الأربعاء 7 آذار (مارس) 2012

تقدير هرتسليا 2012:« إسرائيل» في عين العواصف

الأربعاء 7 آذار (مارس) 2012

خلال العام الفائت وقعت في العالم سلسلة أحداث دراماتيكية وسيرورات تشكيلية، تخلق على ما يبدو نقاط تحول استراتيجية تغير الواقع خصوصا في المحيط الاستراتيجي «لإسرائيل». وجدول أعمال مؤتمر هرتسليا يشير إلى ثلاث سيرورات تأسيسية أساسية، تقيم علاقة تبادلية مركبة في ما بينها وتبلور الواقع الاستراتيجي« لإسرائيل» في هذا الوقت: الأزمة الاقتصادية العالمية، الهزة السياسية - الاجتماعية في الشرق الأوسط والسيرورة العالمية للمجد المدني.

وبانتظار حدث أزماتي متعدد المنظومات، فإن الأزمة الاقتصادية العالمية قد تتعمق في العام القريب. والأزمة الاقتصادية تعجل رؤية التغيير في موازين القوى الدولية وتصوغ سياسات القوى العظمى في الشرق الأوسط. والولايات المتحدة تحرف انتباهها، المحدود أيضا بسبب سنة الانتخابات، عن الشرق الأوسط نحو آسيا، فيما أوروبا تغرق كلها في جهد محموم لمنع انهيار اقتصادي وتبدي عجزا في الحلبة الدولية والإقليمية. والقوى العظمى الجديدة في آسيا بعيدة عن التدخل السياسي والاستراتيجي في الشرق الأوسط.

وبعد عام من نشوب العصيان المدني في الشرق الأوسط، فإن التقديرات« الإسرائيلية» بشأن المخاطر الكامنة فيها تزداد تحققا. وغياب القوى العظمى التقليدية عن الشرق الأوسط يفاقم عدم الاستقرار الإقليمي ويصعب مهمة تخصيص موارد لمواجهة التخلف الاقتصادي الاجتماعي. وتضع الهزة السياسية في الشرق الأوسط أمام« إسرائيل» تحديات أمنية وسياسية مركبة فيما هي معزولة من الناحية الاستراتيجية.

إن تشديد نظام العقوبات لم يدفع إيران حتى الآن إلى تغيير مطامحها في امتلاك سلاح نووي وهيمنة إقليمية. كما أن العزلة الإقليمية قد تدفع إيران لتعميق تغلغلها في العراق وفي دول الخليج. إن منع إيران من التسلح بسلاح نووي هو مصلحة« إسرائيلية» حيوية من الدرجة الأولى، ولكن محظور أن يعرض ذلك كخطر وجودي على المشروع الصهيوني أو يفهم منه ذلك ضمنا. ويجب ضمان ردود استراتيجية «لإسرائيل» في مواجهة إيران النووية ولذلك ينبغي إعادة النظر في الرسائل شبه النهاوية التي تطلقها «إسرائيل».

وبالنسبة« لإسرائيل»، تصعب المبالغة في أهمية منظومة العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة في هذه الآونة. فالهزة في الشرق الأوسط كان يفترض أن تبرز القيمة الاستراتيجية« لإسرائيل» بالنسبة للولايات المتحدة والغرب، لكنها لم تفعل. ولا يمكن التهرب من الانطباع بأن الولايات المتحدة ترى في «إسرائيل» بخطواتها المستقبلية خطرا استراتيجيا أكثر مما تراها حليفا استراتيجيا. فالصورة التي أعطيت لحكومة« إسرائيل» الحالية في أوروبا وفي الولايات المتحدة بالغة القسوة والانتقادات ضدها في العالم ليست نزيهة دائما. لكن من ناحية «إسرائيل»، هذا إخفاق دبلوماسي مدوّ، لجهة أن نطرد من المدينة وأن نأكل السمك النتن.

إن تحول الشرق الأوسط إلى معقل للإسلام السياسي الراديكالي، المرتكز على دعم جماهيري متين، وضع حدا لتوقعات تطبيع العلاقات بين« إسرائيل» والدول العربية وإنشاء علاقات استراتيجية مع دول مركزية في المنطقة. صحيح أنه من الناحية الظاهرية ليست هناك صلة بين العملية السياسية والصراع العربي «الإسرائيلي» من جهة وبين المشكلات المركزية في الشرق الأوسط، إلا أن غياب التقدم في العملية السياسية أضر بالمكانة الدولية وعرض للخطر الاستقرار الأمني الذي تحقق على الأرض. لقد حان الوقت لتحريك خطوات حقيقية ويمكن للأردن أن يكون شريكا هاما في هذا الجهد.

