هل هو جائع حقاً، أم إنه ينحدر من سلالة أرض الزيت والزيتون والزعتر؟ .. أرض البرتقال، أو تلك الأرض التي «ثمارها من ذهب»؟
الأرض التي تسللت إليها في الليل عصابات الموت لتستولي على ذهبها الأخضر المتماوج من سفوح الكرمل وحتى مرج ابن عامر، العصابات التي أحالت الأخضر إلى يابس، وفتكت بطفولة القرى والأرياف، وقتلت الأشجار، وهدمت البيوت، وأجهضت النساء.
ذلك ما يفعله الوحش «الإسرائيلي» .. وأكثر.
استولى على الرموز الآثارية والفولكلورية الشعبية في فلسطين، استبدل أسماء النباتات والزهور البرية بأسماء أخرى، لوّث الماء ولوّث الهواء وأكثر ما يحارب من الأشجار شجرة الزيتون وحقول الزعتر.
ليس الفلسطيني جائعاً، ولكنه يقاتل بأمعائه الخاوية. يقاتل بجسده الذي أصبح اليوم عارياً من السلاح بعدما فاوض من فاوض، وتنازل من تنازل، وتحوّل من تحوّل، وانشق من انشق.
ليس الفلسطيني جائعاً، ولكنه أقرب إلى روح المتصوف. دبت في بدنه المنهك منذ أكثر من ستين عاماً روحاً أخرى، وثقافة أخرى هي ثقافة المقاومة بالمعدة الخاوية.
مقاتلون فلسطينيون جدد سلاحهم الوحيد الإضراب عن الطعام. لا عنف ولا إرهاب ولا أحزمة ناسفة، سوى أحزمتهم التي يشدّونها على بطونهم لكي يستمر الواحد منهم في مقاومته المدنية السلمية.
تاريخ المقاومة الفلسطينية يدخل اليوم إلى مرحلة جديدة، بعدما تخلّى «الثورجي» عن ثيابه وطبيعته وأحلامه، وتحوّل إلى بائع أحلام أو مستهلك أحلام.
ها هو الجسد الفلسطيني يكتب ملحمة جماعية جديدة عبر هذا الصيام المديد، وعبر هذه الروحانية التي تستعير قوّتها من قوّة الطبيعة ذاتها.
ليس الفلسطيني جائعاً، ولكن يذهب إلى تقشف روحه وتقشف جسده، مستعيناً بإرادة لم تمت منذ عشرات السنوات. إرادة تمثلتها وحملتها أجيال تلو أجيال، وشهداء تلو شهداء.
كان الفلسطيني يستشهد برصاصة الجندي «الإسرائيلي»، وها هو اليوم يواصل استشهاده بجوعه. هذا الجوع الذي يضفي على وجه الأسير ووجه الأسيرة ملامح الصفاء الإنساني في ذروة قوّته الداخلية .. القوة التي لا تستطيع كل قوى الظلم والاحتلال أن تنتصر عليها.
ليس الفلسطيني جائعاً، ولكن .. يمتلئ بذاته المقاومة، يدخل إلى «غنائية» جسده، ويصبح خفيفاً ومتخففاً من متاع الدنيا الزائل ليقترب من وجه الله.
نعم .. بالجسد الجائع الخفيف .. يمكن للإنسان أن ينتصر على وحش الاستبداد.