الثلاثاء 17 نيسان (أبريل) 2012

أصوات من الجولان

الثلاثاء 17 نيسان (أبريل) 2012

بين قرية مرج السلطان على طريق دمشق ـ حمص، ومحلة القدم على طريق دمشق ـ درعا أتيح لنا أن نلتقي عدداً من النازحين الجولانيين التائقين إلى العودة إلى ديارهم في الجولان. حكايات النازحين لا تنتهي، إنها حكايات الحنين الدائم إلى موطن تناءى كثيراً، إنها قصص النزوح القاسي وتجربة العيش خارج المكان. في ما يلي أربعة أصوات تحدثت عن تجربتها المرة.

[rouge]1 ـ محمد جمعة عيسى [/rouge]

أنا من مواليد 1945. لا أتذكر فلسطين البتة. لكني كنت أسمع من والدي أن العلاقات بين سكان فلسطين وسكان الجولان كانت جيدة جداً. كانت هناك حركة تجارية بين الجانبين ومصالح وثيقة بين المواطنين في فلسطين وسوريا. سكن الكثير من الفلسطينيين في الجولان. هم جاؤوا إلينا لأننا الأقرب إلى فلسطين، وتشاركنا معاً في المصير نفسه.

معظم الفلسطينيين في الجولان من منطقة الغوير القريبة من طبرية، ومن نواحي الحولة. في البطيحة سكن نحو مئة عائلة فلسطينية، واندمج أفرادها بالمجتمع سريعاً، فنحن من البيئة نفسها. عملوا في الزراعة وتربية المواشي وزراعة الحبوب وشيدوا بيوتاً من الحجر والطين. سبقنا الفلسطينيون في التعليم، بل نحن تعلمنا في مدارسهم. فوكالة الغوث (الأونروا) أنشأت مدارس للفلسطينيين، ولم يكن لدينا مدارس كافية، فاستفاد أبناؤنا من هذه المدارس. أنا نفسي تعلمت في مدرسة اليازور وهي تابعة لوكالة الغوث.

عمل الفلسطينيون، في البداية، في الأرض. والأرض كانت تحت تصرف المالكين. وهؤلاء أعطوا الكثير من الأراضي للاجئين من فلسطين للعمل عليها بنظام المرابعة. نحن أبناء البلد لم نمتلك أرضاً إلا عندما صدر قانون الإصلاح الزراعي بعد قيام الوحدة المصرية ـ السورية عام 1958. وحتى سنة 1966 لم تستكمل عملية تمليك الأراضي. وفي سنة 1967 نزحنا ولم يعد هناك مجال لتوزيع الأرض.

كان من كبار الملاكين فؤاد اليوسف وهو كردي حفيد عبد الرحمن اليوسف. وكان أبو يوسف اللوباني، وهو فلسطيني، من كبار مستثمري الأراضي. ومنذ وصوله راح يستأجر الأراضي من فؤاد اليوسف ويستثمرها. وثمة آخر اسمه عبد المجيد قوطرش، وهو كردي أيضاً. فؤاد اليوسف تملك الأراضي بوضع اليد. ولما جاء الإصلاح الزراعي اكتشفوا عدم وجود سندات تمليك لديه. عند ذلك استولت الدولة على الأراضي ووزعتها على الفلاحين. أما الفلسطينيون فلم يتملكوا أرضاً، لكن الدولة منحتهم أراضي للعمل فيها.

كنا نسبح في طبرية ونصطاد السمك. لم أذهب إلى مدينة طبرية بل إلى بحيرة طبرية. ويومياً كنا نذهب إلى البحيرة، وبيتي لا يبعد عن البحيرة أكثر من ألف متر. والأرض التي تفصلنا عن البحيرة كنا نزرعها نحن أهل البطيحة بالحمضيات والفاكهة والحبوب وجميع أنواع الخضار. وتوقفنا عن الذهاب إلى البحيرة عندما نشبت المعارك في تلك المنطقة في الستينيات. وما عاد في الإمكان الذهاب لاصطياد السمك. كنا نصطاد السمك ولنا الحرية الكاملة في الصيد في البحيرة ونزرع الأراضي أيضاً.