وبالتفكير في نظرية الأمن القومي والعلاقات الخارجية «الإسرائيلية»، فإن الهزة الشرق أوسطية تثبت أن التغييرات المحتملة في المنطقة ليست دوما متوقعة وأن وتيرة التغيير قد تكون أسرع بما لا يقاس من قدرة« إسرائيل» على الاستعداد في مواجهة الوضع المتغير. ولهذا الفهم أثر مباشر على سلسلة الخطوات المفترض «بإسرائيل» اتخاذها، بما في ذلك بناء القوة العسكرية.

وفي الوقت الذي تغير فيه هذه التغييرات قواعد اللعب الأساسية التي عملت وفقها« إسرائيل» في الحلبة العالمية وفي المجال الإقليمي، لا ينبغي نسيان أن الأمن القومي يبدأ في الداخل. والتحديات في الحلبة العالمية والإقليمية الرابضة أمام« إسرائيل» تشدد الحاجة الحيوية والعاجلة لمواجهة القضايا الحاسمة التي على جدول الأعمال الداخلي« الإسرائيلي». وتقدير ميزان منعة« إسرائيل» يظهر صورة بائسة لفجوات آخذة في التوسع تتعلق ليس فقط بالفجوات الاقتصادية والاجتماعية، وإنما بشروخ وخلافات أساسية على صورة« دولة إسرائيل» وسلطة القانون فيها. إن هذه الشروخ تهدد أسس الديموقراطية الصهيونية وتضر بالمنعة القومية.

وتحديدا على هذه الخلفية فإن ظاهرة الاحتجاج الاجتماعي بالغة الأهمية لحيوية النظام الديموقراطي ولتحصين المنعة القومية ويجب العثور على السبل التي تحافظ وتعزز التحشيد الاجتماعي الواسع. والمهمة غير البسيطة التي تواجه «حكومة إسرائيل» هي التأكد من أن العشريات الجماهيرية الأدنى والعشريات من الطبقة الوسطى لن تتحمل سوى الحد الأدنى، إذا كان لا بد من أن تتحمل، على خلفية الضرر الاقتصادي المتوقع نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية والحاجة إلى تخصيص موارد لمجابهة الأخطار والتهديدات الاستراتيجية المتكونة في الشرق الأوسط.

فحين تهب العواصف، فإن الميل الطبيعي الإنساني هو الانغلاق واتقاء شرور العاصفة. ومع ذلك فإنه في موضوعنا من المشكوك فيه أن يحتمل البيت أضرار المناخ. في الواقع المتعدد الأزمات التي تتحدى «إسرائيل»، يمكن للانغلاق السلبي أن يعرض للخطر مستقبل المشروع الصهيوني الديموقراطي. وفي الواقع الشرق أوسطي البادي، فإن نظرية «شعب لوحده يعيش» يمكنها أن تبدو جذابة« لإسرائيل»، لكنها ليست استراتيجية قادرة على البقاء. في هذا الوقت تحتاج« إسرائيل» إلى رؤية استراتيجية مبادرة وواضحة تستند إلى تقديرات موقف واقعية، وإلى تحديد أهداف على أساس نظام أولويات واعية وقدرات تحقيق عبر فحص البدائل، واستغلال الذخائر والسعي لزيادتها.

إن «تقدير هرتسليا» معد لرسم حدود وتحليل معاني أحداث العام الفائت في سياقها الواسع، كمشيرة للميول أو للتطورات المحتملة في المستقبل القريب والمتوسط. كذلك يشمل التقدير توصيات سياسية «لإسرائيل» يمكن أن تشكل أساسا لمداولات مؤتمر هرتسليا. وقد شارك في إعداد هذه الوثيقة أعضاء طاقم الأبحاث في معهد السياسات والاستراتيجيا إلى جانب العشرات من المشاركين الذين أسهموا في مداولات الإعداد لمؤتمر هرتسليا. ونحن ندين لهم بالشكر على تخصيصهم وقتا ومساهمتهم بأفكارهم التي ساعدتنا في بلورة هذه الوثيقة وفي إعداد جدول الأعمال المفصل لمؤتمر هرتسليا. ومع ذلك، لا تدعي هذه الوثيقة أنها تشمل كل ما قيل في المداولات التحضيرية وهي غير ملزمة للمشاركين.

