الخميس 29 آذار (مارس) 2012

«حزب الله» وفلسطين.. ومسألة الديموقراطية

الخميس 29 آذار (مارس) 2012 par قاسم عز الدين

من يُرِد النيل من «حزب الله» بأي ثمن، يتهمه بالكيل بمكيالين في دعمه ثورات تونس ومصر والبحرين من جهة، والنظام السوري من جهة أخرى. لكن في حقيقة الأمر أن الحزب لم يدعم أياً من الثورات العربية ولو بمظاهرة حاشدة وقت الشدّة، وخاصة في مصر وتونس. فقد ظل متمسكاً بمقولة «عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى»، وما زال. الحزب أيّد سقوط ما يربط مبارك وزين العابدين بن علي بسياسات الدول الغربية و«إسرائيل»، ولم يدعم القوى المصرية والتونسية الثورية التي أسقطت رأسي السلطتين ولم يعارض أو يؤيد القوى التي قطفت الثورتين وخطفتهما. لكن الحزب لم يؤيّد سقوط القذافي على يد الأطلسي ودول الخليج برغم تنافره مع القذافي. ولم يؤيد تدخل الأطلسي في اليمن لتنحّي علي صالح عن السلطة برغم عدم أي تعاطف مع سلطته. وفي هذا السياق لا يؤيّد الحزب سقوط الرئيس السوري بتدخّل أطلسي أو بتدخّل دول النفط وتركيا لا سيما أن الرئيس ساند المقاومة طويلاً وتعرّض لضغوط وعقاب بسبب ممانعته. إنما لا يدعم الحزب سلطة أو خروجاً عليها فهو يعتبر هذا الأمر «خلافاً داخلياً» سواء أيّد هذا وعارض ذاك. فهو يؤيد أو يعارض بناء على أثر هذا «الخلاف الداخلي» في إطار استراتيجية حرب تشنّها دول الأطلسي و«إسرائيل» لتفتيت الجغرافيا السياسية في المنطقة وتعزيز هيمنة «إسرائيل»، وهو ما يسميه الحزب «القرب أو البعد عن فلسطين».

الحزب يتعرّض لحرب أطلسية ـ «إسرائيلية» مديدة هي جزء من حرب أوسع تشمل منطقة «الشرق الأوسط». ولا يعوز الحزب الحجج والبراهين على أن هذه الحرب التي تتعرّض لها المنطقة بالنار والحديد لا يفلّها إلاّ النار والحديد. وهذه الحرب تندرج تحت عنواني «استراتيجية السلام والمفاوضات لحل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي» ثم «الملف النووي الإيراني»، وقد شملت المقاومة عام 2006 مثلما تشمل استمرار القتل والتهويد في فلسطين. وهي لم تعد مدعومة سرّاً من دول النفط والغاز التي تخطف «الربيع العربي» في ليبيا واليمن وسوريا، بل باتت دول النفط والغاز رافعة أمام «إسرائيل» لتسهيل مهمتها في ابتزاز البيت الأبيض نحو حرب مدمّرة. فهي تتوهّم الحرب المقبلة ساحقة خاطفة تحقق لها الخلاص من النظام الإيراني كما تخلّصت من النظام العراقي إثر تدمير العراق. وعلى هذه الرافعة تبتزّ «إسرائيل» البيت الأبيض لدفع أميركا إلى الحرب بدعوى «أن إيران تهدد المنطقة ولا تهدد «إسرائيل» وحدها».

لا ريـب في أن «إسرائيل» تضمن مـشاركة دول النفط والغاز في هذه الحرب بالتحريض المذهبي بين السنة والشيعة وشيطنة إيران والمقاومة. وتضمن مشاركتها في «الحرب الناعمة» بالعقوبات وبالقواعد العسكرية وتسهيل عبور الغزو، والمشاركة أيضاً في تغطية النفقات وربما مشاركة ميليشياتها بالحرب في الوكالة على الأرض في المنطقة. وهذه الحرب تستهدف المقاومة ربما قبل العدوان على إيران، لكنها ستتدحرج في المنطقة دون شك. والخلاف حول توقيت العدوان بين الإدارة الأميركية وبين «إسرائيل» ودول النفط والغاز، هو خلاف في تقدير مدى الاهتراء في المنطقة الذي يسهّل استيعاب ارتدادات الحرب. فبينما تعتقد الإدارة الأميركية أن الاهتراء لم يبلغ مداه بعد بانتظار آثار العقوبات الاقتصادية على إيران وسوريا ونتائج الحرب الأمنية «الناعمة» لتفتيت المنطقة، تظن «إسرائيل» أن الأوان قد آن.