كانت أراضينا تمتد حتى الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية، وكنا نأخذ المياه ونسقي الأرض ولنا أكثر من سبع طواحين على المياه في منطقة الطواحين. وهذه المياه كنا نجرها من نهر الشريعة أي نهر الأردن. حتى أن منطقة البطيحة كلها كانت ترتوي من قناة اسمها «قناة العفريتية» وطولها أكثر من 20 كيلومتراً. وفي إحدى المرات أرادت «إسرائيل» تحويل نهر الشريعة إلى منطقة النقب فحدث إطلاق نار واشتباكات. وكانت «إسرائيل» هي البادئة دائماً.

لم تكن ثمة منظمات فدائية إلا بعد الستينيات. كانوا قلة واسمهم «المجاهدون». وأذكر من هؤلاء المجاهدين حسين علينا وقد لجأ إلى البطيحة من فلسطين وكان مجاهداً في حرب 1948. لم نسمع عن «فتح» إلا بعد سنة 1965. لكن لم يكن لها أي نشاط في تلك الفترة. بعد نزوحنا إلى دمشق في سنة 1967 تعرفت إلى منظمات المقاومة كالجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية وغيرهما. لكن، في البطيحة، لم يكن هناك نشاط فدائي واسع قبل العام 1967.

في 5 حزيران/يونيو 1967 حصل قصف عنيف على قرى الجولان. بدأ «الإسرائيليون» يقصفون المعسكرات السورية في الجولان، ثم راح القصف يطاول المنازل وتجمعات المدنيين. وخافت العائلات على أبنائها فبدأوا النزوح. في البداية خرج الناس إلى المرتفعات مخلفين وراءهم منازلهم، ولجأوا إلى الأحراج والمغاور وبساتين الزيتون. نام الجميع في العراء حتى اليوم الثاني. وفي اليوم الثاني وبسبب الحرب النفسية التي بثتها القوات «الإسرائيلية»، ولعدم وجود الوعي بضرورة التشبث بالأرض، سارت الجموع نحو حوران هرباً من أوامر الجيش «الإسرائيلي» التي كانت الإذاعة «الإسرائيلية» تبثها مثل: «إرفع الراية البيضاء».

كان إخواننا الفلسطينيون يحدثوننا عن مذبحة دير ياسين والمذابح الأخرى التي جرت في فلسطين. وكان الجيش «الإسرائيلي»، في مخيلتنا، جيشاً لا يتورع عن ارتكاب المجازر. ولهذا خرج الأهالي إلى الأحراج مؤقتاً لأنهم ظنوا أنهم سيعودون في الليل. لكنهم خرجوا ولم يعودوا البتة وبقيت حاجياتهم داخل بيوتهم. هناك بعض المواطنين في منطقة «الديابات» أو «الدردارة» تشبثوا بمنازلهم ولم يغادروا، لكن «الإسرائيليين» أجبروهم على الرحيل إلى خارج القنيطرة. وبعض سكان البطيحة ظلوا في أراضيهم، فاعتقلهم الجيش «الإسرائيلي»، وأعدم جميع من كان يملك بنادق 36 النصف آلية وهي عائدة للجيش الشعبي.

قبل الجولان كانت القضية الفلسطينية. فإذا عاد الجولان إلى السيادة السورية ولم تحل القضية الفلسطينية، فلن يكون هناك سلام أبداً. وحتى لو جرى توقيع السلام فأنا أتوقع ألا يكون سلاماً أبدياً، فلا بد من تحرير فلسطين، وهذه مهمة أجيال المستقبل. أما أن يتحقق سلام دائم قابل للحياة فهذا أمر لا أتوقعه.

