيناريو المرحلة الانتقالية، وبدا المجلس العسكري ـ في المقابل ـ على صورة الشريك المؤتمن أحياناً، والشريك المخالف في أحوال أكثر، والمحصلة: مقادير ملحوظة من التباطؤ والريب المتبادلة، وانحراف الاهتمام إلى معارك طواحين هواء، ومن نوع الاستقطاب على شعار الدولة المدنية مقابل شعار الدولة الدينية، وتصعيد الاستقطاب إلي حدود خطرة توحي بنوع من الحرب الأهلية الثقافية، وفي قضية مزيفة بالجملة، فلا العلمانية التي يفهمها أنصار مبدأ الدولة المدنية ممكنة في مصر، ولا الدولة الدينية على طريقة السلفيين الوهابيين واردة، لا الفصل الكامل بين الدين والدولة ممكن، ولا الدولة الدينية مما تستسيغه شريعة وثقافة الإسلام، وكل الأطراف متفقة على مكانة الشريعة في الدستور، وعلى التحول لنظام ديمقراطي، وهو ما يبدو كافياً جداً كقاعدة لاتفاق أوسع، ولإنهاء حرب مفتعلة يقصد بها الإلهاء وكف الاهتمام عن حروب ومعارك حقيقية تتصل بمستقبل مصر، وأولها مواريث «كامب ديفيد» بالذات، والتي صعدت إلى صدارة المشهد المصري، برغم تواطؤ نخب التزييف، وصارت قضية مصر الأولى بالاهتمام، وإلى جوار القضايا الاقتصادية والاجتماعية في بلد غاطس بأغلبية أهله تحت خط الفقر والبطالة والعنوسة وإهدار الكرامة الانسانية.

وقد لا تكون قضية مصر الديمقراطية هينة، لكنها الأسهل في التقدم الى حلولها، وفي صياغة دستورها، بينما تبدو قضية انحطاط التنمية أعقد، وتحتاج قضية استئناف التنمية والتصنيع وعدالة التوزيع إلى مدى أطول، وإلى اصوات سياسة باتجاه اليسار بديلاً عن أصوات اليمين الديني والليبرالي الطاغية الآن، لكن النظام الديمقراطي لن يستقر في مصر، ولن يؤتى ثماراً في التقدم إلى نهضة تليق، وإلى قوة خلق تحتاجها مصر، لن يحدث شيء من ذلك مع بقاء قضية مصر الوطنية معلقة، فمصر بلد تحت الاحتلال السياسي الأمريكي، وجهاز المعونة الأمريكية سلطة انتداب حقيقية في مصر، فضلاً عن انعدام فرص بناء صناعة حربية ومدنية كبرى في ظل وقوع مصر تحت التهديد الدائم لحد السلاح «الإسرائيلي»، وبأثر من إخلاء السلاح الى عمق 150 كيلومتراً في سيناء، وهذه كلها من مصائب «كامب ديفيد».

العناوين الثلاث ـ إذن ـ مترابطة، قضية مصر الديمقراطية، وقضية النهضة والتصنيع وعدالة التوزيع، وقضية مصر الوطنية، والتي تطرح مهمات استعادة الاستقلال الوطني، وتحرير مصر سياسياً من القيد الأمريكي ـ «الإسرائيلي»، والذي استحكمت حلقاته بدءاً بعقد ما يسمى «معاهدة السلام»، والتي انتهت إلى نزع سيادة السلاح في سيناء، ثم أعقبتها المعونة الأمريكية الضامنة، وبشروطها واّليات عملها، والتي أكملت نزع سيادة السلاح بنزع سيادة القرار، وفي مصر كلها هذه المرة، وليس في سيناء وحدها.

وربما لا ينبغي أن تغيب عن البال حقيقة كبرى، وهي طبيعة الثورة الشعبية ضد نظام مبارك، هذه الثورة لم تكن فقط ضد ما يمثله هذا النظام من استبداد سياسي عائلي، بل كانت ثورة ضد نظام يمثل حالة انحطاط تاريخي آل إليها الوضع في مصر، توقفت فيها مقدرة مصر على مواصلة خطط التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجي، وعلى خلق مجتمع جديد من قلب المجتمع القديم، وعلى التحديث الشامل للرؤى والسلوك، فيما حل اقتصاد النهب العام، ومجتمع الغيبوبة، وبالتوازي مع عقد ما يسمى «معاهدة السلام»، وتفكيك الدور القيادي لمصر في أمتها العربية، وإحلال دور آخر لمصر، خادم لمصالح الأمريكيين و«الإسرائيليين»، وقانع بأدوار وساطة وسمسرة سياسية سرعان ما تآكلت الحاجة إليها، وهو ما يعني ـ ببساطة ـ أن الثورة ضد نظام مبارك وعائلته تعني شيئاً محدداً للغاية، وهي أنها ثورة ضد نظام «كامب ديفيد» في مصر، واكتسبت طابعها الشعبي التلقائي بدواعي النزح من بئر غضب عظيم، تراكمت مخزوناته الاجتماعية والسياسية على مدى عقود الألم، والإحساس بالمهانة وانحطاط الدور، وجعلت من معاني الحرية والعدالة والكرامة أشواقاً تلقائية لكل الناس.

وبقدر ما كانت الثورة الشعبية رداً لاعتبار الشعب المصري، واستعادته لثقته بنفسه، وبمقدرته على صنع المعجزات، وتحدى القوى التي تظن في نفسها القدرة والقوة غير النهائية، بقدر ما كانت الثورة استرداداً للثقة بالذات، فإنها استردت لقضية مصر الوطنية اعتبارها، والسبب ـ ببساطة ـ في الطابع الوطني الذاتي لفعل الثورة نفسه، وفي سيطرة مزاج شعبي كاره لتغول الأمريكيين و«الإسرائيليين»، ومناصر لحركات المقاومة المسلحة، وراغب في استعادة كرامة مصر، وهو ما يفسر سلوكاً بدا تلقائياً لجمهور الثورة المصرية، وهو يقيم جمعة الغضب من أجل فلسطين في أسابيع الثورة الأولى، ثم توالى دفقات الغضب من أجل حرية مصر، ودخول أولويات التحرر من هيمنة الأمريكيين و«الإسرائيليين» على خط التظاهر الشعبي، وبدء طرح إمكانية إلغاء «اتفاقية كامب ديفيد» على جدول النقاش العام، وتدفق آلاف الجنود المصريين إلى شرق سيناء في أول اختراق فعلي لمحظورات معاهدة العار، والبقية تأتي، وإن تباطأت الخطى.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 56 / 2165247

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2165247 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010