الأزمة الاقتصادية العالمية: هل الأسوأ لا يزال أمامنا؟

إن الأزمة الاقتصادية العالمية الجارية منذ خمس سنوات، لم تصل بعد إلى نهايتها، وإنما قد تتعمق في العام القريب. والاقتصاد العالمي يعيش اليوم حالة ترقب لحدث أزماتي متعدد المنظومات، على شاكلة انهيار السوق الأميركي في العام 2008. في ظروف كهذه، يمكن ملاحظة عدة سيناريوهات للحدث، بينها أزمة ديون سيادية في أوروبا على خلفية تجنيد سندات خزينة وطنية بمستوى فائدة عالية (حوالى 8 في المئة)، تجعل من المتعذر جدا سداد الديون أو تمويلها. وعجز دولة أوروبية عن سداد ديونها يمكن أن يدفع كرة الثلج نحو منحدر شامل يقود الاقتصاد العالمي إلى ركود عميق. وتجدر الإشارة إلى أن استنتاجات قادة الاتحاد الأوروبي لمنع العجز عن سداد الديون السيادية لن تثمر بالضرورة، بسبب أن تجربة فرض تقليص حاد في النفقات العامة يمكن أن يعمق الركود الاقتصادي في أوروبا ويخلق مشكلة سيولة نقدية في أوساط المؤسسات المالية الأوروبية.

وعلاوة على ذلك فإن حدثا أزماتيا سيكون من شبه المؤكد غير مسبوق، لأنه لا تتوفر أدوات جوهرية لمواجهة الأزمة. فالأدوات المعهودة ـ تقليص الفائدة، زيادة العجز وتخفيض العبء الضريبي - تم استغلالها في الجولات السابقة من الأزمة وهي لم تعد متوفرة في مناخات فائدة تكاد تقترب من الصفر وديون وطنية هائلة. كذلك فإن عدم توفر هذه الأدوات يزيد فقط من احتمالات تفاقم الأزمة. وعلى خلفية غياب الأدوات التقليدية، هناك احتمال بأن يتم استخدام أدوات متطرفة، تقيد حرية الحركة والتجارة بالبضائع ورؤوس الأموال عن طريق إجراءات وضرائب حماية. واستخدام مثل هذه الأدوات يمكن أن لا يهدد فقط الاقتصاد العالمي، وإنما يهدد أيضا الاستقرار الاستراتيجي في الحلبة الدولية.

ولا يبدو أن تعميق الأزمة الاقتصادية العالمية ـ في واقع منظومة عالمية تقوم على مستوى عال جدا من الاعتماد المتبادل بين اللاعبين - لم تقفز عن الصين وعن الهند وعن الأسواق الناشئة. ففي العام 2008-2009، وهي الفترة التي بدأت فيها الأزمة، لم تتضرر هذه الأسواق بشكل جوهري وطرأ انتعاش موقت في المنظومة الاقتصادية العالمية. غير أنه، تلحظ من الآن شارات أولية لميول ركود في الاقتصاد الصيني وتغيير في السياسة قد يشير إلى استعداد صيني للانتقال من النمو المستند إلى التصدير إلى النمو المستند إلى توسيع الطلب المحلي والاستهلاك الداخلي. ومثل هذه الخطوات لا تبشر بالخير على الاقتصاد العالمي.

الأبعاد الاستراتيجية للأزمة الاقتصادية العالمية:

إن للأزمة العالمية آثارا بعيدة المدى تتجاوز الحقل الاقتصادي. والأزمة تسرع نظرة التغيير في ميزان القوى العالمي وتصوغ نظرة القوة العظمى الاستراتيجية. والأمر يبرز على وجه الخصوص لدى المتضررين الأساسيين من الأزمة: الولايات المتحدة وأوروبا. وهذه التغييرات أثرت على تطور الأحداث، وعلى السيرورات في الشرق الأوسط وعلى مكانة اللاعبين الإقليميين، وبينهم« إسرائيل» أيضا.

ولم يبدأ التراجع في القوة النسبية للولايات المتحدة مع الأزمة الاقتصادية. لكن الأزمة والاعتماد الأميركي على الفوائض الصينية لتمويل الدين العام المتضخم قادا إلى استيعاب التغيير في ميزان القوى. وعبر هذا الاستيعاب عن نفسه بالتفضيل البائن من جانب إدارة أوباما لاستثمار جهد كبير في التحاور مع الخصوم، أيضا على حساب حلفاء تقليديين. وكان هدف الإدارة الأميركية الحفاظ على الوضع القائم الاستراتيجي والاستقرار النسبي في البؤر الإقليمية المختلفة بأقل ثمن ممكن من ناحيتها، إلا إذا نشأت مصالح حيوية موضوعة على كفة الميزان.

