الأربعاء 18 نيسان (أبريل) 2012

المعتقلون الفلسطينيون يواجهون «إسرائيل»

الأربعاء 18 نيسان (أبريل) 2012 par د. نهلة الشهال

البارحة، بدأ الأسرى الفلسطينيون في السجون «الإسرائيلية» إضراباً عن الطعام احتجاجاً على أوضاع قسوى لا تطاق، منها العزل الانفرادي التام والمتمادي لتسعة عشر أسيراً من بينهم، بعضهم مضت عشر سنوات على عزله التام، بحيث لم يلتق بأي أسير آخر، ولا بأي فرد من أسرته. ومن مطالبهم وقف المداهمات الليلية للزنازين، ووقف سياسات الإذلال المتمثلة بالتفتيش العاري، والسماح لأهالي المعتقلين من غزة بزيارتهم، وإعادة حقهم بمتابعة برامج الدراسة الثانوية والجامعية، وتحسين شروط العناية الصحية، وإلغاء الاعتقال الإداري، هذه البدعة التي اخترعتها «إسرائيل» والتي تسمح لسلطاتها بتجديد احتجاز من تشاء بلا محاكمة كل ستة أشهر، وذلك بلا حدود ولسنوات. ويقارب عدد الأسرى الفلسطينيون الستة آلاف، يبدو أنه تقرر مشاركة أكثر من ألف وخمسمئة أسير من بينهم في الاضراب عن الطعام. وهي خطوة هُيئ لها بعناية وتخطيط بعد مفاوضات شاقة مع إدارة السجون «الاسرائيلية». والخاصية الهامة لمثل هذه الإضرابات هو التوصل الى وحدة موقف للأسرى الى أي جهة سياسية انتموا، فهو شرط نجاح الإضراب نفسه في تحقيق المطالب، أو بعضها. ولذا تبدو الانقسامات المحتملة بشأنه تهديداً لحظوظه، علاوة على معانيها المحبطة. لا سيما أن كتلة الاسرى تميزت على الدوام بحركية سياسية متقدمة بالقياس على بقية الواقع الفلسطيني المضطرب والمنقسم، والذي تواجه قواه ما يمكن وصفه بـ«أزمة العمل الوطني الفلسطيني الراهنة» بقدر عال من الضياع وانعدام الخيال والأفق، وطغيان الصراعات الصغيرة والتي تحمل على اليأس...منها!

الإضراب عن الطعام حدث كبير، وهو يتبع خططاً دقيقة ومبنية. والتعامل معه يتطلب إدراكاً لخصائصه. كم كان سخيفاً أن تواجَه هناء الشلبي، التي اضربت لـ45 يوماً وانتزعت من سجانيها قراراً بإطلاق سراحها مع إبعادها الى غزة لثلاث سنوات، أن تواجه بتبرم البعض الذين كانوا «يفضلون» أن تستمر حتى «النهاية»، أي بلا صيغة التسوية التي تمكنت منها! فكل إضراب عن الطعام هو صراع سياسي رغم مشهديته التي تحمل بعداً «تضحوياً» بالنفس، والتي تهدف الى استنفار الرأي العام واستدعاء تضامنه، وإدخاله في ذلك الصراع الى جانب المحتجين. وهو سلاح سلمي تماماً، ولكنه في غاية العنف: عنف ذاتي يعلن الاستعداد للموت من أجل قناعات ومبادئ ومطالب محددة، ويحمِّل المجتمع المُشاهِد مسؤولية ترك هؤلاء يصلون الى الموت، فيما لو لم يمارس ضغوطاً لمصلحتهم، وعنف مقابل يمكنه أن يتجاهل ذلك كله ويُترك المضربون يموتون، طالما «ذلك هو خيارهم» كما قالت مارغريت تاتشر، وكانت رئيسة وزراء بريطانيا، في مواجهة اضراب المعتقلين الايرلنديين العام 1981. يومها مات عدد منهم، كان أبرزهم «بوبي سانز» الذي أصبح إيقونة لشعبه وللعالم، وسمحت تضحيته بنفسه للحركة الايرلندية أن تنتقل الى مستوى سياسي آخر من «الشرعية الجماهيرية»، كانت بداية لمنعطف أدى في النهاية الى خسارة تاتشر ونهجها السياسي، والى تحقيق الايرلنديين لمطالبهم وحقوقهم. وقد خرج عن «ساندز» فيلم سينمائي رائع اسمه «الجوع»، نال جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان «كان» 2008، بينما انتهت تاتشر تعاني من مرض الخرف، بعدما لاحقتها اللعنات، لأنها بقيت في الوجدان العام كمثال عن الشراسة القبيحة، وكممثل بارز لليبرالية المتوحشة والمفقِرة.

