على الرغم من كل الجهود التي تبذلها المنظمات الشعبية لمقاومة ومقاطعة التطبيع مع الدولة الصهيونية، فإن خطايا التطبيع تأخذ مداها النوعي اتساعاً في أكثر من بلد في المنطقة، وقد يكون قول الشاعر بليغاً في التوصيف والمقاربة، «كلما داويت جرحاً سال جرح»، ولهذا، لا نستغرب تصريح وزير الرياضة التونسي طارق ذياب وهو من حزب النهضة عندما أعلن، «أن بلاده على استعداد لقبول المساعدات حتى لو كانت من «إسرائيل».
ويأتي تصريح الوزير التونسي متزامناً مع نجاح جهود مقاومة التطبيع في إلغاء مهرجان موسيقي كان من المفترض أن يُقام في المنطقة، ويشارك فيه عازفون «إسرائيليون» وعلى رأسهم المايسترو اليهودي دانيال بارينباوم، إلى جانب عازفين عرب تحت لافتة «مهرجان الموسيقا والحوار»، وبذريعة الفصل بين الفن والسياسة، بينما الغرض الحقيقي من ورائه، هو مواصلة جهود التطبيع الثقافي التي ما انفكت بين الفينة والأخرى، تطل علينا بوجوهها البشعة.
أسوق هذه المقدمة، والضجة لا تزال قائمة في الأوساط السياسية الشعبية والاجتماعية في مصر وفلسطين المحتلة، تنديداً بزيارة مفتي الأزهر إلى القدس، بعدما اتضحت تفاصيلها وعلى عكس ما كانت تدعيه أوساط المفتي، حتى أن صحيفة «يديعوت أحرونوت» قد أكدت أن الزيارة جاءت بالتنسيق مع وزارة الدفاع الصهيونية وليس مع وزارة الخارجية، وأنها تمت تحت حراسة الجنود «الإسرائيليين»، بينما قال أحد المعقبين تعليقاً في هذا الصدد، لقد استغبانا الدكتور علي جمعة وافترض فينا البلاهة حين قال بعد عودته إن زيارته كانت شخصية، وإنه لم يكن يمثل دار الإفتاء أو الأزهر، كما أنه استغبانا حين قال إن الزيارة كانت مفاجئة، وانها رتبت على عجل، ولذلك لم يتمكن من الاستئذان ولم يخبر أحداً.
يُذكر ان زيارة المفتي تمت في توقيت متقارب مع زيارات عدة قام بها مسؤولون سياسيون للأقصى، كما جاءت متزامنة مع زيارة الداعية الحبيب الجفري، وكذلك مع الزيارة التي قام بها بعض أقباط مصر لكنيسة القيامة في القدس، على الرغم من موقف الكنيسة القبطية المصرية، التي تتمسك بتحريم الحج إلى القدس ما دامت تحت الاحتلال.
وبشأن تصريح الوزير التونسي الآنف، لم ننس الضجة التي أثارها رئيس حزب النهضة الإسلامية راشد الغنوشي، عندما تحدث مع الصحافي «الإسرائيلي» ليغيديون كيتس مراسل إذاعة «صوت إسرائيل» في «منتدى دافوس» الذي عُقد في سويسرا قبل بضعة أشهر، حيث قال الغنوشي في حديثه هذا، إن مستقبل العلاقات بين تونس و«إسرائيل» مرتهن بحل القضية الفلسطينية.
ومن المفيد في هذا الجانب، هو الإشارة إلى تصريح راشد الغنوشي لمجلة «ويكلي ستاندارد» الأمريكية في وقت سابق، حيث ذكر أن الدستور التونسي الجديد لن يتضمن أية مواد تدين «إسرائيل».
الواضح في هذه الفترة، أن الخطوات والدعوات التطبيعية، بدت في قسمها الأكبر تبدأ وتنطلق من قوى التدين السياسي والمؤسسات الدعوية على غرار النماذج التي تناولناها سالفاً، أي أن هذا التطبيع أخذ بعداً سياسياً وآخر اجتماعياً، وكلا البعدين يتخذان نهجاً متكاملاً في التأثير والخطورة على نسيج وبنية المجتمعات العربية، لأن مثل هذا النهج يعمد إلى تهيئة القاعدة والحركات الشعبية، كي تكون متقبلة لمختلف أشكال التطبيع، اقتداء بمرجعيتها السياسية والاجتماعية، بل إن أخطر ما تعمد إليه قوى التدين السياسي مثالاً لا حصراً، هو الادعاء إذا ما تسنى لها ترويج مثل هذا المنهج وتمريره، هو أن عمليات التطبيع أصبحت من مسؤولية قواعدها الشعبية، أو على الأقل أن هذه القاعدة لا تعارض مثل هذا الأمر، وهي بالتالي ملزمة بتنفيذ رغبات واتجاهات هذه القواعد.
لا شك في أن مثل هذه الدعوات والخطوات، تأتي في إطار الضد النوعي إذا صحت التسمية، على اعتبار أن الحركات الشعبية ولا سيما في تونس ومصر بعد الأحداث المعروفة، أدت إلى إبطاء سير عجلة التطبيع على نحو نسبي عموماً، وربما تكون أصوات برلمانيي تونس ومصر تعالت في الدعوة إلى تفعيل وتصعيد المقاطعة العربية والدولية للدولة الصهيونية، وهذا أمر قد يؤدي إلى انحسار عمليات التطبيع في المشهد المرئي، بينما تبقى مثل هذه العمليات على وتيرتها المعهودة في السر، وهو واقع لا يمكننا نكرانه، بعدما تداخلت عمليات التطبيع الرسمي بالشخصي في صفوف «المطبعين».
بيد أن مقاومي التطبيع، يواصلون تصديهم لاختراقات التطبيع ولا سيما في الجانبين الرياضي والثقافي، حيث رأينا بطلة الجودو الجزائرية مريم موسى تقاطع النزال الذي يجمعها بمصارعة «إسرائيلية»، مضحية بفرصة التنافس في أولمبياد لندن، وكذلك اللاعبة التونسية وبطلة إفريقيا في رياضة المبارزة بالسيف عزة بسباس التي رفضت مبارزة منافستها «الإسرائيلية» خلال مباراة الدور النهائي لمونديال كاتانيا «جنوب إيطاليا» للمبارزة، وهذا غيض من فيض هذا التصدي.