الأحد 8 نيسان (أبريل) 2012

صاَمتْ والإفْطارُ حُرية

الأحد 8 نيسان (أبريل) 2012 par خيري منصور

قَديماً قِيلَ تَجوُع الحرة ولا تَأكل بثدييْها، لكن الأحفاد أضافوا إلى الأسلاف .. تصوم الحُرة ولا تَفْطر إلا على الحرية، ورغم أن مناسبة هذه التداعيات الأسيرة الفلسطينية الحُرة هناء شلبي التي صامت أربعين يَوْماً عن الطّعام، إلا أن هذه المرأة ليست النّموذج الوحيد من سلالة عربيّة عَرَفتْ مُنْذ البَدْء نِساءً نافَسْن أعْتى الرّجال على المُقاومة، وَبَسالة الموقْف عندما يتعلق الأمر بالوطن والحريّة. والأسيرات الفلسطينيات في زنازين الاحتلال لسن مُجرّد رقم في الأحد عشر ألف أسير وأسيرة. فلكل واحدة منهن سيرتُها الكفاحّية، وَمِنْهن صغيرات في السن لكِنّهن طاعِناتٌ في المُقاومة، ومَنْ يَكْسِر أو تَكْسِر قضبان الزنزانة باتجاه نَهارٍ حُرّ، لا يَنْسى ولا تَنْسى مَنْ ظلّوا هناك، وعيونهم تخترق الجدران لِتَرْنو إليْنا جميعاً من الماء إلى الماء. لهذا يُكرّس الأسْرى الأحرار ما تَبقّى من أعْمارِهم لِمَنْ تركوهم وراءَهم لكنّهمْ لم ينسوهمْ، وإن كان الاحتلال الغاشم قد اسْتَطالَتْ أنْيابُهُ الفُولاذية وَتَمدد إلى أسرى محررّين كي يغتالهم جسدياً بعد أن أخفق في اغتيالهم معنوياً ووطنياً، وما كَتَبهُ ذات ظَهيرة انْدلَعَ فيها الأحرار شاهرين صُدورهم الشاعر الباقي محمود درويش، رددتْه الأسيرات مراراً وراء القبضان .. وهو:

وأقْسِمُ من رموشِ العَين سَوْفَ أخيطُ مِنْديلاً

وَأنْقُشُ فَوْقَهُ شِعْراً لِعَيْنيكِ ..

ثم يضيف:

وباسِمك صِحْتُ في الوديان

كُلي لَحْمي إذا ما نِمْتُ يا ديدانْ

فبيض النّمل لا يلد النسور

وَبَيْضة الأفْعى يخبيء قِشْرها ثُعبانْ

تلك كانت الرسالة والوصّية معاً، من شاعر الأرض الذي أحسّ مبكراً ومنذ أهَدْى قصيدةً إلى فدْوى طوقان، أن المرأة الفلسطينية هي الرقم الوطني الصعب في المعادلة كُلها، بِوَصْفِها أُماً تُودع أعز الأَبْناء وأُخْتاً تُطرز حتى الهواء بما يسيل من عينيها، وزوجةً تَصْبر وَتُربّي في غيابِ الزوج السّجين أو الشهيد.

وحين يستقبل الناس حُرةً عائدة بعد مُكابدَاتٍ يَصْعبُ على الجِبال احتمالها بمثل هذه الحفاوة، فكأنهم يقولون هذا هو الرّد الحضاري والإنساني على ثقافة الوَأد المزدوج جسدياً أو نفسياً. فالمرأة العربية الآن لم تعد تلك الدمية التي وصفها هنريك إبسن، ولا تاء التأنيث التي حولها مَنْ أساؤوا فهم هذا الكائن إلى قَيْدٍ في الماضي العربي البعيد، لم تكن المرأة تقاسِم الرجل حُمُولةَ الحَرْب وأعْباء الحياة فقط، بل كانت تُوَدعهُ وهي تَعدهُ بفرش النمارق إذا عادَ مُنْتصراً، وَتُنْذِرهُ بالفراق إذا عاد منكس الرّاية. وَحبّذا لو تفعل الحفيدات ذلك أيضاً، كي يُعاد إلى مفهومي الذكورة والأُنوثة المعنى الدقيق خارج التصْنيف الجِنْسَويّ.

هناء واحدة من سلالة لا تنتهي، وَتَرثُ العِبْءَ جيلاً بعد جيل، ما دام الغزاة يتكررون جيلاً بعد جيل، فهذه الأرض العربية بكل جُغْرافياها الرسُولية لم يَسْمَحْ لها التّاريخ بيوم عُطْلةٍ واحد، فقد أَحْصَتْ تقاويمها بعدد غُزاتها ثم بعدد مَنْ استشهدوا كي تبقى هذه الأرض بترابها ورمالها ومائها وهوائها تتحدث بالعربية الفُصحى.

والأسيرات العربيات لَهُن نِصْف حَظ الذكَر من ميراث المال، لكن لَهُن ضِعْف حَظهِ من الحَفاوة والعِرْفان، لأنّهن كَسَرْنَ قَيْدَيْنِ معاً وليس قَيْداً واحداً، وقَدمْنَ البُرْهان بعد البرهان مَيْدانياً وبالدّم على أنهُن حفيدات نساءٍ اجَتَرَحْن الفُروسية في أقاصي الأنوثة.

وما يقال أحياناً عن شؤون المرأة العربية في السّلم وعن شُجونِها في زمن الاشتباك، به الكثير من الافْتراء على نماذِج مِنْهن قَدْ لا يكُون لَهُن مثيل. وها نَحْنُ نتعلّم مِنْهُن كَيْفَ يَصُوم الإنسان ولا يَفْطرُ إلا على الحُرية، ولا يموت إلا واقفاً كالأشجار.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2165779

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165779 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010