الجمعة 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011

بلا أوكسجين في «المقاطعة»

الجمعة 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 par أمجد عرار

كمن يتنقل بين الركام في منطقة ضربها زلزال، كانت طريقنا إلى مكتب القائد الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات، بعد حملة قصف وتدمير طالت مقره خلال العدوان الاجتياحي الهمجي الذي شنته «إسرائيل» في الضفة الغربية، وكثّفت فيها قصف مقر الرئيس الراحل، حيث لم يبق من المبنى الضخم الذي يسميه الفلسطينيون «المقاطعة»، سوى مكتب الرئيس وقليل من الغرف المحيطة. عندما دخلنا المكتب وجدناه أشبه بمتراس، أكياس من الرمل على المدخل ومثلها على نافذتين صغيرتين مقابلتين لبنايات يعلوها قناصة الاحتلال. لكن ما صرف أنظارنا عن تلك المظاهر المتراسية، وجود جهازين مرتبطين في زاويتين من زوايا المكتب، فسألنا الرئيس عن وظيفتهما. بعد أن تنهّد قال، إن فحصاً لهواء المكتب أظهر نقصاً في الأوكسجين بنسبة 60 في المئة.

سألناه عن الفرق بين ما واجهه في بيروت وما يواجهه في رام الله، فقال إن الوضع في بيروت كان أقل وطأة، وقبل أن نعبّر عن استغرابنا، حيث نعلم أن العدوان على لبنان حينها كان يشبه الجحيم، استدرك قائلاً «في بيروت كنا نتلقى الضرب ونرد عليه .. يقصفوننا ونقصفهم وندمّر دباباتهم وأسرنا منهم جنوداً، أما هنا فنحن نتعرّض للضرب ولا نملك الرد».

لماذا فعلوا هكذا بقائد حاز جائزة نوبل؟ لأنه خيّب توقعاتهم بأن يقبل تحوّل خدعة أوسلو إلى حل نهائي، ولأنه رفض إملاءات بيل كلينتون في «كامب ديفيد»، ولأنه رفض التفريط بالقدس وخذلان أبنائها المرابطين الصارخين: يا وحدنا. عندما حاول كلينتون استنساخ التقسيمات الأبجدية التي احتواها «أوسلو» وتقسيم المسجد الأقصى إلى ألف وباء وجيم، قال لا كبيرة صعقت رئيس أمريكا الذي رد غاضباً: هنا لا أحد يقول لا، فما كان من عرفات سوى الحسم: أنا أقول لا، وأدعوك من الآن لحضور جنازتي.

ذات ليلة طالعنا خبر عاجل على الشاشات: «إسرائيل» أمهلت ياسر عرفات عشرين دقيقة للخروج من المقاطعة وتسليم نفسه وإلا تعرض للقصف. ما هي إلا دقائق حتى خرج آلاف الفلسطينيين إلى شوارع رام الله بالصحون والطناجر، ربطوا حاويات القمامة بالسيارات وانطلقوا بها . كان صوت الضجيج يملأ الفضاء قبل أن تصبح المقاطعة نقطة صغيرة في بحر من البشر. سقط شهداء من معارضي عرفات قبل مؤيديه، وقدّم الفلسطينيون درساً في جدل العلاقة النظيفة بين الموالاة والمعارضة قاعدتها أن التوحّد في وجه العدو الخارجي أول أبجديات الوطنية. منذ تلك اللحظة أدركت «إسرائيل» أن التخلّص من هذا القائد لا يكون إلا بطرق «أخرى»، وهذا ما كان، ورحل قائد الفلسطينيين الذي كانوا يختلفون معه كثيراً لكنهم لم يختلفوا عليه، الرجل الذي أخطأ كثيراً كما أصاب كثيراً، ومازال كاتب هذه السطور مختلفاً معه والطريق الذي اختاره، لكنه يبقى القائد الذي نجح في أن يكون الخيمة التي ظللت جميع الفلسطينيين بقليل من الاتفاق السياسي والكثير من العاطفة الأبوية.

سبع سنوات مرت على استشهاد مؤسس الثورة الفلسطينية المعاصرة فيها الكثير من الإنجازات والكثير من الإخفاقات والخيبات، وإن كنا لم نحرر أي شبر من فلسطين، لكننا أصبحنا موجودين على خريطة أكثر القضايا عدلاً في العالم بفضل الثورة التي جدّد انطلاقتها عرفات وكوكبة من القادة الذين رحلوا قبله وبعده، كأبو جهاد وأبو إياد وجورج حبش وأبو علي مصطفى وأحمد ياسين وغيرهم ممن قضى نحبه ومن ينتظر ولم يبدّل جوهره، وبقي ممسكاً بجمرة المبادئ ولو خلف القضبان.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 8 / 2165274

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165274 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010