الثلاثاء 6 أيلول (سبتمبر) 2011

استلام الرسالة التركية واجب الوقت

الثلاثاء 6 أيلول (سبتمبر) 2011 par فهمي هويدي

طرد السفير «الإسرائيلي» من تركيا ليس صفعة موجهة إلى «تل أبيب» فحسب، لكنه أيضاً يوجه رسالة مهمة إلى العواصم المعنية في المنطقة تدعو إلى ضرورة إيقاف «إسرائيل» عند حدها. لذلك فإن استلام الرسالة يصبح واجب الوقت.

[**(1)*]

ليس هيناً أن يطرد السفير، وأن تعلق الاتفاقات العسكرية والأمنية بين البلدين، وأن تتصدى تركيا للعربدة «الإسرائيلية» في البحر المتوسط، وتعلن عدم اعترافها بحصار غزة. وفي الوقت ذاته تحاكم «إسرائيل» سياسياً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وجنائياً أمام المحكمة الجنائية الدولية. كل ذلك لأنها تعاملت باستعلاء واستكبار مع الدولة التركية التي تعتز بكبريائها، وترفض أن تسكت أمام قتل تسعة أفراد من ابنائها كانوا في مهمة سلمية ونبيلة أرادوا بها إغاثة الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة.

لا نعرف الخطوات الأخرى التي تنوي الحكومة التركية اتخاذها، إزاء إصرار «إسرائيل» على عدم الاعتذار وتعويض أهالي الضحايا ومحاسبة المسؤولين عن قتلهم، كما اننا لا نعرف شيئاً عن رد الفعل «الإسرائيلي» الذي يبدو حتى الآن مهزوزاً ومرتبكاً، إزاء التحدي الذي أصبح مشهراً على الملأ بين استعلاء «تل أبيب» وكبرياء أنقرة، لكن الذي نعرفه أن التصعيد الحاصل يتجه في حده الأدنى إلى إيقاع «الطلاق» بين البلدين، وأن الاستعلاء «الإسرائيلي» ولد لدى قادة الدولة العبرية حالة من الغرور أوقعتهم في خمسة أخطاء على الأقل، أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.

أخطأت «إسرائيل» في الحساب حين تصدت بالقوة المسلحة لسفينة الإغاثة «مرمرة»، وشاء حظها العاثر أن تقتل تسعة من ركابها الأتراك (لو كانوا عرباً مثلاً لاختلف الأمر!). وهو الخطأ الذي تجنبته في التعامل مع قافلة الإغاثة الثانية في شهر يونيو الماضي، حين أفشلت الرحلة من البداية دونما حاجة إلى المواجهة العسكرية.

الخطأ الثاني أنها لم تعبأ بمشاعر الشعب التركي الذي استشعر المهانة والغضب إزاء قتل تسعة من مواطنيهم، فرفضت الاعتذار وأرادت أن تكتفي بالتعبير عن الأسف، كما أبدت رغبة في مضاعفة تعويضات الضحايا لتصل إلى مئة ألف دولار لكل حالة، كما ذكرت صحيفة «معاريف» (في 11/8).

الخطأ الثالث أنها لم تحسن قراءة الوضع الداخلي في تركيا، خصوصاً بعد الفوز الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية الأخيرة، الأمر الذي عزز موقف الحزب وجعل قيادته أشد حرصاً على الحفاظ على ثقة الجماهير وكبريائها. كما أنها فشلت في قراءة المتغير الذي حدث في موازين القوى الداخلية، التي في مقدمتها تراجع دور العسكر في صناعة القرار السياسي. وهم «الحليف» الذي طالما عولت عليه «إسرائيل» كثيراً.

أما الخطأ الرابع فهو أن «إسرائيل» لم تنتبه إلى تأثير الضغوط الإقليمية التي تواجه حزب العدالة والتنمية، أعني بذلك تحديداً التجريح الذي تتعرض له حكومة أنقرة من الأبواق الإعلامية في سوريا وإيران والدوائر الملحقة بهما. وهي التي دأبت على اتهام حكومة أنقرة بموالاة «الإسرائيليين» وقوى الاستعمار العالمي، ومن ثم الضلوع في «المؤامرة» التي يتعرض لها النظام السوري، وتأييد غارات طائرات حلف الناتو على العناصر الموالية للقذافي. لذلك كان اتخاذ موقف حازم إزاء «إسرائيل» بمثابة رد يحسم ذلك اللغط لصالح تأكيد استقامة الموقف التركي وبراءته مما يثار حوله من شبهات.

