الثلاثاء 11 تشرين الأول (أكتوبر) 2011

مقابر الأرقام

الثلاثاء 11 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 par أمجد عرار

أهل الراقدين في المستقر الأخير يبكون أعزاءهم حين يفارقون الحياة. يحزنون ثم يتلاشى الحزن رويداً رويداً مع مرور الأيام والسنوات. لكن أهل الشهيد الفلسطيني كانت لهم قصة أخرى مع رحيل عزيز. ليست القصّة الوحيدة بل واحدة من قصص كثيرة كتبها فلسطينيون بالدماء والدموع. حافظ محمد حسين أبو زنط أحد أبطال هذه القصص التي تدمي القلب قبل العين وتصحو على وقع أنينها كل الضمائر المعافاة من التجلّد والعمى الاختياري واللامبالاة حد اللاأخلاقية. أبو زنط، كان يمكن له أن يكون ابن سبعة وخمسين عاماً لو ظل حياً . لقد وضع رصاص الاحتلال حداً لحياته عندما كان في الثانية والعشرين، لكن منذ استشهاده قبل خمسة وثلاثين عاماً والاحتلال يعتقل جثته في مدافن لا تتوفّر فيها الشروط الإنسانية حتى بمستوياتها الدنيا.

عندما استشهد في السابع عشر من مايو/ أيار سنة 1976، كان له عناق أبدي مع ذكرى النكبة. كانت تلك الذكرى الثامنة والعشرين لمناسبة رأى فيها الشهيد مدة طويلة، ولم يدرك أن خمساً وثلاثين سنة أخرى ستمر والنكبة فرّخت نكبات، والعالم ازداد ظلماً ونفاقاً، والعرب أمعنوا في الذل والهوان، وأهل الشعارات ما حققوا منها شيئاً ولا هم كفّوا عن ترديدها، ونشرات الأخبار تلوك الكلام نفسه.

مئات الشهداء الفلسطينيين والعرب ما زالت جثثهم ترقد في قبور بلا معالم وبلا أسماء بل أرقام، وباتت مدافنهم العشوائية تسمى «مقابر الأرقام»، فالعربي بنظر الصهاينة رقم لا أكثر، هكذا قالها إيهود باراك بعظمة لسانه «قتيلهم رقم وشهيدنا قصّة». وهكذا قالتها غولدا مائير «العربي الجيد هو العربي الميّت». حسناً، لكن للميت كرامة لا يدركها سوى من كانت لديه كرامة، وكرامة الميت دفنه وفق شريعته وطقوس أهله وثقافتهم. أربع مقابر أرقام مليئة برفات الشهداء، ترفض «إسرائيل» تسليمهم لذويهم ليذرفوا عليهم دموعهم الأخيرة.

غريب هذا العالم الذي يجامل القاتل ويقسو على الضحية ويحملها مسؤولية موتها، ويدينها لأنها منحت عدوها صفة القاتل . لسان حال المنافقين في هذا العالم أن «لا تستشهدوا أيها الفلسطينيون حتى لا تضيفوا لسفر الجريمة «الإسرائيلية» سواداً على سواد الصفحات». «إسرائيل» تقتل الفلسطيني. وعندما يفقد مع حياته الإحساس بالألم لا يعجبها الأمر فتعذّب أهله بحرمانهم من تشييعه بما يليق، ووداعه ودفنه وممارسة حق البكاء عليه.

«مقابر الأرقام» قضية تختزل امتهان «إسرائيل» للكرامة الإنسانية، وتلخّص سياستها القائمة على حشر العرب كلهم في صفحة رياضيات ووضعهم في منزلة الصفر على اليسار. لكن هذه المقابر تعتبر بالمقابل وصمة عار على جبين «إسرائيل» الوحيدة في هذا العالم التي تعاقب الإنسان بعد وفاته، بل وتصدر أحكاماً بسجن الجثث.

هذه القضية تستحق اهتماماً من جانب الفلسطينيين، سلطة أو سلطتين، فصائل وأحزاباً وقوى مجتمع مدني، ومنظمات حقوقية. لا يجوز أن تبقى «إسرائيل» مستمرة في غيّها واستهدافها للأحياء والأموات وللمقابر والمقدّسات وكل ما يمكن أن يجعل الفلسطيني والعربي لا يفكّر سوى بالحياة البيولوجية الخالية من الإحساس بالقيمة الإنسانية وبدور الفرد في إطار الشعب. لا يمكن السماح لها بمواصلة التعامل مع الفلسطيني والعربي كشيء ملقى على جانب سور على أطراف التاريخ.

أتدرون لماذا ترفض «إسرائيل» وداعموها الاعتراف بدولة فلسطينية على ورق الأمم المتحدة؟. السبب الرئيسي تجنّبها التداعيات الحقوقية لمثل هذا الاعتراف، لأن «إسرائيل» في هذه الحالة ستنتقل من قفص اتهام إلى آخر، وإذا توفّر الحد الأدنى للعدل، فإنها مدانة بلائحة اتهام لا يحتملها جمل ولا جبل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2165870

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165870 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010