«إسرائيل» تعتمد على أن دول النفط والغاز انتقلت من مرحلة التعايش السلمي معـها إلى مرحلة تحالف المصالح في الحرب ضد إيران والمقاومة. فدول النفط والغاز تعايشت مع احتلال فلسطين ومع القنبلة النووية «الإسرائيلية» أبد الدهر، وتعايشت مع احتلال الأراضي العربية ومع هيمنة «إسرائيل» في المنطقة، وتعايشت أيضاً مع تمريغ رؤوسها في ما يسمى «استراتيجة السلام» والمفاوضات، نتيجة تبعيتها و«تلاقي مصالح» أنابيب النفط والغاز مع دول الأطلسي. لكن دول النفط والغاز انتقلت إلى مرحلة تالية باتت تزايد فيها على دول الأطلسي، هي مرحلة خوض غمار الحرب رافعة لـ «إسرائيل». لم تحاول المقايضة بين النووي الإيراني والنووي «الإسرائيلي» لإثبات وجودها في المعادلة الإقليمية، أو مقايضة تنازلات متبادلَة مع إيران نحو حفظ الأمن القومي العربي والأمن القومي الإيراني، ولا حتى مقايضة تنازلات من «إسرائيل» نحو وقف بناء المستوطنات وتهويد القدس فضلاً عن «المبادرة العربية للسلام».... بل أخذت بمقولة « إذا كان «الإسرائيلي» عدو عدوي الإيراني، فهو صديقي في الحرب»، وهو ما تعتبره «إسرائيل» بحق برهاناً على مدى الاهتراء في المنطقة وتوقيتاً ذهبياً لاندلاع الحرب.

«حزب الله» أمام سيناريو استراتيجية حرب أطلسية في المنطقة تستهدف المقاومة قبل أو بعد إيران. وأمام تحالف مصالح بين دول النفط والغاز و«إسرائيل»، يستعجل اندلاع الحرب لدى أميركا والأطلسي. وفي هـذا السياق تخوض دول النفط والغاز معركة رافعة لـ «إسرائيل» من جهة ومعركة الركوب على «الحريات وحقوق الإنسان» في البلدان العربية من جهة أخرى، على اعتبار أن لها طول باع في هذا المجال وتجارب عريقة! وفي هذه المعركة الثانية تستكمل المعركة الأولى، فهي تحاول أن تسوّق تعلّقها بالحريات وحقوق الإنسان كي تبعد شبحها قدر المستطاع عن شعوب الخليج، لكن همها الأساس هو الحرب ضد إيران والمـقاومة. فدول النفط والغاز لا تستطيع محاربة النفـوذ الإيراني والمقاومة بغير الحريات وحقوق الإنسان. ولا تستطيع تبرير تبعيتها العارية لدول الأطلسي وتغطية حلفها مع «إسرائيل» في الحرب ضد إيران والمقاومة، بغيرهما. فضلاَ عن ذلك يوفر لها الركوب على الحريات وحقوق الإنسان إجهاض أهداف الثورات العربية في وصول المعارضات السلفية والإسلامية والليبرالية القريبة منها، إلى السلطة. ويوفر لها كذلك مكاسب سياسية واقتصادية «رخيصة»، كأن تستطيع قطر على سبيل المثال شراء نفوذ زعماء القبائل في ليبيا والاستحواذ على تسويق الغاز وشراء برميل النفط بأقل من نصف سعره في السوق. وفوق طبق الحلوى هذا يوفر لها الركوب على الحريات ولادة «كيانات» طائفية وعرقية وإثنية على شاكلة «دولها» وفي فلكها السياسي.

المراهنة على الحريات المدنية والفردية، بمعزل عن بقية الحقوق الوطنية والحقوق الإنسانية الديموقراطية، لا تؤدي إلى تحقيق الحريات المدنية والفردية كما يحلم آكلو الطعم. إنما تؤدي إلى تحرر الجماعات العصبية من قيود الدولة الناظمة للمصالح الوطنية العليا، وإلى إطلاق حرية قلّة من الأفراد المرتبطين بالتبعية للسيطرة على السلطة وعلى المرافق العامة والأراضي والتجارة والمال والأعمال. فهي فرع من أصل «نيوليبرالي» يعتبر ماهية الإنسان مجرد مستهلك في السوق يبحث عن أفضل الأسعار بأرخص الأسعار. هذا الإنسان «النيوليبرالي» لا حاجات وطنية له ولا حاجات اجتماعية ولا حاجة له لدولة قادرة على الدفاع عن الأمن القومي أو السياسات الخارجية والاقتصادية ـ الاجتماعية. إنما تنحصر حقوقه الطبيعية في «تعددية ثقافية» إثنية وطائفية وعرقية وقبلية ينبغي أن تحفظها له الحريات المدنية والفردية في «كيانات» ينتخب ممثلوها بحرية تامة. لذا تسير الحريات المدنية والفردية «النيوليبرالية» متلازمة مع حريات السوق والتجارة والاستثمار الأجنبي المباشر، ومع إلغاء دور الدولة الناظمة للحقوق الإنسانية الديموقراطية والناظمة لسياسات الدفاع عن الأمن القومي والمصالح الوطنية العليا.