يقول استطلاع أجري منذ يومين أن نصف البريطانيين يرغبون في الهجرة من بلادهم بسبب الضائقة المالية الناتجة عن سياسات تلك الليبرالية المتوحشة. وفي الاسبوع الماضي، أعلنت منظمات خيرية انكليزية عن «تعاظم أعداد البريطانيين الذين يقاربون حالة المجاعة» (من «البيض» وليس من أبناء المهاجرين!).

وليس بعيداً عن فلسطين، يواجه عبد الهادي الخواجة عنف وصلف السلطة البحرينية عارياً إلا من إرادته. وهو تعرض عند اعتقاله في نيسان/ابريل 2011، الى الضرب المبرح، ثم نال في المعتقل صنوفاً من التعذيب المريع والمتمادي، تضمنت الاعتداء عليه جنسياً وكسر عظام وجهه وضلوعه. وقررت المحكمة العسكرية التي نظرت في ملفه إنزال عقوبة السجن المؤبد به «لتآمره على قلب نظام الحكم». والتهمة سخيفة، فالرجل ناشط حقوقي معروف على نطاق عالمي، وهو يمثل في منطقة «الشرق الأوسط» منظمة... إيرلندية/عالمية لحقوق الانسان. يتميز عبد الهادي الخواجة بالصلابة، ولعل تلك الصفة تمثل تحدياً لا يطاق لسلطة لم تتمكن من كسر حركة الاحتجاج العارمة في البلد والتي تتجدد كل بضع سنوات. لقد تجاوزت مدة اضراب الخواجة الشهرين، وهو في حال حرجة للغاية. ورفضت سلطات البحرين طلباً رسمياً تقدمت به الدنمارك (التي يحوز الخواجة على جنسيتها)، لنقله اليها، مغلقة الباب أمام تسوية تحفظ لها ماء وجهها وتحافظ على حياة الرجل. كما تجاهلت تلك السلطات نداءات الفدرالية الدولية لحقوق الانسان ومنظمة العفو الدولية وإداناتهما لها. فهل سيتحول عبد الهادي الخواجة الى «بوبي ساندز» جديد؟ هل تتحمل سلطات البحرين هذا، وهل يفيدها؟

الاضراب عن الطعام وسيلة نضالية في غاية القوة، لأنها تحمل طبقات متعددة من المعاني، لا يمكن اختصارها بالرسالة الاولى منها، وهي إعلان استعداد المضرب للتضحية بحياته تمسكاً بفكرة أو مطلب، ودفاعاً عنهما، أو احتجاجاً على وضع يراه مشيناً. فهي أيضاً وسيلة لخوض صراع مع الطرف الأقوى، السلطة، سواء كان المضربون في السجن أو خارجه. وهي تخاطب الرأي العام، مستدعية تدخله في ذلك الصراع، محملة إياه جزءاً من المسؤولية فيما لو تجاهل الموقف. وهي أخيراً تكشف طبيعة السلطة الحاكمة. فحين تتشدد في مثل هذه الحالات، فهي إنما تفضح عنفها وكذلك نقاط هشاشتها. هذه الوسيلة السلمية تماماً، تحمل رمزية عالية تتعلق بأهمية القيم التي يحيا من أجلها الانسان (أو يموت). وأشهر اللاجئين اليها هم غاندي، والايرلنديون، والأكراد في تركيا (وهم اليوم يخوضون من جديد إضراباً عن الطعام، بعد إضراب 2001 الشهير الذي أوقع عشرات الضحايا)، والفلسطينيون مراراً، كما أن هناك عدداً كبيراً آخر من حالات الاضراب عن الطعام الجماعية والفردية. وكلها تعبر عن المعنى العميق نفسه، وتستدعي أوسع تضامن عام ومستمر ومتصاعد.

ذلك أنه لن تُكسب المعركة ضد «إسرائيل» بالضربة القاضية. ومن يظن ذلك فهو إنما يعفي نفسه من المهمة الشاقة: خوض صراع مستمر مع «إسرائيل»، وفي كل الميادين. والحرص على توسيعه باطّراد وعلى ابتداع أساليب تواكب الضرورات. من ذلك حملات التضامن الدولية، سواء اتخذت عنوان «المقاطعة»، او الأسطول البحري الى غزة، أو، وكما بالتزامن مع إضراب الأسرى، مبادرة «أهلاً في فلسطين» التي أقلقت السلطات «الاسرائيلية» واضطرتها الى إغلاق أجوائها على الطيران منعاً للمتضامنين الدوليين من الوصول، مما وُصف من قبل المعلقين «الإسرائيليين» أنفسهم بـ«السلوك الجنوني». والتضامن مع الأسرى جزء من تلك المعركة... الشاملة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165404

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165404 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010