[bleu]1 ـ محمد جمعة عيسى من مواليد قرية البطيحة المشرفة على بحيرة طبرية. [/bleu]

[rouge]2 ـ عزت أيوب [/rouge]

يوم الاحتلال في 5/6/1967 كنت في مدينة دمشق أتقدم لامتحانات دار المعلمين. لقد فصلنا الاحتلال عن أهلنا وعن بلدنا وعن أملاكنا. لا أنسى بلدتي مجدل شمس أبداً. ففيها عشت أيام طفولتي وهي أحلى أيام الإنسان. كانت أسعد اللحظات لديّ عندما أعود إلى بلدتي في الصيف أو أقضي فيها العطلة، فأنزل إلى بساتينها وأعمل في الأرض وأعيش مع أقربائي وأصدقائي. هذه أجمل لحظات حياتي، وجميع ذكرياتي كانت فيها.

أنا مزارع عملت في البساتين وسرحت بالأبقار والماشية، ولعبت بالثلوج وتنزهت في سهول الجولان ووديانه وتلاله. وكم أكلت من طعام الشتاء كالدبس بالثلج والذرة المسلوقة. وها أنا اليوم في كهولتي لا أملك إلا أن أتذكر الطفولة والبلدة وأزقتها وبيت أهلي وغير قادر على زيارة هذه الأماكن. ثمة أمور كثيرة أنساها، لكن هل أنسى طفولتي، ومخيلتي معلقة في أرضي التي لم أرها منذ 45 سنة؟ لو أعطيتني الآن قلماً وورقة فسأرسم لك مجدل شمس القديمة بيتاً بيتاً وشارعاً شارعاً وزقاقاً زقاقاً. ما زالت البلدة في مخيلتي كأنني أعيش الآن في منزلنا الحجري وسقفه الترابي حيث كنا نجرف الثلج في الشتاء ونلعب به.

عشنا في المجدل مع إخواننا المسيحيين كالإخوة. وبعضهم هجر المجدل إلى دمشق لأسباب متعددة. ولكن، حتى اليوم، عندما نلتقي نبكي. ونحن لا نقيم فرحاً أو أي مناسبة إلا ندعوهم إليها وهم كذلك. وأسعد اللحظات لدينا أو لديهم عندما نجتمع معاً. لم نعرف التفرقة الطائفية أبداً. وفي المجدل اليوم، تحت الاحتلال، بعض العائلات المسيحية يتقاسمون مع أهلنا المصير نفسه والحياة نفسها.

المسيحيون في المجدل كانوا يعدون نحو نصف السكان أو أقل قليلاً. لكنهم، بالتدريج، صاروا يقيمون في القنيطرة ويفتتحون لهم محال ومصالح حتى أصبحوا قلائل. سجلاتهم الشخصية ما زالت في مجدل شمس. ولاحقاً جاؤوا إلى الشام وسكنوا فيها. ولكن عندما نلتقي نعود إلى أيام الأربعينيات والخمسينيات قبل الاحتلال ونتذكر كم كانت تلك الأيام جميلة.

الفلسطينيون في الجولان سكنوا القطاعين الأوسط والجنوبي. أما في القطاع الشمالي فأعدادهم محدودة جداً. قبل 1948 كانت التجارة بين فلسطين والمنطقة مزدهرة، والمسافة عن الحدود الفلسطينية لا تتعدى الساعة على الدواب. ولدينا روابط عائلية وثيقة بالجليل في فلسطين. لكن منذ سنة 1948 انقطعت هذه العلاقة بسبب احتلال فلسطين لتعود فتتجدد سنة 1967 مع احتلال الجولان وفتح الحدود. لقد توحدنا تحت الاحتلال ثانية.

يوم 5 حزيران/ يونيو 1967 سمعت خبر اندلاع الحرب. لم ألمس أي بوادر للحرب قبل ذلك. كنا أنهينا امتحانات دار المعلمين، وبدأت العمل الصيفي في قطاف الكرز بالشام. كنت، كأمثالي، أعمل في الصيف لأعيش في الشتاء. لم يصدق أحد، للوهلة الأولى، أخبار الحرب. وعندما بدأ الناس يتوافدون على دمشق كالموظفين والعسكريين ونساء العسكريين بدأت الأخبار تتجمع والكارثة تتضح. خرج البعض ولم ير جندياً واحداً يدخل المجدل.

