الخميس 3 حزيران (يونيو) 2010

برنار هنري ليفي : بؤس الفلسفـة في خدمة نتنياهو

الخميس 3 حزيران (يونيو) 2010 par ياسين تملالي

بعدما كانت الفلسفةُ تساؤلاً أصبحت أجوبةً روتينية جاهزة، وبعدما كانت تطمح إلى جرّ الحكّام إلى حلبة الأخلاق انجرّت هي إلى حلبة الحكم والحكّام. لم يكن هذا التطورُ ليحصل لولا مجموعةٌ من «الفلاسفة الجدد» كما يسمّون أنفسهم، وعلى رأسهم الذائعُ الصيت برنار هنري ليفي. «ألقوا بالثورة في الشارع ليتلقّفها الشعب»، قال أحد أبطالُ الثورة الجزائرية. ألقوا بالفلسفة في عفن المجاري لتشم رائحتها البشرية جمعاء: هذا، على ما يبدو، شعارُ المفكر الفرنسي، الماويّ سابقاً، الذي حدّد لفكره وظيفةً واحدة: تبرير كل ما يُستعصى تبريرُه في عالمنا بزعم أن «الشمولية» كانت منتهى الوحشية البشرية، وأنّ واجبَ المثقفين الوحيد هو منع تكرار مجازر الشيوعيّين والنازيّين.

لا نيةَ لنا في تصوير الفيلسوف في برجه العاجي متطلّعاً إلى السماء، مشغولاً عن «توافه الأمور»، لكن ما أبدع أيقونتَه الأسطورية هذه إذا قورنت بصورة ليفي وهو يحدّق إلى الأرض، أرض الميعاد، ويُخضع فكرَه لعبودية السياسة، سياسة دولة إسرائيل.

في حزيران/ يونيو 1967، لم تمنع ليفي جنسيتُه الفرنسية من أن يقصد السفارةَ الإسرائيلية في باريس طالباً التطوعَ في الجيش الإسرائيلي. ولسوء حظه، لم تدم «حرب الستة أيام» سوى ستة أيام، فحُرم شرف تحرير بعض أراضي إسرائيل الكبرى من العرب الغاصبين. ومنذ ذلك اليوم، لم يَحد عن حب هذا الجيش إلى درجة أنه في حزيران/ يناير 2009، رافق وحدة من لواء جولاني في إحدى عملياتها في غزة، ولم يرَ في غزة المحاصرة المدماة غير «ألغام حماس».

أحدثُ قصائد الغرام التي كتبها الفيلسوف الجديد عن «قوات الدفاع الإسرائيلية»، أنشدَها يوم 30 أيار/ مايو 2010. فخلال مشاركته في منتدى عن «الديموقراطية وتحدّياتها الجديدة» عُقد أخيراً في تل أبيب، لم يتردّد في القول إنه «غطّى حروباً كثيرة لكنه لم يرَ يوماً جيشاً يطرح على نفسه كل الأسئلة الأخلاقية التي تشغل بالَ الجيش الإسرائيلي».

وبطبيعة الحال، لقي ليفي في فلسطين المحتلة كلَّ الترحيب من المؤسسة الصهيونية، لكن من الواضح أن صورتَه هناك ليست صورةَ الفيلسوف بقدر ما هي صورة «المثقف العضوي» لليمين الصهيوني الفرنسي. تكفي لندرك ذلك قراءةُ حديث أجرته معه «هارتس» (27 أيار/ مايو 2010): كل أسئلة الصحافي الذي حاوره كانت عن إسرائيل والسياسيين الإسرائيليين وحل «النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي»، وما إلى ذلك من المواضيع الفلسفية الشائكة.

وبالرغم من أن ليفي في هذا الحديث قارن نفسَه مرةً أخرى «بالمثقفين الملتزمين» من أمثال جان بول سارتر، فلا يبدو أنه تأثر بعدم اعتبار الإسرائيليين إيّاه «مثقفاً مستقلاً»، فكالعادة، ما يهمّه هو سطوع نجمه في وسائل الإعلام، والإدلاءُ بدلوه في شؤون السياسة الإسرائيلية كأنه عضوٌ في الليكود، أو كاديما أو حزب العمل. وعندما ذكّرته «هآرتس» بأنه وصف بنيامين نتنياهو يوماً بـ«الكارثة»، ردّ بأن «الأمور تغيرت»، وأنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية «نضج»، ثم قارنه ببيغن «الذي تخلّى عن سيناء»، وشارون «الذي انسحب من غزة»، آملاً منه «مفاجأةً» من القبيل نفسه.

وفاجأ نتنياهو صديقَه الجديد في 31 أيار/ مايو الماضي عندما أمر القوات الخاصة الإسرائيلية بالاعتداء على سفن تحمل مساعدات إنسانية إلى سكان غزة المحاصرين. ولأن الفلسفةَ، منذ أن احترفَها ليفي، أصبحت مرادفاً لفن تلميع وجه إسرائيل، لم يُدن الاعتداء، واكتفى بوصفه بأنه «غبيّ لأن صوره ستبث في العالم كله، وستكون أكثر تدميراً من هزيمة عسكرية». وأضاف، وهو العارف بقدرات «الجيش الذي لا يقهر» وإن لم تُكتب له المشاركة في مآثره في 1967، إنه «كان يمكنه إجبارُ هذه السفن على الرسوّ باستعمال وسائل أخرى».

ليست هذه القرصنةُ البيّنة إذاً ما آلمَ «أشهرَ مفكر فرنسي في العالم» («هآرتس»)، ما آلمه هو «غباوتها»، فحتى في المياه الدولية، لإسرائيل الحقُّ في إجبار كل السفن على إلقاء مرساتها في أشدود. ما آلمه ليس اغتيالُ الأبرياء بل تدهورُ صورة الجندي الإسرائيلي، ذي الأخلاق العالية بالرغم من تكالب الغرب والشرق عليه.

هذا هو ليفي منذ أن احترف التفكيرَ في مصلحة الدولة الصهيونية. حتى اعترافُه ببعض حقوق الفلسطينيّين لم يملِه عليه حبُّ العدل بل «خطرُ تحوّل إسرائيل إلى كيان يهودُهُ أقليةٌ في وطنهم» (بيان «دعوة إلى التعقّل»، 3 أيار/ مايو 2010). حتى كلامُه أخيراً في تل أبيب عن حق الفلسطينيّين في وطن، أملته عليه «ضرورةُ أن تتحرّر إسرائيلُ من الأراضي الفلسطينية» لا أن تحرّرَها من الاحتلال.

في 1847 نشر كارل ماركس «بؤس الفلسفة» داعياً المفكّرين إلى أن ينظروا إلى العالم من زاوية جديدة، زاوية تغييره. لم يكن هذا الكتابُ ردّاً على يمينيّ يدافع عن مصالح الطبقات المالكة. كان رداً على مناضل من اليسار الفوضوي، بيار جوزيف برودون. ما كان عسانا أن نقرأ له لو قدّر له أن يرى برنار هنري ليفي وهو يكرّس الفلسفةَ للإشادة بـ«نضج» نتنياهو؟ ربما كان سيفضّل أن يواصل الفلاسفة التحديق إلى السماء، وأن يُشغلوا بها عن السياسة، حتى لا يحوّلوا «علم الحكمة» إلى علم الترّهات.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 25 / 2177812

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع ريبورتاج   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2177812 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40