وقادت محاولة الصين لزيادة نفوذها ومحاولة إملاء خطوات في آسيا الإدارة الأميركية الحالية إلى الاستنتاج بأن المصالح الأميركية الحيوية موضوعة فعلا على المحك في هذه الحلبة. وهكذا فإن الإدارة والمؤسسة الأمنية الأميركية تصرفان انتباههما الاستراتيجي والسياسي، المحدود أيضا بسبب سنة الانتخابات الرئاسية، من الشرق الأوسط إلى الحلبة الآسيوية وحوض المحيط الهادئ. في إطار الخطوة الأميركية الجديدة ستوجه موارد اقتصادية، عسكرية وسياسية نحو آسيا. وفي هذه الظروف، فإن الإصغاء السياسي الأميركي لمناطق أخرى في العالم، بينها أوروبا والشرق الأوسط، سيكون محدودا أو بالغ المحدودية.

ويفسر التركيز المعلن من جانب الولايات المتحدة على آسيا كنوع من إدارة ظهر أميركية لأوروبا ولمنظومة عبر الأطلسي، التي كانت عمادا في الاستراتيجية الأميركية الدولية منذ الحرب العالمية الثانية. وقد بدأت هذه الأيام عملية إخلاء لواءين مقاتلين من الجيش الأميركي من القواعد الثابتة في أوروبا. وفضلا عن الخلافات الجوهرية بين ضفتي المحيط الأطلسي بشأن الطريقة التي ينبغي التعامل بها مع الأزمة الاقتصادية، فإن إعلان وزير الدفاع الأميركي، الذي يشكك بطول عمر حلف الأطلسي، يشهد أكثر من أي شيء آخر على المكانة الدولية المتراجعة لأوروبا.

وأوروبا غارقة كلها في جهد محموم لمنع عجز عدد من الدول المركزية عن السداد والحيلولة دون انهيار المنظومة المصرفية في القارة وضمن ذلك المحافظة على مشروع الاندماج الأوروبي. على خلفية المعركة الانتخابية في دول مركزية أوروبية في العامين القريبين، ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، من المتوقع أن يزيد الركود الاقتصادي في أوروبا ظواهر الاحتجاج الاجتماعي وكراهية الأجانب، وهي ما قد تزيد قوة الأحزاب التي ليست في عداد التيار المركزي للسياسة الأوروبية. وفيما يتعذر على الاتحاد إيجاد طريقه، فإن التضامن بين دول الاتحاد الأوروبي يمكن أن يتضاءل أكثر. فالأصوات التي تشكك بقدرة اليورو على الصمود تتزايد، حتى إذا كانت فرص تفكك كتلة اليورو وتفكيك الاتحاد الأوروبي ضعيفة.

وتبدو قدرة الاتحاد الأوروبي على أداء دور مركزي في الحلبة الدولية في هذه الظروف محدودة. فالمصاعب التي تواجه مأسسة واستيعاب التغييرات في مجال إدارة السياسة الخارجية الأوروبية المشتركة في أعقاب معاهدة لشبونة، لا تساعد الاتحاد في بث قوة استراتيجية وسياسية. إن عجز أوروبا في السنوات الأخيرة تجلى بوضوح في الشرق الأوسط. في العقد الفائت وفي فترة التوتر بين الولايات المتحدة وأوروبا، لعبت أوروبا دورا مركزيا في الشرق الأوسط. وبتشجيع من إدارة بوش، قاد ممثلو الاتحاد الأوروبي عملية صياغة وثيقة «خريطة الطريق» وكانوا ضالعين في العملية السياسية بين «إسرائيل» والفلسطينيين وفي محاولات منع تسلح إيران نوويا. وبالمقابل في عهد أوباما، حشر الاتحاد الأوروبي في الزاوية ولم يفلح بعد في ترك بصماته على الشرق الأوسط.

