الثلاثاء 3 كانون الثاني (يناير) 2012

خمسة أنواع من «المواطنين الشرفاء»

الثلاثاء 3 كانون الثاني (يناير) 2012 par د. علاء الاسواني

لنفترض أن رجلاً عاد الى منزله في المساء وفجأة، بينما هو يصعد الدرج الى شقته رأى أحد المجرمين يحاول اغتصاب فتاة. الفتاة تستغيث وتحاول الإفلات، لكنها لا تفلح، والمعتدي يمزق ثيابها ويشرع في اغتصابها. ان رد فعل الرجل على الجريمة التي تحدث أمامه سيكون واحداً من الاحتمالات الآتية :

[**1 ـ*] أن يندفع الرجل لإنقاذ الفتاة من الاغتصاب ولو كلفه ذلك حياته. في هذه الحالة سيكون رجلاً شجاعاً صاحب نخوة ومروءة.

[**2 ــ*] أن يمتنع الرجل عن إنقاذ الفتاة بنفسه لكنه يسرع بالصعود الى شقته، ويستدعي الشرطة. سيكون في هذه الحالة رجلاً عادياً، لا يتمتع بشجاعة فائقة، لكنه على كل حال يشعر بأنه مسؤول عن منع الجريمة.

[**3 -*] أن يصعد الرجل الى شقته ويعيش حياته الطبيعية ويتناسى تماماً أمر الجريمة ويترك الفتاة لمصيرها. في هذه الحالة سيكون رجلاً جباناً منعدم الضمير.

[**4 -*] أن يتقاعس الرجل عن إنقاذ الفتاة لكنه لا يكتفي بذلك وإنما يشتمها وهي تغتصب أمام عينيه ويتهمها بأنها منحرفة تحب أن تغتصب.. هنا يقدم الرجل نموذجاً قبيحاً في السلوك الإنساني، بل انه في رأيي يحتاج الى تحليل نفسي لمعرفة كيف استطاع أن يقتل ضميره ويلوم الضحية ويسخر منها.. هذه الحالة من التفكير المشين، للأسف، قد انتابت بعض المصريين مؤخراً، فقد ارتكب أفراد الشرطة والجيش جرائم بشعة ضد المتظاهرين في ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء. كل أنواع الجرائم ارتكبت ضد مواطنين مصريين عياناً جهاراً بدءاً من فقء الأعين بالخرطوش والقتل بالرصاص الحي وهتك أعراض البنات بواسطة الجنود وسحلهن على الأرض.. كل هذه الجرائم الموثقة بالصوت والصورة أثارت عاصفة من الغضب ضد المجلس العسكري في مصر وفي أنحاء العالم لكن بعض المصريين ما زالوا يقللون من أهمية هذه الجرائم بل يلومون الضحايا.. هؤلاء الساكتون عن الحق الذين يبررون أبشع الجرائم بضمير ميت، يحبهم المجلس العسكري ويعتبرهم في بياناته مواطنين شرفاء. المواطنون الشرفاء في نظر المجلس العسكري هم الذين يوافقونه على كل ما يفعله ويؤيدون خطته في إجهاض الثورة ويتغاضون عن كل الجرائم البشعة التي هو المسؤول الوحيد عنها سياسياً وجنائياً.... كيف نرى بأعيننا بنتا مصرية ينتهك عرضها ويتم سحلها بوحشية بواسطة جنود الجيش ثم يلومها «المواطنون الشرفاء» لأنها كانت ترتدي عباءة بكباسين وليس بأزرار؟ كيف نرى أمهاتنا وأخواتنا يُسحلن ويسقطن تحت أحذية الجنود ثم يخرج علينا أحد «المواطنين الشرفاء» ليطالبنا بنسيان هذه الجرائم والنظر الى المستقبل. أي مستقبل هذا الذي نريده قبل محاكمة الذين قتلوا أبناءنا وهتكوا أعراض بناتنا؟ إن هؤلاء «المواطنين الشرفاء» ظاهرة غريبة في المجتمع المصري حاولت أن أفهمها فوجدتهم ينقسمون الى خمسة أنواع :

[**النوع الأول : الوزير التابع*]

مفهوم الوزير عند حسني مبارك هو نفسه عند المجلس العسكري. المهمة الأولى لأي وزير تتلخص في الدفاع عن قرارات السلطة وتبرير أخطائها وجرائمها، وبالتالي فقد ارتكبت كل هذا الجرائم البشعة ضد المصريين فلم يتحرك وزير واحد ليعترض أو يتقدم باستقالته لأنه يفهم جيدا أن وظيفته إطاعة أوامر المجلس العسكري كما كان يطيع أوامر مبارك. بل ان رئيس الوزراء الجنزوري قد تعهد بتوفير الحماية الكاملة للمتظاهرين لدرجة انه أكد أنه لن يسمح بالعنف اللفظي ضدهم (فما بالك بالعنف الجسدي). هذا التعهد قاله الجنزوري أمام كاميرات العالم ثم حدثت المذبحة ضد المتظاهرين أمام مجلس الوزراء فلم يحس الجنزوري بأدنى حرج من أنه قد نقض عهده ولم يحترم كلمته، لأنه ببساطة يعتبر أنه يعمل عند المجلس العسكري الذي تُعتبر إرادته فوق كل شيء.