تقع المجدل على سفوح جبل الشيخ، وبين بلدة مسعدة والمجدل خمسة كيلومترات. وهذه الكيلومترات الخمسة لم ينتشر فيها الجيش «الإسرائيلي» في الأيام الأولى من الحرب. وبعد 3 أيام من احتلال مسعدة دخل الجيش «الإسرائيلي» المجدل. هنا وقف المشايخ الكبار في البلد أمام الناس وقالوا إن الحرم الديني سيفرض على كل واحد يخرج من بيته. نحن جماعة لدينا مثل يقول إن الولد والأرض والروح يعادلون بعضهم. ونحن لا نريد الخروج والتشرد. وهؤلاء المشايخ الكبار كان لهم الفضل الكبير في تثبيت الناس في أرضهم. وليت الجميع تشبثوا بأرضهم.

في سنة 1984 سافرت إلى اليونان وجاء أخي والتقينا. وعندما عاد إلى الجولان استدعته المخابرات «الإسرائيلية» إلى التحقيق وأهين وعذب وسجن. نحن لا نستطيع أن نلتقي على أرضنا ونحتاج إلى أرض أجنبية لنتلاقى. طيلة هذه المدة رأيت والدي ووالدتي مرتين. توفي أخي ولم أره. التقيت والدتي في إحدى المرات في الأردن. وفي أثناء اللقاء جاءني خبر وفاة شقيقي. فغادرت والدتي إلى الجولان وعدت أنا إلى دمشق. هذا مثال على المآسي التي نعيشها. إن جدار برلين كان أرحم. فالناس في برلين كانوا يلتقون عند الجدار في فترة الأعياد. لو كان أهلي في أميركا لركبت الطائرة وذهبت إليهم، وهم بدورهم يمكنهم أن يركبوا الطائرة ويأتون إليّ، غير أننا مكرهون على السير 75 متراً أنا وزوجتي وأولادي لكي نصل إلى الشريط الفاصل، وهناك لا أستطيع أن أرى أحداً من أهلي، بل يمكنني أن أناديهم بمكبر الصوت وأخبرهم عن أحوالي وهم يفعلون الشيء نفسه. نحن نتخاطب بالمكبرات ولا يرى بعضنا الآخر، مع العلم أن المسافة التي تفصلنا لا تتجاوز 200 متر.

حصلت أكثر من حادثة مأساوية في أثناء التخاطب بالمكبرات. أحدهم كان يتحدث إلى والدته فسقطت ميتة أمامه ولم يتمكن من حملها أو توديعها. هذا حدث مع سليمان بدر أبو صالح: ماتت أمه قبالته وهو أمامها لم يتمكن من أن يفعل شيئاً. أي أخلاق أو ضمير أو إنسانية تمنع الفرد من أن يرى والدته أو والده ولا يلقي نظرة الوداع الأخيرة عليه. هذا أمر لا يحتمل بل هو مأساة كبيرة.

عندما احتلت ألمانيا بولندا تحول 70% من البولنديين إلى التعامل مع الاحتلال. وحصل الأمر نفسه في فرنسا. لكن خلال 32 سنة من الاحتلال «الإسرائيلي» لم يتعامل معه أحد باستثناء قلة قليلة لا تتجاوز 1%. هذا وسام شرف على صدر أهل الجولان الذين تشبثوا بأرضهم ورفضوا الجنسية «الإسرائيلية» وخاضوا إضراباً متواصلاً طوال ستة أشهر كاملة سنة 1982 كانوا من خلاله محاصرين تماماً، فلم تدخل إليهم حبة دواء واحدة أو ربطة خبز أو علبة حليب لأطفالهم. لقد اعتمدوا على سواعدهم وعلى إنتاجهم الذاتي. إن صمود أهل الجولان أفشل خطة «إسرائيل» في قيام حزام أمن يمتد من الجولان حتى جنوب لبنان.

في الجولان اليوم، عدا القرى الأربع: مجدل شمس وبقعاتا ومسعدة وعين قنية، قرية الغجر التي تقع عند نهر بانياس، والتي يقسمها النهر قسمين. إن سكان القسم الشرقي نزحوا مثل بقية النازحين، بينما بقي القسم الغربي وهم الآن في الحزام الفلسطيني ـ اللبناني ـ السوري، وفرضوا عليهم الهوية «الإسرائيلية» بالإكراه. جعلوهم يبصمون على الهويات «الإسرائيلية» وهم لا يدرون من الأمر شيئاً. بعد ذلك صار هؤلاء يوكلون المحامين للتخلص من الهويات.

