الاثنين 12 آذار (مارس) 2012

فقهاء الفتنة

الاثنين 12 آذار (مارس) 2012 par د. عبد الاله بلقزيز

قلّما شهد تاريخ الإسلام فقهاء يدعون إلى الفتنة ويسوغونها باسم الشرع، فيحرّضون الناس على الناس، ويصوّرون لهم الفتك ببعضهم وكأنه من تكاليف الدين وأحكام الأمر الذي يأثَم من لم ينهض به من المسلمين. وقلما وَجِدَ من الفقهاء من وَضَع نفسه موضع رجل الدولة والسياسة، فشرع للشؤون العامة، ووضع المعايير والقواعد لإدارة السياسة والاقتصاد والحرب والعلاقات الدولية، إلا ما كان من عملٍ هو من صميم التأليف، لا من صميم السياسة، على مثال عمل الماوردي - وفقهاء السياسة الشرعية - عن الأحكام السلطانية، أو عمل القاضي أبي يوسف - وكتّاب أدبيات الخراج - عن أحكام الخراج في الإسلام.

فلقد التزم الفقهاء موقعهم كعلماء للدين، ولم يجادلوا أهل السياسة والدولة في شؤون ربعهم إلا بالنصيحة، ولا هُم سجّلوا على أنفسهم أنهم تحوّلوا إلى أصوات فتنة.

وإذا كان بعضٌ من فقهاء الفتنة، في تاريخنا، قد وُجد فعلاً، فالقاعدة أن الفقهاء أجمعوا على النأي بأنفسهم عن السياسة، وترْك أمرها لأهلها، مخافة الفتنة: تلك التي تحسسوا منها كثيراً، وعاينوا ما الذي فعلته في وحدة الأمة والجماعة منذ «الجمل» و«صفّين» و«النهروان» و«كربلاء» و«ثورة ابن الزبير» و«ثورة ابن الأشعث» وكيف مزّقتها منذ ذلك الحين. حتى إن الفقه الإسلامي لاحقه الاتهام بأنه سلم بالأمر الواقع السياسي، ولم يجادل في شرعيته، لمجرد خشيته من تعميق الفتوق والشروخ في ما تبقّى من وحدة الأمة والدولة. ولم يكن فقهاء الإسلام السابقون يأتون بدعاً حين انسحبوا من الشأن العام، وإنما كانوا يمارسون فِعْلَ وفاءٍ لتعاليم الإسلام التي كانت تنهى عن الوساطة بين الدين والمؤمنين، أي عن الرهبانية، حيث لا كنيسة في الإسلام.

هذه كانت حال فقهاء الأصول الكبار، في العهد الإسلامي الكلاسيكي: عهد التأصيل والاجتهاد والابتكار، أمّا اليوم، حيث تكاثَرَ فقهاء الفروع والحواشي والمختصرات، فقد أَطلت الرهبانية والكنيسة برأسها، وتنزل فقهاء منزلة البابوات والكرادلة، وباتت فضائيات الفتنة تَقْرَع لهم الأجراس، وتهيّئ لهم - ولخطبهم - سُبُلَ الفُشُوّ والذيوع في الناس وفجأة بات لـ «أهل السنة والجماعة»، «مرشدون روحيون» وفقهاء «معصومون» يفتون بما يشاؤون، أو بما يشاء لهم من يشاؤون من أولياء النعمة، فيُسْقِطون الشرعية عن زيد ويخلعونها على عمرو، ويُحرّضون الناس لـ «الثورة» على نظام ويسكتون عن آخر، ويحضّون المتظاهرين على التسلّح، وهم يعلمون أنهم يدعون إلى الفتنة والحرب الأهلية، ويحشرون أنوفهم في شؤون هذا البلد وذاك، فَيُمْلُونَ على أهله كيف عليهم أن يتصرفوا، وأية خطوط حُمْر عليهم أن يحترموا. ويزيدون على ذلك كله بإساءة مخاطبة المقامات السياسية وبالغلظة في القول.

ولسنا نَجْحَدُ حق «رجل الدين» في أن يقول رأيه في السياسة، فهو - في النهاية - مواطن يتمتع بالحقوق عينها التي يتمتع بها سواه من المواطنين. ولكنْ، لا حق له في أن يتحدّث فيها باسم الدين، وإنما باسمه الشخصي فحسب، أو باسم الجماعة المدنية التي ينتمي إليها (إنْ هي خولُته النطق باسمها أو نيابةً عنها). والمشكلة تعظُم حين يكون «رجل الدين» هذا - من طراز فقيه الفتنة - مُنضَمّاً إلى جماعة سياسية، وعضواً في تنظيمها الدولي، ويحاول أن يخفي انتماءه من طريق تظهير صورته كفقيهٍ يقول «رأيَ الدين»، في «النازلة». ومع أن حبل التّغليط قصير وانفضح، إلا أن فقيه الفتنة مُصِر على أنه أذكى من خلق الله جميعاً، وأن موقفه فتوى مُلزِمة.

والحال أن الفتوى غير الموقف السياسي وإن كان الجامع بينهما الاجتهاد، فالأولى اجتهاد في فهم النص والواقعة لمصلحة الدين في المقام الأول، فيما الثاني تعبير عن مصلحة دنيوية صرف. وإذا كان الموقف السياسي يقتضي الانحياز إلى فريق في المجتمع بعينه، فإن الفتوى تفترض من صاحبها أن يكون مستقلاً عن السلطة والأحزاب حتى تكون فتواه للجميع، وليست هذه حال فقهاء الفتنة!

إن إنقلاب وظيفة فقهاء معاصرين من الدفاع عن وحده الأمة إلى الدعوة إلى الفتنة والبغضاء، يمثل أشد درجات انحراف الفقهاء، وإن كان في جملتهم من حفظ دوره من التزوير، والمسخ . إنه قطيعة مرعبة مع الاجتهاد الذي كان له في عصرنا رموز ورجالات: «محمد عبده، محمد رشيد رضا، الثعالبي، ابن باديس، الطاهر بن عاشور، محمود شلتوت، علال الفاسي، حسن خالد، محمد مهدي شمس الدين ...». إنه العار الذي على العقلاء من علماء الدين أن يضعوا له حدّاً حتى لا يستفحل أمرُهُ.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2165395

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165395 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010