الاثنين 30 نيسان (أبريل) 2012

جمعة وعبّاس

الاثنين 30 نيسان (أبريل) 2012 par د. عبد الحليم قنديل

لا خلاف على خطأ ـ ربما خطيئة ـ زيارة الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية للمسجد الأقصى وكنيسة القيامة والقدس تحت الاحتلال «الإسرائيلي».

ليس الخطأ بالطبع في الصلاة بالمسجد الأقصى، فهي مباركة دينياً، ولا في صلاة المسيحيين بكنيسة القيامة، فهي عند المسيحيين في مقام الحج إلى مكة المكرمة بالنسبة للمسلمين، لكن الصلاة الإسلامية والحج المسيحي هناك، وتحت وطأة الاحتلال، يجرح المشاعر الدينية ذاتها، وذهاب غير الفلسطينيين بدعوى إقامة الطقوس الدينية، وتظاهرهم بالتقوى وطلب رضا الله، كل ذلك مما لا يصح دينياً مع وجود الاحتلال الذي يهود القدس، ويقضي على طابعها العربي الإسلامي والمسيحي، ويرحب بتلك الزيارات الدينية، فهي في ذاتها نوع من التسليم والإقرار والتكيف مع وجود الاحتلال، بل وطلب عطفه وإذنه بتحكمه في تأشيرات الدخول، وطبع الختم «الإسرائيلي» على جوازات سفر وأقفية الذاهبين بدعوى الصلاة والحج.

ثم أن تصوير القصة في أولوية طقوس دينية مما لا يقبله الدين نفسه، وقد كان ذلك ولا يزال موضع إجماع علماء المسلمين وعامتهم، إلا فقهاء السلاطين على طريقة علي جمعة، وكان ذلك كذلك عند المسيحيين العرب موضعاً لاتفاق غالب، وكان لقداسة البابا شنودة موقف غاية في امتيازه، فقد رفض ذهاب رعايا الكنيسة الوطنية المصرية إلى القدس تحت الاحتلال بدعوى الحج، وكان يقول بوضوح : لن نذهب إلى القدس إلا بعد تحريرها، وسندخلها مع إخواننا المسلمين، وكان البابا الراحل يحذر من مخالفة تعاليم الكنيسة، ويصف الذين يخرجون عن قرارها بأنهم خونة الأمة العربية.

وبعد رحيل البابا، شهدنا ذهاب بضعة آلاف من المسيحيين المصريين إلى القدس تحت الاحتلال، وجزع الرأي العام الوطني المصري، ثم تبين أن غالب الذين ذهبوا، وخالفوا تعليمات البابا شنودة هم من غير أبناء الكنيسة الوطنية المصرية، وأنهم من رعايا كنائس غربية المنشأ، تماماً كما بدا سلوك الشيخ جمعة خروجاً على الوطنية المصرية وقرار الأزهر الشريف، وطاعة لغواية العائلة الملكية الأردنية، وتنعماً بضيافتها الكريمة جداً، وتورطاً في كواليس خلاف أردني ـ فلسطيني على إدارة المسجد الأقصى، وإهانة لمنصب مفتي الديار المصرية الذي يحتله جمعة، بقرار من المخلوع حسني مبارك جرى تجديده من المجلس العسكري الحاكم الآن، وحتى إشعار آخر.

واللافت أن زيارة جمعة التطبيعية لم تلق تأييداً سوى من طرفين، أولهما العائلة الملكية الأردنية التي ورطته في إهانة مكانته الرمزية كمفت للديار المصرية، والعائلة ـ كما هو معروف ـ تقيم صلات تعاون وثيقة مع كيان الاحتلال «الإسرائيلي»، وكان الطرف الثاني المرحب هو السلطة الفلسطينية برئاسة عبّاس في رام الله، والتي هي واحدة من أغرب السلطات في التاريخ الإنساني، فهي سلطة بلا سلطة، ولا يتحرك رئيسها ولا وزراؤها ولا مشايخها، لا يتحرك هؤلاء سوى بالإذن «الإسرائيلي»، ولا يطمعون في رضا الله اكتفاء برضا «إسرائيل» عنهم، ولا يكف زعماء «إسرائيل» عن امتداحهم، وعلى نحو ما فعل بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء «الإسرائيلي»، والذي تحدث مؤخراً عن ظروف مواتية لإتمام اتفاق «إسرائيلي» مع سلطة عبّاس، وزاد شيمون بيريز رئيس «إسرائيل» الأمر وضوحاً، وقال أن الرئيس عبّاس هو أفضل قيادي فلسطيني من وجهة نظر «إسرائيل»، وأننا نريد السلام تحت قيادته.