[**النوع الثاني : الليبرالي الانتهازي*]

ينتشر هذا النوع من «المواطنين الشرفاء» بين أساتذة الجامعة والمثقفين والمهنيين.. الليبرالي الانتهازي يعتبر نفسه أحق من غيره بالحياة الرغدة الناعمة، وهو مستعد للنفاق والتدليس والتعاون الكامل مع جهاز أمن الدولة وكتابة تقارير عن زملائه، وهو يذهب بنفسه ليعرض خدماته على السلطة. انه مستعد لأن يفعل أي شيء ويدهس القيم جميعا حتى يصل الى القمة ويتولى منصب الوزير. وهو لا يكتفي بالتغاضي عن الجرائم البشعة التي ارتكبها أفراد الجيش والشرطة ضد المتظاهرين، لكنه أيضاً مستعد تماماً لإيجاد تبريرات سياسية لهذه الجرائم.. وهو يعلم أن التحالف مع المجلس العسكري «عين العقل» لأنه مهما حدثت تغيرات فان المجلس العسكري سيظل قادراً على أن يمنحه الامتيازات التي يريدها.

[**النوع الثالث : المتطرف الكاره*]

هذا النوع من «المواطنين الشرفاء» يعتنق تفسيراً متطرفاً للدين يحضه على الكراهية والعنف بدلاً من أن يدفعه الى المحبة والتسامح. إن فهم المتطرف الخاطئ للإسلام يدفعه الى إظهار الكراهية والاحتقار لكل المختلفين عنه. إن المتطرف يكره المسيحيين الغربيين والأقباط المصريين والبهائيين والشيعة والصوفيين والليبراليين واليساريين والعلمانيين. انه ببساطة يكره الجميع إلا من يشاركه تطرفه وهو يعتبر المختلفين عنه ضالين وفاسقين أو كفاراً أو متهتكين منحلين أو عملاء متآمرين ضد الإسلام. إنه يعتقد أنه الوحيد الذي يفهم الدين الصحيح وهو الوحيد الذي يملك الحقيقة الكاملة ويعتبر من حقه أن يفرض آراءه على الناس بالقوة. يحتاج المتطرف الكاره الى نظرية المؤامرة حتى يحتفظ بتطرفه. انه يعتقد جازماً أن دين الإسلام يتعرض لمؤامرات داخلية على أيدي العلمانيين والليبراليين واليساريين بالإضافة الى المؤامرة الخارجية الكبرى من الدول الغربية الصليبية ضد الإسلام. لا يمكن لأحد أن يقنع المتطرف الكاره بأن الليبراليين واليساريين مصريون وطنيون دفعوا ثمناً باهظاً في الثورة التي لم يرتفع خلالها أي شعار ديني. لا يمكن أن تقنعه بأن زعماء مصر جميعاً بدءاً من سعد زغلول الى عبد الناصر كانوا ليبراليين أو يساريين يؤمنون بالدولة المدنية وأنهم كانوا يعتنقون الإسلام كدين عظيم وليس كبرنامج سياسي يتم استعماله للوصول الى السلطة. لا يمكن إقناع المتطرف بأن الدول الغربية لا يهمها سوى مصالحها، بدليل أن أقرب حلفاء الولايات المتحدة بعد «إسرائيل» هو النظام السعودي مصدر الوهابية في العالم، وان حركة طالبان أسستها الاستخبارات الأميركية ودعمتها سنوات قبل أن تنقلب عليها وان الجنرال ضياء الحق، رئيس باكستان الأسبق، كان عميلاً للاستخبارات الأميركية وفي الوقت نفسه طبق نظاماً إسلامياً متشدداً بدعم سعودي، بل إن الولايات المتحدة تعادي «حزب الله» و«حماس» لأنهما حركتا مقاومة وليس لأنهما إسلاميان.. مهما قلت للمتطرف فلن يصغى إليك وغالباً سوف يتطاول عليك ويشتمك ولن يصدقك أبداً، لأنه يؤمن فقط بما يقوله شيخه في الجامع. وهو يعتقد أن كل من يختلفون معه سياسياً إنما يختلفون مع الإسلام نفسه، وبالتالي هم أعداء الدين الذين يستحقون كل أنواع العقاب والتنكيل. وهكذا بينما تأثر ملايين الناس في كل أنحاء العالم بالفيديو الذي يصور البنت المصرية البريئة بينما مجموعة من الجنود يسحلونها ويضربونها بأحذيتهم، رأيت على قناة تلفزيونية وهابية ثلاثة من المشايخ الملتحين المشهورين يستهزئون بالفتاة المسحولة ويتهمونها في شرفها ويضحكون عليها. السبب في هذا السلوك أن هؤلاء المشايخ لا يريدون إغضاب المجلس العسكري حتى يسلمهم السلطة، كما أنهم يعتبرون أن هتك الأعراض يستحق الغضب فقط إذا كانت الضحية إحدى الأخوات الأعضاء في جماعتهم، أما إذا حدث لفتاة مصرية عادية فهي لا تستحق الدفاع عن شرفها لأنها بعيدة عن الإسلام الصحيح الذي يمثلونه وحدهم .. هؤلاء المشايخ وهم يمارسون أسوأ درجات العنصرية والسقوط الأخلاقي، فيسخرون من بنت ضعيفة انتهك الجنود شرفها، ما زالوا مصرين على التحدث باسم الإسلام وهم بعيدون عن أي دين وأية قيمة إنسانية.