وعلى أرض واقع «الربيع العربي»، ما سهّل وصول أهل الردة إلى السلطة بعد ثورة شعبية في تونس ومصر، هو مراهنة القوى الثورية على الحريات المدنية والفردية لتحقيق أهداف الثورة، فصبّت الماء في طاحونة قوى سلفية وإسلامية وليبرالية قطفت الثورة وخطفتها. القوى الثورية تشبّعت في المراهنة على الحريات متوهمة أنها تؤدي إلى الديموقراطية أو أنها الديموقراطية ذاتها. لم تقارع خصومها من النظام القديم ومن أهل الردّة في الحقوق الوطنية وحق الدفاع عن الأمن القومي. وبينما دلّت الموجة الثورية على وحدة الجغرافيا السياسية العربية من تونس إلى سوريا، علقت قوى الثورة في فخ الوطنية الشوفينية وأهملت وحدة شعوب المنطقة للتحرر من نموذج التبعية إلى مصالح دول الأطلسي في الأمن القومي و«استراتيجية السلام» وفي الإصلاحات الهيكلية والديون والأمن الغذائي وغيرها. لم تقارع خصومها في صلة تحرر كل بلد عربي بتحرير فلسطين وفي صلة الحقوق الديمقراطية بالتحرر من التبعية. ولم تقارعهم في حقوق الفئات الشعبية التي ضحّت بشبابها في الثورة من أجل الكرامة في حق العمل والأرض والغذاء والمرافق العامة.... راهنت على الحريات المدنية والفردية لتحقيق أهداف الثورة، فخدمت خصومها من القوى السلفية والإسلامية والليبرالية في قطف الثورة وخطفها. فحين يكون الخيار في صناديق الاقتراع بين حريات دوغمائية طارئة وبين دوغمائيات متأصلة، لا يصعب تفسير فوز أهل الردّة. وأهل الردة الفائزون في قطف الثورة وخطفها تسابقوا زرافات ووحدانا إلى «دافوس» ينهلون من العلم في التنمية والإصلاحات قيَماً مشترَكة بين الديمقراطيات العريقة والديموقراطيات الناشئة على قول الشيخ راشد الغنوشي. وحين يتحمس منصف المرزوقي للعمل الوحدوي في المغرب العربي، يتمخّض حماسه عن تنسيق أمني بين وزراء الداخلية والمخابرات لحماية أمن أوروبا كأنكِ «يا سلمى لا رحتي ولا جئتي». أما الإسلاميون فيأخذون بعبرة «تمسكن حتى تتمكّن»، وللصدفة البحتة يتمسكنون أمام دول الأطلسي و«إسرائيل» ودول النفط والغاز، لكنهم يتمكنون ولا يتمسكنون أمام إيران والمقاومة وأمام حقوق الفئات الشعبية التي شاركوها للوصول إلى السلطة. يتمسكنون في نصرة فلسطين حتى يأمر الله أمراً كان مفعولا، لكنهم يتمكّنون من تقليص حريات الفئات الأكثر تهميشاً واضطهاداً وحقوق العاملين والمنتجين. فمصلحة «الأمة»، على رأيهم، هي اليوم مصلحة كبار القوم في «الأمن والاستقرار» لتسهيل حرية الاستثمار وحرية التجارة والبورصة والمال والأعمال والاستيلاء على الأراضي بالتبعية إلى مصالح دول الأطلسي، وليست مصالح الأمة في «المطالب الفئوية» للدهماء، بل على هؤلاء المؤمنين الصابرين أن يدعوا بتوفيق كبار القوم الصالحين لينالوا منهم الصدقات والحسنات.

«حزب الله» في كل هذه المتغيرات الدراماتيكية المتسارعة لا يدعم هذا أو يساند ذاك. وعندما سمى الحزب رئيس المجلس الوطني السوري بالاسم، فلأن رموز المجلس زايدوا على أهل الردة في التحريض على المقاومة وفي الولاء للأطلسي و«إسرائيل». وهذا الأمر استدعى تدخّل «المفكر العربي» عزمي بشارة لتأنيب تلاميذه على الملأ بالصوت والصورة. الحزب يعتبر هذه المتغيرات «خلافاً داخلياً» ينبغي حلّه بالحوار والتفاهم خوفاً من أن تستغلّه «إسرائيل»، ويتمسّك بمقولة «عدم التدخّل في الشؤون الداخلية» وهي نقطة ضعف الحزب في مواكبة المتغيرات. هذه المتغيرات هي انتقال دول النفط والغاز من التعايش السلمي مع «إسرائيل» إلى خوض غمار الحرب رافعة لـ «إسرائيل» ضد المقاومة والمنطقة. وهي ركوب الأطلسي ودول النفط والغاز وأهل الردة على الحريات الفردية والمدنية لإجهاض الثورات العربية وتفتيت المنطقة في «كيانات» مذهبية وقبلية وعرقية لا تضاهيها حرب داحس والغبراء، وعلى الضفة المقابلة من هذه المتغيرات قوى شبابية ثورية وفئات شعبية واسعة على امتداد البلدان العربية تريد أن تتقرّب من فلسطين في حقوقها الوطنية وفي كرامتها وحقوقها الاجتماعية والإنسانية، فتتعرّض للقتل ولا تجد نصيراً.

السلطة مرتاحة لقتل الدهماء، والأطلسي ودول النفط والغاز وأهل الردة مرتاحون لتحضيرهم حطب وقود في حرب مقبلة ومذابح عصبية إلى ما شاء الله. ارتياحهم يقلقنا!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2165451

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165451 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010