[bleu]2 ـ عزت أيوب معلم متقاعد. من مواليد مجدل شمس سنة 1937. [/bleu]

[rouge]3 ـ أمينة الخطيب [/rouge]

حياتنا في الجولان قبل الاحتلال كانت جميلة، مع أن فيها بعض المرارة. فنحن كنا في مواجهة مباشرة مع «إسرائيل» على خط النار، تماماً مثل حال الجنوب اللبناني. الاشتباكات الحدودية قبل حرب 5/6/1967 كانت في معظم الأحيان تبدأ حينما تعتدي «إسرائيل» علينا. كانت ترغب في ضم الأراضي الزراعية المتاخمة للحدود السورية ـ الفلسطينية والاستيلاء على مساقط المياه. وكان الجيش السوري يدافع فقط عن أرضه. فتحت بصري على هذه الحال حتى سنة 1961 حين انتقلت إلى دمشق لأن زوجي موظف في العاصمة. وانتقلت إلى دمشق بسبب الزواج. وعند اندلاع حرب 1967 كنت في دمشق. ومنذ ذلك التاريخ فُصلت عن أرضي وعن أهلي.

قريتي عين قنية تقع عند الحدود تماماً. سهل الحولة قبالتنا. وآخر حدود أراضي القرية يقع عند نهر بانياس. كان الجنود «الإسرائيليون» يعتدون، باستمرار، على الفلاحين السوريين، فيمنعونهم من زراعة أراضيهم. وفي مرات كثيرة كانوا يختطفون بعضاً منهم ثم يعيدونهم من خلال قوات الطوارئ الدولية. العلاقة بين أهلنا والفلسطينيين كانت حميمة جداً، وكان البعض يقول إن رزقنا من فلسطين. فلسطين بلد عربي، وأرضها من الحولة إلى غور الأردن خصبة جداً وملائمة لزراعة الحمضيات. وكانت التجارة نشطة بين سوريا وفلسطين ولم يكن هناك أي حدود بيننا بل بلد واحد. نشأنا وأهلنا يقولون لنا إن أرضنا في فلسطين وأجدادنا من فلسطين وأقرباؤنا ما زال بعضهم في فلسطين. أنا أقربائي في قرية حرفيش في الجليل الأعلى.

نحن في الأصل من الخلوات بجوار حاصبيا في لبنان. لكن الحدود قسمتنا. ففي لبنان لنا أقرباء، وفي حرفيش لنا أقرباء وفي جبل العرب لنا أقرباء. نحن من آل عامر، وجدي كان معلماً فصار اسم عائلتنا الصغرى الخطيب. جزء من العائلة جاء إلى الجليل وجزء آخر جاء إلى الجولان، ومن هنا انتقل جزء إلى جبل العرب. لم يكن يفصلنا عن أهلنا في فلسطين أي حد. كل ما يحتاجه الواحد منا لزيارة أقربائه أن يركب وسيلة نقل ويتجه عبر نهر الشريعة إلى المكان المقصود. في سنة 1948 ارتفعت الحدود حتى صارت سداً. لم نر أهلنا في فلسطين حتى سنة 1967 عندما أمكن أن نلتقي ثانية. لكن حرب 1967 أقامت سداً شنيعاً ثانياً ففصلتنا عن وطننا سوريا.