[**النوع الرابع : المتوائم الفاسد*]

هذا النوع من «المواطنين الشرفاء» انتشر بسبب الفساد الشامل. تحت حكم مبارك، وجد المصري نفسه أمام اختيارات ثلاثة : إما أن يهاجر الى الخارج أو يشترك في الفساد ليعيش أو يظل يرفض الفساد فيدفع ثمناً باهظاً. آلاف المصريين لم يشتركوا في الحزب الوطني لكنهم مارسوا الفساد في نطاق وظائفهم. أقنعوا أنفسهم بأن حال مصر لن ينصلح أبداً وأنهم مضطرون لمجاراة الفساد حتى يعيشوا. هؤلاء موظفون مرتشون ومدرسون كونوا ميليشيات للدروس الخصوصية وأطباء يبيعون أدوية ممنوعة ومهندسون يبيعون التقارير الفنية... الخ.

هؤلاء الفاسدون فوجئوا تماماً بالثورة وهم بالطبع لم يشتركوا فيها ولم يحبوها. الثورة تثبت لهم أنهم قد استسلموا وفسدوا بينما ملايين الشباب في سن أبنائهم ثاروا ودفعوا من دمائهم ثمن الحرية والكرامة. إنهم يكرهون الثورة لأنها تذكرهم بأن فسادهم لم يكن قدراً وإنما هو اختيار، كما أن التغيير الديموقراطي الحقيقي سيسد عليهم مصادر الفساد التي اعتادوا عليها. هؤلاء الفاسدون يؤيدون قمع الثوار وقتلهم حتى تعود الأحوال الى ما كانت عليه في السابق ويستأنفوا ممارسة الفساد.

[**النوع الخامس : المذعنون المذعورون*]

هؤلاء كانوا قد استسلموا لقمع نظام مبارك وتقبلوه وتعايشوا معه. الرجل من هذا النوع، إذا استوقفه ضابط شرطة في سن أبنائه فصفعه وشتمه، فانه يعتبر تلك الإهانة مجرد تجربة سيئة يجب أن ينساها ويستأنف حياته بشكل طبيعي.. المذعن مذعور دائماً من أي تغير يحدث في مصر لأن إحساسه بالأمن أهم بكثير من كرامته ...هؤلاء «المواطنون الشرفاء» تم الضغط عليه بالانفلات الأمني والأزمات المصطنعة حتى أصابهم الرعب وهم يرفضون التعاطف مع الشهداء والبنات اللاتي انتهكت أعراضهن لأن هذا التعاطف سيجعلهم ينتقدون المجلس العسكري وهم عاجزون نفسياً عن التفكير بعيداً عن سلطة تحميهم، حتى لو قمعتهم وانتهكت حقوقهم الإنسانية.

أخيراً، إن الجرائم البشعة التي ارتكبت ضد المتظاهرين قد أثبتت حقيقتين : أولاً أن معظم المصريين ما زالوا مخلصين للثورة مصممين على استكمال أهدافها وهم يفهمون تماماً محاولات المجلس العسكري المتكررة لكسر إرادة الثوار وإجهاض الثورة، وثانياً ان نظام مبارك الذي جثم على مصر ثلاثة عقود قد أوصلها الى الحضيض في كل المجالات، لكنه أيضاً قد أصاب بعض المصريين بتشوهات ذهنية وفكرية أصبحوا معها عاجزين عن رؤية الحقيقة وغير قادرين على اتخاذ الموقف الأخلاقي الذي تفرضه المسؤولية الإنسانية.

إن التحقيق الكامل لأهداف الثورة هو الطريق الوحيد لبناء الدولة الديموقراطية، وهو أيضاً الكفيل بأن يسترد المصريون صحتهم النفسية والذهنية حتى يصبحوا جميعاً مواطنين شرفاء حقيقيين.

الديموقراطية هي الحل.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 46 / 2165851

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165851 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010