ومع ذلك، خلافا لأوروبا، بقيت الولايات المتحدة وستبقى القوة القائدة في الحلبة الدولية في المستقبل المنظور. فأسس جبروت الولايات المتحدة متعددة الأبعاد مقارنة بكل قوة عظمى أخرى. وعدا ذلك، فإن القوى العظمى «الجديدة» ـ وعلى رأسها الصين والهند - بعيدة جدا عن لعب دور دولي مركزي خارج نطاق مناطق حياتهما. وفضلا عن ذلك، فإن التدخل الجديد للولايات المتحدة في منطقة آسيا - المحيط الهادئ سيعزز ميل القوى العظمى الجديدة في آسيا الى التركيز استراتيجيا على مناطق حياتهما. وكمحصلة لذلك، فإن التدخل الدولي للصين والهند سيتركز على ضمان الذخائر والبضائع الحيوية لاستمرار نموهما الاقتصادي، خصوصا النفط والغاز. وتلزم الأزمة الاقتصادية العالمية القوى العظمى الرائدة ـ الصاعدة والقديمة على حد سواء - للتركيز على جدول الأعمال الداخلي فيها وهو ما سيملي عليها سياستها الدولية أكثر من أي وقت مضى.

على خلفية هذه التغييرات، فإن الأزمة الاقتصادية العالمية وآثارها تصوغ بشكل كبير أيضا الهزة السياسية التي أحاقت بدول الشرق الأوسط. وفي القرون الأخيرة، حددت القوى العظمى في السياسة العالمية ـ من الأمبراطورية العثمانية مرورا ببريطانيا وفرنسا وانتهاء بالاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة- قواعد اللعبة في الشرق الأوسط ولعبت دورا في الخفاظ على الاستقرار الإقليمي، حتى لو يتم ذلك بنجاح على الدوام. وغياب القوى العظمى التقليدية عن الشرق الأوسط يفاقم انعدام الاستقرار الإقليمي، بسبب أن ذلك يسمح بتعزيز الإسلام الراديكالي السياسي وسعي إيران للهيمنة الإقليمية. وتصعب الأزمة الاقتصادية العالمية أمر تخصيص موارد مناسبة لمجابهة التخلف الاقتصادي والاجتماعي في الشرق الأوسط.

لقد شددت الولايات المتحدة وأوروبا، بشكل لم يسبق له مثيل، نظام العقوبات وصعدت الخطاب الموجه ضد إيران بشأن مشاريعها لتطوير سلاح نووي. لكن، في ضوء إصرار نظام آيات الله والتزامهم تطوير سلاح نووي رغم الضغط الدولي، فإن هدف إحباط المشروع من دون الحاجة لخطوات عنفية، لم يتحقق بعد.

وعدا ذلك، لا تمكن الإشارة إلى تدخل ولا إلى استراتيجية غربية واضحة وفعالة لمواجهة المشاكل الأساسية في الشرق الأوسط ـ الراديكالية ومشاكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ورغم ذلك تفضل الولايات المتحدة وأوروبا الإعراب عن أملهما بمستقبل أفضل في الشرق الأوسط، عبر التحاور مع عناصر الإسلام الراديكالي، الذين يرون في الغرب كفرة مذنبون في مآسي الشرق الأوسط. وفضلا عن ذلك ، فإن الولايات المتحدة وأوروبا تدفعان ضريبة كلامية لتحقيق العملية السياسية بين« إسرائيل» والفلسطينيين عبر خطوات فارغة. ويصعب التحرر من الانطباع أن الاستراتيجية الغربية في الشرق الأوسط هي مزيج من التخلي والأمل من وجهة نظر أولئك الطامحين لتقدم وتنمية الشرق الأوسط، فإن توقيت الهزة السياسية غير المسبوقة هذه، لا يمكن أن تكون أسوأ في كل ما يتعلق بحالة موازين القوى في الحلبة الدولية.

شرق أوسط آخر:

وللأسف، فإن التقديرات« الإسرائيلية» بشأن المخاطر الكامنة في الهزة التي يعيشها الشرق الأوسط والتي أثارت انتقادات دولية ثاقبة، تزداد تحققا، فيما خابت التقديرات المتفائلة الغربية. ومقلق على وجه الخصوص نفوذ الإسلام السياسي الراديكالي، البارز جدا ليس فقط في دول تجري فيها انتخابات. وبالحذر المطلوب يمكن التقرير أنه، لا تتوفر ظروف تسمح بتحول واستقرار سياسي - اجتماعي - اقتصادي في دول جرت وتجري فيها انتخابات وتبادل سلطة، ربما عدا المغرب. وعدا ذلك، فإنه في السنوات المقبلة قد تشهد خريطة الشرق الأوسط تغييرات: إذ لا يمكن اعتبار سلامة الوحدة الإقليمية لعدد من الدول، بينها سوريا والعراق ولبنان واليمن، أمرا مضمونا. وفي معظم الحالات، سيكون لهذه التغييرات المحتملة آثار إقليمية لا بأس بها.