الخطأ الخامس، أن «إسرائيل» لم تحسن أيضاً قراءة المشهد العربي، الذي طرأت عليه متغيرات مثيرة ارتفع في ظلها صوت الشعوب عالياً ومدوياً، في أعقاب سقوط بعض الأنظمة المستبدة والمستكينة. الأمر الذي استدعى، ضمن ما استدعاه، حالة شعبية رافضة لمختلف مظاهر المهانة والعربدة «الإسرائيلية». وهذه النقطة الأخيرة تحتاج إلى تحرير.

[**(2)*]

في 17/8 الماضي نشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» مقالاً لأحد كتابها البارزين، اليكس فيشمان، قال فيه إن الإدارة الأميركية نصحت حكومة نتنياهو أكثر من مرة بقبول فكرة الاعتذار لتركيا. وان الرئيس باراك أوباما تحدث هاتفياً بهذا الخصوص مع رئيس الوزراء «الإسرائيلي». وتلخصت وجهة النظر الأميركية في أن واشنطن حريصة على تهدئة العلاقات مع حليفتيها، وأن منطقة «الشرق الأوسط» لا تحتمل تصعيداً بين «تل أبيب» وأنقرة. وهذه الإشارة إلى أجواء المنطقة وضرورة وضع المتغيرات التي طرأت عليها في الاعتبار، تمثل قاسماً مشتركاً في الكثير من التعليقات «الإسرائيلية» بوجه أخص، إذ تتحدث تلك التعليقات صراحة على أن «إسرائيل» أن تتخلى في تعاملها مع العرب عن الغرور والصلف (عكيفا الدار ـ «هآرتس» 22/8)، وأنها يجب أن تكون مستعدة للتعامل مع العهد العربي الجديد بعد سقوط الحلف الذي عقدته مع بعض الملوك والطغاة في المنطقة (عوزي برعام ـ «إسرائيل اليوم» 1/9)، ويجب الاعتراف بأن رد فعل مصر بعد اليوم لن يكون الوقوف التلقائي إلى جانب «إسرائيل»، (عوفر شيلح ـ «معاريف» ـ 29/8)، كذلك يقول بعضهم أيضاً إن «إسرائيل» لن تسارع إلى الحرب، ولن تطلق حملة عسكرية كبيرة رداً على هجمة «إرهابية» خطيرة، بسبب التغيرات الحاصلة في مصر وفى ليبيا، وإنما هي تتحلى بالحذر والمسؤولية في التعامل مع مثل هذه المواقف (شلومو تسيزنا وآخرون - «إسرائيل اليوم» - 23/8).

صحيفة «معاريف» نشرت يوم 24/8 أن «إسرائيل» تلقت رسالة قاطعة من القاهرة بعد العملية الفدائية الأخيرة في «إيلات» تقول إنه إذا ضرب الجيش «الإسرائيلي» غزة بيد من حديد، فإن الحكومة المصرية ستجد صعوبة في التصدي للرأي العام الانتقادي ضدها، وأن القيام بعملية عسكرية واسعة ضد القطاع من شأنه أن يدفع الحكومة في القاهرة إلى تجميد العلاقات مع «إسرائيل» والمس باتفاق السلام.

أما التعليقات «الإسرائيلية» على التظاهرات التي خرجت في القاهرة داعية إلى طرد السفير «الإسرائيلي»، وإعادة النظر في معاهدة السلام، فهي بلا حصر، وكلها تعبر عن التشاؤم من مستقبل العلاقات بين البلدين.

[**(3)*]

يوقفنا في هذا السياق أن صحيفة «معاريف» نشرت في 22/8 تقريراً عن موقف القاهرة بعد قتل «الإسرائيليين» للجنود المصريين الخمسة ذكرت فيه ما يلي:

كان السفير المصري لدى «تل أبيب» ياسر رضا قد حزم أمتعته استعداداً للعودة إلى القاهرة على خلفية حادث القتل (المقصود قتل الجنود المصريين الخمسة)، لكن في اللحظة الأخيرة تدخل رئيس المجلس العسكري المشير محمد حسين طنطاوي، واستدعى رئيس الحكومة الدكتور عصام شرف حيث انتقد موقفه وطلب منه إلغاء القرار. وكان مجلس الوزراء المصري برئاسة الدكتور شرف قد قرر استدعاء السفير المصري إذا لم تعتذر «إسرائيل» عن مقتل أفراد الشرطة. وتطرق رئيس الوزراء إلى الموضوع على «الفيس بوك» حيث قال «إن الدم المصري أغلى كثيراً من أن يسفك من دون رد». وكان وزير الدفاع ايهود باراك قد أعرب عن أسفه إزاء موت (وليس قتل) الشرطة. وبعد ذلك بوقت قصير أعلنت القاهرة أن البيان الذي صدر بخصوص استدعاء السفير المصري «يعود إلى مصدر خاطئ»!.

