الاثنين 9 نيسان (أبريل) 2012

الجريمة الحقيقية لغونتر غراس

الاثنين 9 نيسان (أبريل) 2012 par د. نهلة الشهال

ليست جريمته أنه انتقد «إسرائيل». كثيرون يفعلون، وبعضهم من قامة غراس ومكانته. بل جريمته أنه ألماني انتقد «إسرائيل»، وكأن كل الألمان، وحتى نهاية التاريخ، أحفاد هتلر، وهذا بذاته منطق عنصري فج. ثم أن أهم ما في الحدث ليس ما قاله الأديب العملاق، مما يعرفه الجميع، بل ردة الفعل الصادرة من «إسرائيل». فعند تقاطع هذه بتلك يقبع واحد من أهم مفاصل الفكر الصهيوني: وضع جريمة الإبادة التي لحقت باليهود في الحرب العالمية الثانية في موقع الاستثناء المطلق، الذي لا تجوز مقارنته بأي إبادة أو مجزرة أخرى في التاريخ والجغرافيا، (رغم وجود جرائم إبادة فظيعة، لم يعترف أصلاً بصفتها تلك، وواحدة منها تأسست عليها أمريكا البيضاء). ثم مد تلك الاستثنائية على «إسرائيل» استطراداً، بفضل ميكانيزمات يفترض أنها استدلالية (وإن كانت في الواقع المجرد، من طبيعة استنسابية جداً).

فتكريس تلك الاستثنائية أساسي في الفكر الصهيوني، لأنه يبرر ليس فحسب قيام «إسرائيل»، بل وخصوصاً إعفاءها من كل محاسبة مهما ارتكبت. وهذا في حد ذاته مذهل، لأنه هو الآخر يجافي الوقائع التاريخية المجردة، ويكشف مبلغ «الهندسة» التي حظيت بها عملية إنشاء «إسرائيل»، كما «سر» مسلكها مذاك وحتى اليوم. فقد استخدمت الإبادة النازية كحجة دامغة وداهمة تبرر إنشاء «إسرائيل»، بينما هي كانت في الحقيقة تكريس لفعل سابق على تلك الإبادة، وكان شبه مكتمل عند وقوع الحرب الثانية. أن فكرة «وطن قومي لليهود» أسبق من الحدث النازي، واختيار فلسطين كمكان لتحقيقها ارتبط بالمخططات الاستعمارية لترتيب المنطقة والسيطرة عليها. وجاء وعد بلفور يكرس مفاوضات ومخططات مست السلطنة العثمانية نفسها، ثم هاجس السيطرة على مصير «تركتها» منذ اعتبارها «الرجل المريض».

ولهذا، فيمكن مقاربة «إسرائيل» كنموذج للبناء الذي تم من فوق، وتدخلت الايديولوجيا والبروبغندا وغسل الدماغ وقوة الإعلام.. الخ. في تصنيعه ثم تنزيله. لقد تم لي عنق كل المعطيات، وإعادة صياغتها وتأويلها لخدمة رواية معينة رغم أنها ليست قديمة حتى تتحول الى أسطورة غامضة وملتبسة. كما تمت حراستها بمحرمات ومقدسات لصونها قدر الإمكان. ثم جاءت الآلة العسكرية «الإسرائيلية» الشرسة لحماية هذا البناء المصطنع. وكان شرط استمرار اشتغال كل ذلك احترام التواطؤ الذي أحيط به. لا ضير من نواح وشكوى الفلسطينيين الذين سلبوا أرضهم، فهم من فئة المستضعفين الذين يُكتب التاريخ بتجاهلهم. أما أن يخرج ألماني ويقول أن «إسرائيل» خطر على السلام في العالم، وأنه هذا «ما ينبغي أن يقال، ما قد يفوت أوانه في الغد»، وأن يشرح أنه يقول ما ينبغي أن يقال لأنه ألماني، وبهذه الصفة فهو يحمل وزر ذنب لا يطاق، يقر به، ولكنه لا يريد إضافة ذنب جديد عليه. فهذا لا يحتمل! وقد كتبت القصيدة لأن الحكومة الألمانية قررت تسليم «إسرائيل» ثالث غواصة من نوع «دلفين» قادرة على حمل رؤوس نووية.

هي المقارنة إذا بين «ذنبين» ما دفعت الأصوات «الإسرائيلية» الى الجنون. إيغال بالمور، الناطق باسم الخارجية، لم يعرف عنه شغف بالأدب، ولا هو مؤهل لممارسة النقد الأدبي، ناهيك عن تعريف الكياسة في السلوك، يعتبر القصيدة «رديئة وتفتقد للباقة». وجهة نظر، ولا بأس. ولكن

توم سيغيف، وهو مؤرخ «إسرائيلي» يفترض به أنه حاول في وقت من الأوقات أن يكون مجدداً، وأن يكتب تاريخاً آخر غير ذاك المَروي والمزور برأيه، والذي لم يكف عن إدانة السياسة «الإسرائيلية» بحدة لافتة، انتقد هو الآخر غراس بشدة. صحيح أنه نزهه عن تهمة معاداة السامية (التي خشي غراس في قصيدته أن تُلصق به ولكنه اعتبر ذلك لا يبرر استمراره في الصمت)، ولكنه وصفه بـ «المثير للشفقة»، وهي طريقة ربما كانت «لبقة» للقول بأنه خرِف. الأهم أن سيغيف اعتبر المقارنة بين «إسرائيل» وإيران «غير عادلة»، لأنه «على عكس إيران، لم تهدد «إسرائيل» أبداً بإزالة دولة ما عن الخارطة». ها العالم المؤرخ يخون علمه وضميره معاً، لأن «إسرائيل» أزالت شعباً عن الخارطة، وهي تهدد يومياً من يعاديها بأشكال من الإبادة، منها القول مؤخراً بتدمير البنى التحتية للبنان في حال تعرضها لهجوم عسكري من «حزب الله»، ومنها نواياها بضرب إيران بهجمات نووية أو تقليدية، منعاً لتطور لا تريده.

وأما بيت القصيد، أي الكلام الفج الفاضح للمنطق الذي يسنده، فيمكن الوقوع عليه لدى شاي غولدن، كاتب العمود في صحيفة «معاريف»، الذي يقر بأن أقوال غونتر غراس «لا تشير بالضرورة الى معاداة السامية، ولكن الى رفضه تحمل مسؤولية جرائمه التاريخية».

واضاف: «أتفق تقريباً مع كل ما قاله، لكنه ببساطة لا يمتلك الحق التاريخي او الأخلاقي لقوله». لماذا؟ لأن غراس «يخون مبدأ التكفير الذي يجب على كل ألماني الالتزام به دائماً عند الحديث عن «إسرائيل» واليهود»! يتجاهل غولدن عمداً على الأرجح أن غراس تكلم أخيراً، وفي «نقطة حبره المتبقية»، تحديداً لأنه مسؤول أخلاقياً عن ذنب لا يغتفر كما يقول هو نفسه. وأن تلك المسؤولية هي ما يجيز له تحديداً الكلام. فالأديب الألماني يرى تاريخ الإنسانية متصلاً متفاعلاً، بينما يرى الصهاينة أنهم ورثة عذابات اليهود (مما لا يرتضيه معظم هؤلاء رغم سطوة وهيمنة الدعاية الصهيونية)، وأن تلك العذابات المصادرة على هذا النحو، تطلق يد «إسرائيل» كيفما تشاء بلا مساءلة. وهذا منطق انتهت صلاحيته، بدليل خروج غراس على صمته.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2177812

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2177812 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40