إن العظمة المدنية وحركات الثورة التي قادها شبان شجعان يسعون لمستقبل أفضل لدولهم تستحق الاحترام والتقدير. وواقع حقيقة أن الصراع العربي« الإسرائيلي» كاد يتجلى في أحداث الاحتجاج في الدول العربية، عدا حادث شديد معزول واحد ـ اقتحام السفارة «الإسرائيلية» في القاهرة - شهادة على تحول طرأ في صفوف الشبان المثقفين من الطبقات الوسطى المنكشفة على الواقع العالمي. لكن، بوصفهم أقلية عديمة الخبرة السياسية، أخفق شباب الثورة حتى الآن في إنجاز التغيير الذي أملوا به ومن أجله خاطروا بأرواحهم. والبديل السياسي الوحيد للسلطة الاستبدادية في العالم العربي كان ولا يزال الحركات الإسلامية، التي تتميز بأنها حركات طاهرة الكف حريصة على رفاهية المواطنين وخصوصا الطبقات الفقيرة الكبيرة في الدول العربية.

وهكذا، طوال أكثر من سنة بعد نشوب العصيان المدني في الشرق الأوسط، ليس فقط أنه لم يتحقق تقدم في المواجهة مع تحديين أساسيين إقليميين ـ التخلف والراديكالية. وفي هذين المجالين طرأ تراجع جوهري. والتحديان مرتبطان بعضهما ببعض ـ إذ لا يمكن القضاء على الراديكالية من دون تطوير اقتصادي، اجتماعي وسياسي فالراديكالية هي الأطروحة النقيض للتنمية. لكن، الولايات المتحدة وأوروبا ـ بإجرائهما حوارا مع الأخوان المسلمين ومع الحركات الإسلامية في أرجاء الشرق الأوسط - تضفيان شرعية على هذه الحركات وتحاولان إقناعها، وبالأساس إقناع نفسيهما، بأن هذه الحركات يمكنها أن تحقق إصلاحات سلطوية وإقامة الديموقراطية والليبرالية وجلب الرفاهية للسكان. ويصعب فهم كيف يمكن أن نتوقع من حركات ثيولوجية، منضبطة وتراتبية، مقادة وفق معايير متشددة من الشريعة والتي في حضنها عملت ونشأت شبكات الإرهاب، تحقيق التنمية في العالم العربي. وفضلا عن ذلك، وبافتراض أن الحكومات الجديدة في الشرق الأوسط ستتعذر عليها مجابهة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، من المنطقي الافتراض أن الأحزاب الإسلامية في السلطة ستفعل كل ما في وسعها من أجل الحفاظ على حكمها وأن تقمع بيد من حديد وباستخدام وسائل قاسية كل معارضة شعبية. وينبغي التذكر أنه لا توجد سوابق لانتقال حكم منظم في أعقاب انتخاب حزب إسلامي إلى حزب آخر في الشرق الأوسط وهناك شكوك كبيرة إذا كان هذا سيحدث فعلا في المستقبل المنظور. وفي الحوار مع الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط وإضفاء الشرعية على نشاطها، تدفع الدول الغربية المنطقة إلى الوراء وتسمح لهذه الحركات بتعميق سيطرتها أيضا على أوساط الشتات الإسلامي في الغرب.

ومصر التي تعتبر زعيمة العالم العربي، تعيش على شفا هاوية سياسية. وصراع القوى بين الحكم العسكري، الأخوان المسلمين وشباب الثورة الليبراليين لم يحسم بعد، فيما الاقتصاد المصري يعيش أزمة عميقة. ومن دون مساعدة دولية كبيرة وعاجلة، وهي غير متوفرة حاليا، ليس بالإمكان إعاشة سكان مصر الذين يتزايدون بمعدل مليون نشمة كل تسعة شهور ويمكن أن يمروا بحالة مجاعة. إن الحكومة الجديدة التي ستقام بعد انتخابات الرئاسة المصرية، تواجه مهمة تكاد تكون مستحيلة. لذلك يتوقع استمرار أحداث الاحتجاج والاضطرابات الاجتماعية، التي تجعل من المتعذر أكثر نحاح محاولات الإصلاح ـ ولو المحدود - للوضع الاقتصادي في مصر. وليس من المستبعد أن تقدم في هذه الحالة المؤسسة العسكرية ـ سواء بالشراكة مع حكومة برئاسة الأخوان المسلمين أم من دونها - على انتهاج حكم اوتوقراطي.