هل من علاقة لزيارة الشيخ جمعة بكلام نتنياهو وبيريز؟، تبدو الصلة ظاهرة، فالشيخ جمعة لم ينطق بحرف خلال زيارته ضد الاحتلال «الإسرائيلي»، بل ذهب كغطاء ديني لعملية تسوية مذلة تدار من وراء ستار، وتعلم بها العائلة الملكية الأردنية التي ورطته في الزيارة المسيئة للإسلام والمسلمين، ويعلم بها عبّاس طبعاً، والذي دعا طوال الشهور الأخيرة إلى تنظيم زيارات للعرب والمسلمين إلى القدس والمسجد الأقصى، وتتحدث سلطته عن اتفاقات بالخصوص مع عدد كبير من العلماء المسلمين للزيارة على طريقة جمعة، وبدعوى الدعم المعنوي للفلسطينيين، بينما هي تهيء الظروف والأنصار لتقبل تسوية مذلة في القدس والضفة الغربية، تعكس تسليماً بأمر الاحتلال والتهويد الواقع، وتعطي سلطة عبّاس أو جهة أردنية ـ فلسطينية مشتركة إشرافاً رمزياً دينياً على منطقة المسجد الأقصى، وتستبقي القدس دون بعض ضواحيها تحت يد الاحتلال «الإسرائيلي».
وربما يلفت النظر أن بنيامين نتنياهو في حديثه الذي بدا مفاجئاً عن اتفاق سلام ممكن، وعلى غير عادته اللفظية المتشددة، ربما يلفت النظر أنه تحدث عن دولة فلسطينية لا تشبه الجبن السويسري المثقوب، ولا تقطع أوصالها المستوطنات اليهودية، وهو ـ أي نتنياهو ـ لا يقصد طبعاً إزالة المستوطنات، بل يقصد ـ بالطبع ـ ضم المستوطنات الكبرى في الضفة الغربية إلى القدس المهودة، وتقديم بديل آخر تحت عنوان «تبادل الأراضي»، وإغواء الفلسطينيين بإطلاق اسم «القدس» إن أرادوا على ضاحية تتخذ كعاصمة لدويلة فلسطينية مقلمة الأظافر ومنزوعة السلاح.

في هذا السياق يمكن فهم زيارة جمعة وغيره، وتبين حجم الخطأ والخطيئة فيها، بل والتواطؤ المعادي لقدسية القضية الفلسطينية، فقد مات عرفات شهيداً مسموماً لأنه عارض تسوية من هذا النوع في مباحثات «كامب ديفيد» الثانية، ولم يكن عبّاس بعيداً عن حصار عرفات حتى استشهاده، وقد ظهر الرجل بعد وفاة عرفات على حقيقته الكالحة، وأدان المقاومة الفلسطينية بكافة صورها المسلحة وغير المسلحة، وسخر من الانتفاضات الشعبية، ويتلقى معونات مالية أمريكية وأوروبية بهدف تدجين الفلسطينيين، وإقامة سلطة الوكالة الأمنية عن «إسرائيل» في أوساط الفلسطينيين، وبهدف تفكيك الخلايا الجهادية، والقضاء على أي تنظيم مسلح قد يستهدف «الإسرائيليين» بعملياته، وإنهاء عمل الجناح العسكري لحركة «فتح» التي يترأسها في الضفة الغربية بالذات، وتحويل الفدائيين إلى أزلام وموظفين، وطمس الطابع الكفاحي لقضية الفلسطينيين، وتحويلهم إلى مجرد جماعة بشرية تطلب العون والغوث الإنساني، وتعويد الفلسطينيين على تقبل القهر «الإسرائيلي» كأنه من سنن الكون، والتمهيد لقبول أي تسوية يرغب بها «الإسرائيليون»، وحبذا لو تم ذلك بتوافق مضمون من دول الخليج والعائلة الملكية الأردنية، فلم تعد «إسرائيل» تضمن رد الفعل على الجبهة المصرية بعد خلع مبارك، وتريد تسكين الوضع في القدس والضفة الغربية، وحتى تتفرغ لمواجهة الخطر المقبل من غزة والحاضنة المصرية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 47 / 2180648

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2180648 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40