أنا جئت دمشق سنة 1963، وكنت أذهب إلى الجولان وأعود منه باستمرار. واستمرت الحال على ما هي عليه حتى يوم 5 حزيران/ يونيو 1967. تلقيت خبر الحرب بفرح. اعتقدت أننا سننتصر ونعيد فلسطين إلى أهلها. لم نضع الهزيمة بالحسبان البتة. لأن ثلاثة جيوش تحارب من ثلاث جبهات. لم نكن نعرف قوة «إسرائيل» التي هي في النهاية، قوة الولايات المتحدة. ولولا الدول الغربية لما صمدت «إسرائيل» أبداً. بعد الهزيمة لم أذهب إلى الجولان ولم أر أحداً من أهلي. توفيت أمي ومات أعمامي الأربعة وتوفي والدي ولم ألتق واحداً منهم. الذين تركتهم أطفالاً تزوجوا. أما حنيني للجولان وأرضه ومياهه وأشجاره وسكانه فلا يوصف. الجولان لا يبعد عني اليوم أكثر من مسير ساعة بالسيارة، وأنا هنا في دمشق غير قادرة على زيارته.

أذهب دائماً إلى التلة المقابلة لقرية مجدل الشمس التي سموها «تلة الصراخ»، وهنا أشعر بالقهر. فبلدي أمام عيني ولا أستطيع أن أصل إليه. أنا عندما أذهب إلى الشريط الذي يفصلني عن أهلي وأروح أسأل عنهم فيقولون لي عبر مكبرات الصوت إن فلاناً مات وفلاناً على وشك الموت، أحس بغضب شديد وأتمنى لو أستطيع أن أقتلع الأسلاك والألغام ولا يهمني إن مت بعدها. ألتقي أهلي في الأردن. لم يبق لي منهم إلا أختي. لم أر أحداً من أهلي منذ سنة 1967. كنت أراهم بالمنظار من بعيد، ولا أستطيع أن أحفظ ملامح وجوههم. أعيش اليوم على الذكريات القديمة. أختي تركتها وهي في الخامسة عشرة، الآن لديها ستة أولاد.

[bleu]3 ـ أمينة الخطيب ربة منزل من مواليد قرية عين قنية سنة 1944. [/bleu]

[rouge]4 ـ عمر الحاج خليل [/rouge]

طفولتي في قريتي الواقعة في الجولان كانت ملتصقة بالطبيعة. أمضيناها في الكروم والبراري نطارد الحيوانات ونرعاها، ونعتني بالأرض ونزرعها. عرقنا ملح الأرض، ونحن والطبيعة متلاصقان. أنهيت المرحلة الابتدائية عام 1966 والتحقت بمدرسة أحمد مريود في القنيطرة. وأحمد مريود أحد أبطال الجولان، من قرية جباتا الخشب، استشهد في الثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش سنة 1925.

نحن تركمان ولا وجود في قريتنا غير التركمان. أما في القرى المحيطة مثل الجويزة ففيها تركمان وشركس. وقرية الغسانية فيها شركس. وهناك قريتا بير عجم وبريقة جميع سكانها من الشركس. وفي الجولان 14 قرية يسكنها التركمان. نحن تركمان طبعاً، لكنني مواطن سوري أولاً وأخيراً، وإن كنا نتكلم التركمانية في منازلنا. نحن نعلم أطفالنا الصغار هذه اللغة التي لا أبجدية لها، أي أنها غير مكتوبة، وهي لا تختلف عن اللغة التركمانية في العراق أو في فلسطين.

تبعد قريتي عن خط الجبهة نحو 20 كيلومتراً، وأذكر الاشتباكات التي كانت تندلع شرقي بحيرة طبرية. كان المعتدي في جميع الحالات الجيش «الإسرائيلي». وسبب الاعتداءات هو الطمع «الإسرائيلي» بمصادر المياه المتساقطة من نهري الحاصباني وبانياس اللذين يصبان في نهر الأردن، وبالأراضي الزراعية الخصبة في منطقتي الحمّة والبطيحة. فهذه المنطقة تنخفض عن سطح البحر، فهي غور دافئ ينتج الخضروات في الشتاء من دون الحاجة إلى البيوت البلاستيكية.

أذكر بحيرة طبرية جيداً وإن كنت لم أذهب إليها إلا مرة واحدة فقط. لم أسبح فيها، لكنني سبحت في الحمّة. الصيادون السوريون كانوا يصطادون في مياه البحيرة، وزوارقنا ترسو على شاطئ البحيرة. لم يكن الصيادون السوريون يتوغلون في البحيرة كثيراً لكنهم كانوا يبحرون في الجهة الشرقية منها. ودائماً كانت الزوارق «الإسرائيلية» تتعرض لهم وتبعدهم عن عمق المياه نحو الشاطئ الشرقي.