كما أن مستقبل اثنتين من جارات« إسرائيل» في الشمال، سوريا ولبنان يكتنفه الغموض. واثناء كتابة هذه السطور، يقوم النظام السوري برئاسة بشار الأسد، بمساعدة نشطة من إيران وحزب الله، وعلى ما يبدو أيضا بمساعدة روسية في الميدان السياسي، بكل ما يقدر عليه للبقاء في سدة الحكم. وتشير معظم التقديرات المنشورة إلى أن نهاية نظام الأسد قريبة وأن الأمر مسألة وقت. ومع ذلك، فإن غياب رد الفعل الدولي والعربي الجدي ضد الوسائل الوحشية التي ينتهجها النظام السوري منذ شهور طويلة، لا تشهد فقط على إفلاس روسي، وإنما تشكل أيضا إسنادا للنظام وتزيد عزمه على الاستمرار في محاولة قمع الانتفاضة بكل طريقة ممكنة. وعلى خلفية انعدام الوحدة في صفوف المعارضة السورية وقدراتها العسكرية المحدودة مقابل القوة العسكرية الأكبر للنظام، يتوقع استمرار سفك الدماء. ومن دون تدخل عسكري دولي، لا يبدو في الأفق، ستكون هزيمة النظام السوري على ما يبدو صعبة وأطول من المعركة في ليبيا. ومنذ نشوب الاضطرابات في سوريا، تمنح تركيا رعايتها وتقدم مساعدات مادية للمعارضة وبذلك تعمل على موضعة نفسها كعامل قوة هام في بلورة مستقبل سوريا ما بعد الأسد. لكن، لا شيء يؤكد قدرة تركيا على المحافظة على سوريا موحدة.

أما لبنان الذي يؤمن كثير من السوريين بأنه مقاطعة سورية، فسوف يتأثر مباشرة من انعدام الاستقرار ومن تبدل الحكم المستقبلي في سوريا. ومنظمة حزب الله تنقل الأسلحة، التي سبق وتم تخزينها في سوريا تخوفا من هجوم« إسرائيلي»، إلى لبنان، وبذلك يؤكد التقدير أن نهاية الأسد تقترب. وإذا استمرت حرب الاستنزاف الداخلية السورية واستبدل النظام، فقد يحاول حزب الله إظهار أن قوته لم تتأثر جراء خسارة حليف مركزي. وإظهار القوة من جانب حزب الله قد يكون داخليا لبنانيا، وربما خارجيا في مواجهة« إسرائيل»، أو على الجانبين على حد سواء.

وتشهد التقلبات الاستراتيجية التركية في العام الأخير أكثر من أي شيء آخر على انعدام الاستقرار الإقليمي. كما أن محاولة تركيا تعزيز مكانتها عبر سياسة «صفر أزمات» لم تنجح. ويضع طموحها للهيمنة الإقليمية تركيا أمام معضلات ليست قليلة تتجلى في الإمساك بالفرعين: بين أميركا وإيران. وعلى ما يبدو فإن تركيا تتحرك من منطلق الرغبة في المحافظة على نجاحها الاقتصادي الذي يمنحها مكانة في مجموعة العشرين من ناحية، وقلق من آثار مستقبل سوريا والعراق، جارتيها في الجنوب، على مكانها من ناحية أخرى.

وقبل الأزمة في سوريا ، ترسخت العلاقات الوثيقة لتركيا مع إيران على ما يبدو على سلسلة توافقات ضمنية أو علنية بشأن العراق. غير أن الأحداث في سوريا تضع تركيا وإيران على جانبي المتراس. والتقارب المستجد بين تركيا والولايات المتحدة، ولكن ليس مع أوروبا، والذي تجلى في استعدادها لاستضافة مكونات أميركية لمنظومة الدفاع ضد الصواريخ الأميركية ولحلف الناتو، ترتبط على ما يبدو أيضا بسلسلة تفاهمات بشأن مصالح تركيا وأميركا في العراق. فتعزيز العلاقات الاستراتيجية بين واشنطن وأنقرة يفترض أن يثير قلقا كبيرا في طهران. ورغم محاولات إيران التظاهر بأن «الأمور على ما يرام» في العلاقات مع تركيا، فإنها تجد نفسها معزولة إقليميا.

