الأحد 18 أيلول (سبتمبر) 2011

نظرة معمقة إلى الأحداث الوطنية المصرية

الأحد 18 أيلول (سبتمبر) 2011 par علي جرادات

في روايته لأحداث ليلة اقتحام سفارة «إسرائيل» في القاهرة، يقول السفير المطرود: «أخرجوني بسرعة من دون أن أتمكن من تناول دوائي». هذا يذكرنا بظهور السفير الأمريكي في فيتنام بملابس النوم ومن دون حذاء، حين سارعت طوافة عسكرية أمريكية لانتشاله من على سطح سفارته في سايغون. وفي مقارنة ذات دلالة، عقدَ عدد من الصحافيين «الإسرائيليين»، المقربين من الأجهزة الأمنية، مقارنة بين اقتحام سفارة «إسرائيل» في القاهرة، وبين اقتحام السفارة الأمريكية في طهران بعد انتصار الثورة فيها. وسارع رئيس حكومة «إسرائيل»، نتنياهو ووزير خارجيته الفاشي ليبرمان، إلى اتخاذ قرار يقضي بسحبِ السفير «الإسرائيلي» وطاقم سفارته من عمَّان، في ضوء توقعات بامتداد ألسنة لهيب غضبة الشعب المصري إلى سفارة «إسرائيل» في عمَّان. والسؤال هنا: ترى ما دلالات كل ذلك؟

شكلت إطاحة رأسي النظام في تونس ومصر، إيذاناً بميلاد مرحلة عربية جديدة، عنوانها الأبرز أن خيار الشعوب العربية يتقدم، وإن بتدرج، ليصبح لاعباً حاسماً في تحديد ملامح السياسة العربية. هنا عجِزَ البعض عن التقاط كامل مكونات الرسالة. وكان عدم الالتقاط المبكر لترابط الوطني والقومي بالديمقراطي في مطالب هذا الحراك، هو الوجه الأبرز لهذا العجز. وأسهم التأخرُ النسبي في تجلي المضامين الوطنية والقومية للحراك الشعبي العربي، فضلاً عن الطابع العفوي المفاجئ وغير «التقليدي» لانطلاقته، في إشاعة أن البعد الديمقراطي هو المحرك الأساسي لهذا الحراك، بل جرى اتخاذ هذه الإشاعة حجة ومادة للتوظيف السياسي ضده. قصيرو النظر رأوا في هذا التأخر دليلاً على اقتصار مطالبه على الشق الديمقراطي، ما أوقعهم في الحيرة والتردد وعدم اتخاذ موقف حاسم في الانحياز إليه ودعمه. الأعداء الخارجيون لهذا الحراك، وفي مقدمتهم أمريكا و«إسرائيل»، رأوا في هذا التأخر فرصة للعمل على احتواء تداعياته واختطاف نتائجه. الأنظمة الرسمية العربية التي اشتعل فيها الحراك، رأت في هذا التأخر مادة للتحريض على حراك شعوبها، وذريعة لوصمه بالتآمر لمصلحة أجندات خارجية، تستهدف إطاحة أنظمة «المواجهة» و«الممانعة»، وكأن هذه الأنظمة أكثر وطنية وقومية من شعوبها، أو كأن شعوبها لا تقاوم ولا تمانع إلا إذا كانت مقموعة وجائعة، أو كأن هنالك منطقاً موضوعياً في الفصل بين النضال الديمقراطي والنضال الوطني والقومي للشعوب العربية، أي كأن الأول لا يعزز الثاني، ولا يزيده قوة ومنعة.

لقد أغفل هؤلاء حقيقة أن الشعوب العربية لم تخن يوماً، (ولن تخون)، قضاياها الوطنية والقومية. وتناسوا أنها هي مَن تحمل أعباء الدفاع عنها، وتجاهلوا أن هذه القضايا راسخة في وعيها ووجدانها، ما يجعلها نواة مضمرة دائمة في حراكها، وإن تأخر تجليها قليلاً، في حراكها الجاري.

لقد برهنت الغضبة الشعبية المصرية ضد سفارة «إسرائيل» أن الشعب المصري وبقية الشعوب العربية، ترى أن سفارتي «إسرائيل» في القاهرة وعمَّان هما سفارتان في غير مكانهما، ما يؤكد خطأ كلّ من اعتقد أن ما بعد الحراك الشعبي العربي هو ذاته ما قبله، ليس ديمقراطياً فقط، بل وطني وقومي أيضاً. لقد أكدت غضبة الشعب المصري، فضلاً عن توقعات الامتداد السريع للهيبها ضد سفارة «إسرائيل» في عمَّان، أن الشعوب العربية، وفي طليعتها شعب مصر، مفتاح الأمة ومرآتها .. لقد اكتشفت سر قوتها، وأصبحت لاعباً سياسياً يقظاً، وأنها وقد شبت عن طوق أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، قادرة أيضاً على الإفلات من كل محاولات الحد من آفاق حراكها، أو إعادة تعليبه في أطرٍ تسعى باستماتة إلى اختزاله واحتوائه، وإلى الفصل بين مكونات مطالبه.

لذلك، وعليه، فإن من السذاجة السياسية اختزال تفسير غضبة الشعب المصري ضد سفارة «إسرائيل»، في سببها المباشر، (استشهاد عدد من الجنود المصريين بعد عملية «إيلات»)، وإن من التسطيح تناسي سببها الأعمق، أي رفْض الشعب المصري وبقية الشعوب العربية للتطبيع مع «إسرائيل»، لاسيما أنه يتم قبل استعادة ما تبقى من أراضٍ عربية محتلة، وقبل استعادة الشعب العربي الفلسطيني حقوقه الوطنية والتاريخية المغتصبة، ذلك دون نسيان أن هذا التطبيع لم يمنع، (بل، وشجع)، السياسة الأمريكية «الإسرائيلية»، على مواصلة العداء للأمة العربية وشعوبها، سياسة واقتصاداً واجتماعاً وجغرافية وأمناً وقضايا، ما يعني أن «إسرائيل»، قوة الاحتلال والحروب ورفْضِ التسويات السياسية، مازالت تهديداً استراتيجياً قائماً وفعلياً للأمن الوطني للأقطار العربية، المُترابط بنيوياً بالأمن القومي العربي. هذا فضلاً عن الوعي الشعبي العربي بحقيقة أن لا مشروع تنموي قُطْري دون مشروع تنموي عربي يتعذر تحقيق خطوات جدية على طريقه دون تحرير مقدرات الأمة العربية من ويلات التبعية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الاستراتيجي لـ «إسرائيل».

بإيجاز، إن غضبة الشعب المصري ضد سفارة «إسرائيل» في القاهرة، هي، وإن فجرها استشهاد عدد من الجنود المصريين برصاص «إسرائيلي»، إنما تعبّر عن المخزون التاريخي والذاكرة الجمعية العربية تجاه الغزوة الصهيونية، وموقف الشعوب العربية منها التي جاء حراكها الجاري ليدفعه إلى الواجهة من جديد. وأكثر من ذلك، كأن الشعب المصري في غضبته ضد السفارة «الإسرائيلية»، إنما يعبر عن توقه، بل، وتوق بقية الشعوب العربية، إلى استعادة ما خرّبه السادات فمبارك، على مدار ثلاثين عاماً، وإلى إعادة الاعتبار لسياسة مصر القومية المنسجمة مع حقائق التاريخ والجغرافيا.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 588 / 2176557

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2176557 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40