الأربعاء 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2011

الأسرى وعبق الحرية

الأربعاء 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 par أمجد عرار

اليوم يعيش الشعب الفلسطيني تجاور الفرح والحزن في مزيج اعتاد عليه. ألف أسير سيخرجون في صفقة التبادل الأخيرة، وأربعة أضعافهم سيواصلون المعاناة في السجون، وهم مضربون عن الطعام منذ عشرين يوماً. سيخرج أسرى أمضوا أكثر من ثلثي حياتهم في أكياس حجرية فصّلها الاحتلال على مقاس أخلاقياته. ستكون العيون شاخصة على أسرى مثل فخري البرغوثي وابن عمّه نائل المعتقلين منذ ثلاثة وثلاثين عاماً.

عام 1978 فوجئت منطقة بني زيد شمال رام الله بحركة مكثّفة لجيش الاحتلال «الإسرائيلي» الذي كثّف الحواجز في كل مكان في المنطقة. توالت الأنباء التي أفادت بأن مجموعة فلسطينية نصبت كميناً لسائق حافلة «إسرائيلي» وقتلته على الطريق. داهم جيش الاحتلال قرى المنطقة وأجرى حملة تفتيش واسعة، وجمع الكبار والصغار في الساحات العامة واقتحم المنازل على طريقته الهمجية.

بعد بضعة أشهر اعتقل المحتلون منفّذي العملية وهم من قريتي كوبر وبرهام المتجاورتين. بعض أفراد المجموعة أمضوا بضع سنوات وغادروا السجن، فيما بقي فخري ونائل خلف القضبان منذ ذلك الوقت. الآن، بعد 33 عاماً يرى فخري ونائل النور وتتكحّل عيونهما برؤية السماء بلا شبكة من الأسلاك الشائكة. لكن المعاناة لن تقف عند هذا الحد، مثلما كانت أصلاً عصيّة على الإدراك الدقيق لمن يسمعها من بعيد. ففخري البرغوثي يترك خلفه ابنه شادي المحكوم بالسجن 27 عاماً أمضى منها سبعاً ولن تشمله قائمة تبادل الأسرى.

كان شادي طفلاً صغيراً عندما اعتقل والده، وكانت أمه حاملاً بشقيقه هادي، لكن الطفلين كبرا وعرفا الطريق الذي قادهما أكثر من ربع قرن على العيش بعيداً عن حضن الأب، إلى لقائه في السجن ليمضي هادي ثلاث سنوات ونصف السنة بجوار أبيه في أجواء تغلب عليها علاقة السجين بالسجين أكثر منها بين أب وابنه، فيما يبقى شادي خلف القضبان بانتظار فرصة أخرى تمنحه الحرية. هذا يعني أن الأم التي أمضت حياتها تتنقّل من سجن إلى آخر لزيارة زوجها، ستواصل الأمر ذاته مع ابنها شادي.

لن يجد فخري قريته كما تركها قبل 33 عاماً. أشياء كثيرة تغيّرت أهمّها أنه سيفتقد أعزاء رحلوا عن الدنيا فترة مكوثه في السجن. هل نتصوّر عودة أسير إلى منزله بعد غياب أكثر من ثلاثة عقود ليجد والديه اللذين اعتقل من أحضانهما وقد ووريا الثرى ولن يتمكّن من الاستمتاع بتقبيل يديهما والفوز باحتضان دافئ يعوّض بعضاً من معاناة الأسر ويطفئ شوقاً نما وتمدّد واشتعل في القلب والوجدان.

كل أسير يدرك أن معاناته وذويه لا تنتهي بمغادرة السجن، ففترة الاعتقال الطويلة تترك آثاراً صحية ونفسيّة عميقة وبعيدة المدى. لكنّها ضريبة حرية الوطن والشعب وطريقها المفروش بالأشواك. صحيح أن فخري فقد خلال فترة سجنه خمسين فرداً من أقربائه، لكنّه سيعود إلى قريته التي ترك فيها ألف نسمة، وقد أصبحوا الآن خمسة آلاف. الأمر ذاته سيتكرر مع المحررين الذين أمضوا فترات طويلة في الأسر. سيدركون أن الأفراد يمرضون ويموتون، أما الشعوب فتنمو وتتعافى مهما قتل العدو واعتقل وعذّب ونفى.

جميل مشهد الناس يصافحون الأسرى المحررين ويأخذونهم بالأحضان ويقبّلونهم. تخفق القلوب وترتعش الفرائص وتهتف الحناجر وتذرف العيون دموعاً وتتمتم الأرواح «يا دامي العين والكفّين .. إن الليل زائل .. لا غرفة التحقيق باقية ولا زرد السلاسل».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2178820

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2178820 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 23


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40