إن عزلة إيران الإقليمية إلى جانب تشديد نظام العقوبات الاقتصادية التي تعطي أكلها في تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي وفي عمليات التخريب الموضعية، لم تدفعها حتى الآن لتغيير مطامحها في الحصول على سلاح نووي وهيمنة إقليمية. ويجدر أن نتذكر أن المطامح الاستراتيجية هذه ليست فقط خاصة بنظام آيات الله وأن هناك جهات من المعارضة الداخلية في إيران تشاركه فيها. ولم تقنع بعد جملة الأعمال ضد إيران التي تقودها الولايات المتحدة وأوروبا قادة النظام بالتخلي عن مشروعهم النووي العسكري. وليس مستبعدا، على الأقل في نظر الإيرانيين، أنه نشأ نوع من توازن الرعب المتبادل مع الغرب، المتضرر كثيرا من الأزمة الاقتصادية العالمية، وأنه ليس صائبا الوصول إلى مواجهة شاملة مع إيران، خشية زيادة أسعار النفط. وبكلمات أخرى، القيادة الإيرانية لم تقتنع بصدق النيات والأقوال الصادرة عن قادة الولايات المتحدة بأن «كل الخيارات موضوعة على الطاولة» فعليا. وعلى هذه الخلفية يمكن أن نفهم القرارات الإيرانية باستمرار تخصيب اليورانيوم والتهديد بالتشويش على المرور في مضيق هرمز.

ومن الجائز أن العزلة الإيرانية قد تدفع إيران إلى زيادة نفوذها في العراق، وخصوصا في التجمعات الشيعية في الجنوب الغني بالنفط، وقمع الخطر البادي من شمال العراق من التنظيم الكردي العامل ضدها. كما أن إيران قد تعمق تغلغلها في دول الخليج القريبة عبر الطائفة الشيعية المحلية في البحرين والمملكة السعودية. وتتزايد الأنباء حول تظاهرات واضطرابات من جانب حركات شيعية في المملكة السعودية، خصوصا في «الإقليم الشرقي»، الذي تتركز فيه ليس فقط أغلب مخزونات النفط ومنشآت الاستخراج والمصافي السعودية، وإنما أيضا الأغلبية الساحقة من السكان الشيعة في المملكة، وهم يشكلون أغلبية السكان في هذه المنطقة.

كما أن الجارة الشرقية« لإسرائيل»، الأردن، سوف تتأثر مباشرة من التغييرات التي ستطرأ على العراق وسوريا. وقرار المملكة السعودية وشركائها في مجلس التعاون الخليجي التراجع عن دعوة الأردن للانضمام للنادي كانت صفعة مدوية. وعدا ذلك يعيش الأردن على شفا أزمة طاقة، على خلفية التخريب المتكرر لأنبوب الغاز من سيناء، وهو حيوي لشبكة الطاقة الأردنية. وعلى هذه الخلفية يمكن أن نفهم التدخل المتجدد للأردن في العملية السياسية بين «إسرائيل» والفلسطينيين كخطوة ترسيخ لمكانة الأردن الإقليمية ـ سواء مع أميركا وأوروبا أو مع السلطة الفلسطينية. وينبغي« لإسرائيل» أن تشجع هذا التدخل البناء من جانب الأردن.

ومن السابق لأوانه تقدير مدى نجاعة التدخل الأردني الجديد في عملية المفاوضات بين« إسرائيل» والفلسطينيين. وهذا التدخل لن يقود في السنة القريبة إلى تحقيق اختراق سياسي نتيجة عدة عوامل إقليمية ودولية. ومع ذلك، فإن التدخل الأردني هام على خلفية صعود قوة حركة الإخوان المسلمين في مصر، والذين يرعون حماس. وبوسع الأردن أن يمنح الجهات المعتدلة في السلطة الفلسطينية دعما سياسيا، حتى لو كان متواضعا. وعدا ذلك فإنه إذا لم تسمح الاتصالات للجانبين بإدارة النزاع وتحقيق تفاهمات معينة، فمن الجائز أنه سيكون بالوسع تجنب تصعيد سياسي وأمني، ليس مرغوبا لا ل«إسرائيل» ولا للجهات المعتدلة في الشارع الفلسطيني. وفي الواقع الشرق أوسطي، فإن التقدم المتواضع واستقرار العلاقات في الحلبة« الإسرائيلية» الفلسطينية ليسا بالأهداف القليلة القيمة.

إعداد: الجنرال (احتياط) داني روتشيلد وطومي شتاينر.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 43 / 2165399

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع عن العدو  متابعة نشاط الموقع عين على العدو   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165399 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010