نقلت الصحيفة أيضاً عن محافل سياسية «إسرائيلية» قولها إن المشير طنطاوي يرغب في منع التدهور في علاقات البلدين، وذلك في ضوء حديث أجراه مع باراك، وطبقاً لما ذكرته تلك المصادر فإن «إسرائيل» شرحت أنها ستضطر إلى استدعاء سفيرها في القاهرة، رداً على استدعاء السفير المصري من «تل أبيب»، وهو ما فهم منه المصريون أن أزمة شديدة ستنشأ في علاقات البلدين سيكون من الصعب رأب صدعها. ذلك أنه إذا غادر السفير «الإسرائيلي» فإنه لن يكون بمقدور أي حكومة مصرية، لا القائمة حالياً ولا تلك التي ستأتي بعد الانتخابات، ان تسمح له بالعودة إلى القاهرة بسبب الرأي العام المعادي. وفي هذه الحالة ستتدهور العلاقات بين البلدين بشكل يائس وخطير، وهو ما لا يرغب فيه الطرفان.

[**(4)*]

تستطيع «إسرائيل»، مع الأسف الشديد، ان تحتمل خسارة تركيا، لكن الثمن إزاء مصر أبهظ كثيراً. هكذا كتب ناحوم برنياع في صحيفة «يديعوت أحرونوت» (في 19/8)، هذه اللغة غير المطمئنة إلى مستقبل علاقة «إسرائيل» مع البلدين واضحة في الخطاب السياسي والإعلامي. يتجلى ذلك في الحذر في الضغط على الفلسطينيين في غزة، وفي الانقسام الحاصل في شأن التعامل مع تركيا، بين مؤيدين للاعتذار (باراك على رأسهم) وبين رافضين له، في مقدمتهم نتنياهو. وبين دعاة إلى التمسك بـ «معاهدة السلام» مع مصر، وآخرين يفضلون إعادة النظر في المعاهدة والدخول في حوار استراتيجي جديد مع سلطة الحكم في القاهرة.

لا يستطيع المرء أن يمنع نفسه من المقارنة بين قوة وجرأة الموقف التركي في الدفاع عن كرامة ودم الضحايا وبين ضعف وتواضع الموقف المصري، الذي يكاد يكون أقرب إلى اللاموقف. إذ اكتفينا بتلقي الأسف، مع الإصرار «الإسرائيلي» على رفض الاعتذار، وبالحديث عن متابعة التحقيقات في مقتل الجنود المصريين الخمسة، علماً أن «إسرائيل» في الوقت الراهن مرتبكة داخلياً وفى الموقف الأضعف استراتيجياً. فالضغوط الاجتماعية فجرت غضب الداخل، والخلافات السياسية شقت صفوف النخبة، والحضور الجماهيري الكثيف في الشارع العربي الرافض للصلف والعربدة «الإسرائيلية» ما عاد ممكناً تجاهله. ولكن «إسرائيل» ترصده وتتوجس منه وتعمل له ألف حساب. الذي يبعث على الدهشة أيضاً ذلك الخوف والوهن البادي في خطاب بعض عناصر النخبة السياسية الذين ما انفكوا يحذرون من «التصعيد» ضد «إسرائيل». وكأن أي تصرف دبلوماسي أو إجراء سياسي قريب مما فعلته تركيا تعبر به مصر عن غضبها وغيرتها على دماء ابنائها، هو إطلاق لنفير الحرب وتوريط في المواجهة العسكرية.

لقد أدركنا من الثورة في مصر وتونس، أن شعوبنا ليست بالضعف الذي توهمته، وأن المستبدين ليسوا بالقوة التي صوروها لنا. ولكن يبدو أن هذه الثقة التي توافرت لشعوبنا لم تنتقل بالدرجة الكافية إلى النخب الطافية على السطح، رغم أن المقولة ذاتها تنطبق على «إسرائيل»، التي أدركنا منذ محاولة غزو لبنان في عام 2006 وحملة اجتياح غزة في 2008 إنها أيضاً ليست بالقوة العسكرية التي ادّعتها، كما اكتشفنا خلال السنوات الأخيرة أن قوتها السياسية بذات المستوى.

الآن تقدم لنا تركيا درساً جديداً، خلاصته أن القيادة التي تستمد شرعيتها من ثقة الشعب وتأييده تملك رصيداً من القوة يمكنها إذا أرادت من تحدي أساطين الاستعلاء والاستكبار. الأمر الذي يثير أكثر من تساؤل حول مواضع الخلل التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه من تردد ووهن، حتى بتنا ننظر إلى ما فعلته تركيا بعين الغيظ والحسد - إذ بات غاية ما نتمناه في الوقت الراهن أن تستلم الرسالة فقط، أملاً في أن نحذو حذوهم يوماً ما - قولوا إن شاء الله.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2180645

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2180645 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40