الأحد 1 كانون الثاني (يناير) 2012

مصر جمال حمدان

الأحد 1 كانون الثاني (يناير) 2012 par عبداللطيف مهنا

على الهاتف، انهمرت أسئلتي على صديقي المصري في القاهرة، وبالطبع وفي مثل هذه الأيام بالذات، كان جل حديثنا يتعلق بآخر التطورات الجارية في المحروسة، ومحاولة استشراف خبايا ما هو كامن وراء صخب التجاذبات في معترك شجون وشؤون الراهن المصري المحتدم. قال لي الإعلامي والناشط السياسي والمرابط العنيد أكثر الوقت في ميدان التحرير، وقد عكست أسئلتي مدى قلقي إزاء مختلف الاحتمالات التي تواجه مسار الحلم المصري الذي جسَّدته دماء الشباب المصريين في 25 يناير، مطمئنا :

لا تقلقوا علينا، ولا على مستقبل مصر، فمهما حلكت أيامنا الراهنة وتعقدت، واختلط حابل عسكرنا بنابل قوانا السياسية المتهافتة لأخذ نصيبها من السلطة الموعودة، فغدنا الآتي لا ريب يلوح لنا وحتام سيشرق. تأكدوا، إنها إنما مسألة وقت لا أكثر، فالأمور لن تتجه في سائر الأحوال أوفي منتهى المطاف إلا فقط لصالح شعبكم المصري.

قلت له، وقد راقني تفاؤله وأدهشتني ثقته الزائدة والتي بدت لي بعض المبالغ فيها، وماذا عن العسكر؟!

قال، لا، هؤلاء كل ما باتوا يناورون ويداورون من أجله الآن، أو الكامن من وراء بادي تعنتهم وتصعيد لهجتهم واستعراض قبضتهم هو للحصول على الضمانات التي يريدونها تحسباً لما هو آت بعد تسليمهم السلطة للمدنيين.

قلت، وما هي؟

قال، إنها لا تعدو ثلاثاً، أولاها، ضمان بقاء ما كانت قد خُصت به المؤسسة العسكرية من مميزات ومكتسبات ولا بأس من زيادتها، وثانيها، الحفاظ على إمبراطوريتهم الاقتصادية، ثم سرية الموازنة العسكرية إن أمكن، والثالثة والأهم، عدم محاسبتهم في قادم الأيام على خطاياهم الكثيرة التي ارتكبوها خلال عام الثورة الأول الذي أهدروه والذي يقترب الآن من نهايته.

قلت، والآخرون؟!

قال، ومن هم؟

أجبته، ومن هم سوى الأميركان و«إسرائيليهم» وغربهم، وعربهم، وقائم نظام كامب ديفيد الراحل الباقي بذيوله وفلوله. والانتهازية السياسية وقوى ركوب موجة الثورة ومن ثم الارتداد عليها... هل تظنون أنهم سوف يتركون مصر وحالها يوماً؟!

طال الحوار وغدا يقترب من الجدل، وكان آخر ما حرصت على قوله له، انتبهوا، إنكم تخوضون معركة أمة بكاملها وليس مصر فحسب، لأن الصراع على مصر، بالأمس واليوم وغداً، ومع كل هؤلاء «الآخرين»، هو الصراع على مصر الدور في سياق صراع أمتها المديد معهم، لذا فإن المقلق بحق هو غياب مثل هذا البعد، أو عدم وضوحه كما يفترض، في شعارات ميادين مصر الثورية ...

وافقني، وقال : لكن عليكم أن تصبروا علينا، لا تحملونا ما لا طاقة لنا به الآن، لدينا أولوياتنا التي فرضتها التركة الثقيلة التي حمَّلونا أوزارها، أما مصر الغد، الدور، ما تنتظره أمتها منها، فهو قدرها ومصيرها شاءت مصر أم أبت، ألم يقل لنا هذا جمال حمدان؟!

انتهت المكالمة وشعرت أن فاتورة الهاتف سوف تأتيني وقد زادت عن الحد، فانشغلت عنها بمصر جمال حمدان... جمال حمدان المفكر العربي المصري الفذ، الذي رحل غيلةً وفق المرجح على أيدي أعداء مصر والعرب، أو من كنت قد دعوتهم آنفاً بالآخرين، ولغز رحيله معروف ولم يُحلَّ بعد وقيل فيه الكثير، والذي كان في العام 1993، وحيث تمر في العادة ذكراه السنوية على عجل ووجل ودونما أن يلتفت لها إلا قليل القوم ... يقول عبقري مصر في كتابه الشهير «شخصية مصر .. دراسة في عبقرية المكان» : «ومصر بالذات محكوم عليها بالعروبة والزعامة، ولكن أيضاً بتحرير فلسطين، وإلا فبالإعدام. فمصر لا تستطيع أن تنسحب من عروبتها أو تضويها عن نفسها حتى لو أرادت - كيف؟ وهي إذا نكصت عن استرداد فلسطين كاملة من النهر إلى البحر وهادت وهادنت وخانت وحكمت عليها بالضياع، فقد حكمت أيضاً على نفسها بالإعدام، بالانتحار، وسوف تخسر نفسها ورصيدها، الماضي، المستقبل، التاريخ والجغرافيا» ... مبكراً، حاكم جمال حمدان بمقولته هذه كامل حقبة مصر نظام كامب ديفيد وحتى اللحظة، حكم عليها سلفاً بما حكمت عليها لاحقاً ثورة 25 يناير، أو ما قد تصادق عليه مصر ألما بعد تسلم مدنييها للسلطة من عسكرييها، إذا ما تحققت رؤية صاحبي المتفائل في القاهرة، ونحن نميل لمشاركته تفاؤله وأن بدرجة أكثر تواضعاً ولا تخلو من توجُّس ولا يبارحها القلق... استعاد لنا جمال حمدان في محكمته التاريخ فأعطى الجغرافيا حقها، فاستحضر صلاح الدين، والظاهر بيبرس، وسيف الدين قطز، ومحمد علي، وجمال عبد الناصر، ليدلنا على عبقرية المكان وصاحبته، دورها، مكانتها، وقدرها... قال ما لم تقله لنا مصر ميدان التحرير بعد، أو ما أجَّلته إلى حين أولويات هذه المرحلة :

«لن تصبح مصر قط دولة حرة قوية عزيزة متقدمة يسكنها شعب أبي كريم متطور إلا بعد أن تُصفِّي وجود العدو «الإسرائيلي» من كل فلسطين. فبهذا وبه وحده، تنتقم لنفسها من كل سلبياتها وتاريخها وعار حاضرها»... ما قاله فقيدنا جمال حمدان ليس وصيته لمصره وحدها، وإنما كان يقوله لأمته جمعاء ومن محيطها إلى خليجها، وإذا ما اتضحت لهما، مصر والأمة، ذات الرؤية اتضاحها عنده، فحينها وحينها فحسب، يمكننا القول بثقة بأننا فعلا في انتظار مصر جمال حمدان... وأمة جمال حمدان.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2165981

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165981 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010