امتلك والدي أراضي مساحتها نحو 600 دونم موزعة على عدة مناطق في الجولان. ولدينا أوراق رسمية مسجلة بحسب الأصول، وبعضها مسجل في زمن الدولة العثمانية.

بدأت الحرب في 5/6/1967. وأذكر أننا شاهدنا أربع طائرات سورية من طراز «ميغ 17» تمر فوق القرية باتجاه فلسطين. عادت طائرتان منها فقط. هذه كانت أولى إشارات الحرب. ثم اشتعلت المعارك بالدبابات والمدفعية وبدأت القذائف تتساقط علينا. في هذه الحال انتشر الجنود السوريون في أحراج القرية للاختباء من الطائرات «الإسرائيلية». لكن هذه الطائرات لم تميز الجنود من المدنيين وبدأت تقصف القرية وأحراجها. عند ذلك شرعت الوحدات العسكرية السورية في مغادرة المنطقة حتى لا يتأذى المدنيون، وابتعدت عن القرية.

في جوارنا كان ثمة قرية تدعى «الجويزة»، وهي قرية يسكنها التركمان. وفي اليوم الرابع من الحرب بينما كان ثلاثة شبان من أقربائنا التركمان قادمين إلى قريتنا أطلقت عليهم القوات «الإسرائيلية» النار، فقتلت اثنين منهم وجرحت الثالث. نحن شاهدنا جزءاً من الحرب بالعين المجردة. بقينا ستة أيام في القرية بعد دخول الجيش «الإسرائيلي» إليها. بعضنا كان يفكر بالبقاء ويرغب فيه. لكن ما حصل في بعض القرى مثل قرية المنصورة الشركسية، حينما جمع الجيش «الإسرائيلي» عدداً من الشبان وأطلق النار عليهم، جعل الكثيرين يترددون في البقاء. وفي اليوم التالي اتفق الجميع على النزوح باتجاه المناطق التي لم تخضع للاحتلال.

الشركس تكاتفوا وساعد بعضهم بعضاً ولديهم جمعيات خيرية، وكانت وطأة النزوح عليهم غير قاسية. بينما نحن التركمان لم نتمكن من الاتفاق على إقامة أي نوع من أنواع العمل الاجتماعي. لهذا ظلت أحوالنا سيئة. مع العلم أن 70% من التركمان يسكنون في منطقة القدم ونحو 20% منهم في الحجر الأسود، و10% في مخيم فلسطين، أي أننا لم نتشتت كمجموعة تركمانية.

العيش قريباً من مدينة دمشق غيّر الكثير من عاداتنا. فصرنا نتزوج من القوميات الأخرى ونتزوج عربيات وشاميات وغيرهن. فالانغلاق الذي كان موجوداً في الجولان، ما عاد موجوداً هنا. غيّر أن شبابنا لا يهاجرون إلى الخارج ولا حتى إلى تركيا.

قريتنا، عين عيشة، مدمرة. وفي حال عودة الجولان إلى السيادة السورية، سنعود بالتأكيد. وما يقلقنا أن الجيل الجديد الذي وُلد في دمشق لا يرغب في العودة إلى الجولان والإقامة هناك بصورة دائمة. إنه يرغب في جعل القرية مجرد مصيف يزوره في الصيف فقط.

[bleu]4 ـ عمر الحاج خليل معلم مدرسة، من قرية عين عيشة.[/bleu]

[rouge]-[/rouge] [bleu]المصدر : ملحق «فلسطين» | صحيفة «السفير» اللبنانية | شاهين أبو العز.[/bleu]


titre documents joints

أصوات من الجولان | ملحق «فلسطين» | صحيفة «السفير» اللبنانية.

17 نيسان (أبريل) 2012
info document : PDF
549.3 كيلوبايت

شاهين أبو العز



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 26 / 2165657

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع صحف وإعلام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165657 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010