السبت 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2011

الأَسْرى الطلقاء والموتى الأَحْياء

السبت 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 par خيري منصور

ثمة فترات حرجة في حياة الشعوب، تتراجع فيها المعايير التقليدية وتنقلب المعادلات رأساً على عقب، بحيث يصبح الموتى، أو بمعنى أدق الشهداء هم الأحياء، كما يصبح الأحياء موتى يجرون جثثهم ويمشون لكن أشبه بأمعاء تسعى. وفي زمن كهذا تنقلب أيضاً معادلة الأسرى والطلقاء، فالأسير هو الطليق بالفعل وليس بالتسمية، لأنه قرر أن يدفع حريته الشخصية ثمناً لحرية الآخرين، وهذا أقصى إيثار يبلغه الإنسان.

وهناك ملايين، بل عشرات الملايين، من الأسرى في عقر دورهم لكنهم لا يدركون ذلك، لأن الحبل الذي يشدهم إلى الوتد قد يطول بحيث يصبح أميالاً.

إن مفاهيم ومصطلحات عديدة أصبحت في أيامنا بحاجة إلى إعادة تعريف، بدءاً من الفقر حتى الحرية، فالفقر قبل خمسين عاماً ليس هو الفقر الآن، لأن من كان يصنف فقيراً هو من لا يجد الرغيف والمأوى، لكن الآن هناك من يصنفون أنفسهم فقراء لأن بيوتهم أصغر مما يتمنون، وسياراتهم أقدم مما يشتهون، وكذلك هواتفهم النقالة، وكل ما يسيل لعابهم من إعلانات تشحذ الاستهلاك.

الفلسطينيون وفق تعريف آخر للأسر والحرية، والموت والحياة، لا يعترفون بأن عدد الأسرى هو تسعة آلاف أو حتى تسعون ألفاً.

فالشعب المحاصر الذي يطلب منه أن يضبط توقيت ساعته وخطواته على الإيقاع الذي يحدده الاحتلال، هو شعب أسير إن لم يكن رهينة، لكن الإرادة هي التي قلبت المشهد، بحيث لم يتأقلم الأسرى مع الزنازين، ولم يحولوا هذا الطارئ التاريخي إلى قدر، والاحتلال الذي يزهو بأنه جعل الموت خارج القانون، أي ألغى عقوبة الإعدام، غادر النافذة ليعود من الباب بعد أن خلعه، فمن أعدمهم الاحتلال من الرجال والنساء والأطفال لأكثر من ستة عقود، هم أضعاف مضاعفة لمن كان من الممكن أن يعدموا باسم القانون، لهذا فإن السوريالية التي بلغت أقصى اللامعقول أدت إلى الحكم على بعض الأسرى الفلسطينيين بالسجن قرناً أو قرنين. وهناك عبارة مثيرة للسخرية تتردد في أروقة القضاء الصهيوني هي الحكم بمؤبدات عدّة على إنسان واحد، يعيش حياة واحدةً وعمراً متوسطه لا يتجاوز السبعين!

الأسرى وفق تعريف آخر لا يخضعون لأدبيات ومعاجم الاحتلال والارتهان، هم الطلقاء، والشهداء هم الأحياء، ولو أطلق سراح عشرة آلاف أسير من زنازين الاحتلال، فإن معنى ذلك أن هناك ملايين الأسرى بمقياس آخر، وإلا ما معنى إغلاق الحدود كلها في «يوم الغفران» مثلاً، أو بعد عملية استشهادية في أي موقع من فلسطين؟

لكن ليس معنى ذلك، أن نتبنّى نظرية الكل أو اللاشيء، فالراديكالية السياسية تتحول أحياناً إلى ضرب من التعجيز، ولأن للسياسة منطقها الآخر، البراغماتي الذي يدور في حيّز الممكن، فإن ما يحدث من مقايضات تحمل اسم الصفقات يبقى شراً لابد منه.

لقد أفرط الاحتلال باستخدام كل أسلحته وشروره، ثم بدأ يطالب ضحاياه بالاعتدال، وهذا بحد ذاته جهل بالتاريخ وفيزياء الطبيعة، وكل النواميس في هذا الكون.

وإلى أن تأزف تلك اللحظة المؤجلة، فإن أسرانا هم الطلقاء وموتانا هم الأحياء.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2165531

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165531 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010