السبت 12 أيار (مايو) 2012

المأزق الاستراتيجي «الإسرائيلي»

السبت 12 أيار (مايو) 2012 par د. محمد السعيد ادريس

ردود الفعل «الإسرائيلية» على قرار مصر بوقف ضخ الغاز إلى «إسرائيل» التي جاءت وفق حسابات دقيقة تتعلق بإدارة العلاقات مع مصر لم تأت من فراغ، ولكنها تكشف، وإلى درجة كبيرة، المأزق الاستراتيجي الذي يزداد تفاقماً، يوماً بعد يوم، داخل الكيان أولاً، ولكن الأهم هو ما يحدث من تحولات في البيئة الإقليمية جراء الثورات والأحداث العربية المتلاحقة من ناحية، وجراء تطورات أخرى تتعلق بكل من إيران وتركيا.

لقد كان وما زال قرار مصر بوقف تصدير الغاز إلى الكيان الصهيوني طموحاً وطنياً ليست له حدود، خصوصاً بعد أن تكشف حجم الخسائر المصرية من تصدير هذا الغاز إلى الكيان بسعر يقل كثيراً عن تكلفة انتاجه، وهي خسائر حسبها البعض بأنها تعادل 9 ملايين دولار يومياً أي حوالي 54 مليون جنيه، وهو مبلغ يكفي لبناء عشرات المدارس والمستشفيات في وقت تشتد فيه الأزمة الاقتصادية في البلاد، وبعد أن تفاقمت أزمة توفير الغاز والبنزين والسولار للاستهلاك المحلي خلال الأشهر الماضية، مثل هذه الأمور خلقت يقيناً لدى ملايين المصريين، الذين لم تكن لهم أية علاقة بالسياسة والذين خدع معظمهم بمقولة السلام ونبذ الحرب التي ركزت عليها أجهزة إعلام مبارك طيلة عقود ثلاثة مضت، أنهم خدعوا طيلة تلك العهود، وانحازوا بعد الثورة إلى مطلب إلغاء تصدير الغاز ومراجعة الاتفاقيات الموقعة مع الكيان الصهيوني.

هذا التحول في موقف الرأي العام المصري لم يدركه المجلس العسكري الحاكم فقط، ولكن أدركته حكومة الكيان الصهيوني، ولذلك بمقدار ما كان الأول حريصاً على تحقيق إنجاز يفيده في صراعه الحالي مع جماعة الاخوان المسلمين ضمن الصراع الدائر على السلطة، ومن ثم دفع بقرار قطع الغاز ضمن إطاره المحدود المحكوم بالعلاقات التجارية دون السياسة بعيداً عن أية أبعاد سياسية، كانت الثانية حريصة جداً على احتواء ما أثير من أزمة داخل الكيان وخصوصاً تصريحات وتهديدات وزير الخارجية افيغدور ليبرمان التي اعتبر فيها أن مصر «أخطر على «إسرائيل» من إيران بسبب الثورة المصرية وتغيير الحكم». ليبرمان لم يكتف بذلك لكنه طالب بحشد المزيد من قوات الجيش «الإسرائيلي» عند الحدود معها (مصر)، ولكن وبعد تدخل من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عقب اتصالات مع الحكومة المصرية تراجع عن هذا التشدد واعتبر أنه «من الخطأ تحويل ذلك من نزاع تجاري إلى نزاع سياسي»، واهتم بالتأكيد على أن «إسرائيل» حريصة على الحفاظ على «اتفاقية كامب ديفيد» مع مصر، وأن الأمر يصب أيضاً في المصلحة المصرية.

هذا التراجع من ليبرمان واقتناع الحكومة «الإسرائيلية» بأن إلغاء اتفاق الغاز مرده الخلاف التجاري بين شركة خاصة «إسرائيلية» وشركات حكومية مصرية له خلفياته التي أشرنا إليها، وهي أن حكومة الكيان ليست الآن في ترف اختلاق أزمة مع مصر، ولعل هذا ما يفسر حرص نتنياهو على تأكيد أمرين، أولهما أن قرار إلغاء اتفاقية الغاز «لا ينبع من تطورات أو قرارات سياسية» وثانيهما أن «إسرائيل» تملك حقول غاز ستوفر لها استقلالية في مجال الطاقة ليس فقط من الغاز المصري بل عن كل مصدر آخر، بل وستحولها إلى واحدة من الدول الأكبر المصدرة للغاز في العالم «وبناء عليه فإننا مطمئنون جداً من هذه الناحية».

وكما أن «إسرائيل» ليست الآن في ترف افتعال أزمة مع مصر فإنها ليست على يقين بما يمكن أن تؤول إليه الأزمة الراهنة في سوريا. فهم الآن داخل الكيان يخشون غموض سيناريوهات المستقبل السوري، إذ لا يوجد أي يقين يؤكد أن سوريا بعد نظام الأسد ستكون أفضل من منظور أمن ومصالح «إسرائيل» مما كانت عليه طيلة العقود الأربعة الماضية التي وفرت للكيان هدوءاً غير مسبوق على جبهة الجولان رغم كل الارباكات التي سببتها السياسة السورية وخاصة دعمها للمقاومة وخياراتها وتحالفها مع إيران ومناوأتها لتيار الاعتدال العربي.

الخوف من السيناريوهات السورية المربكة لا ينافسه إلا الضيق من تضاؤل فرص «إسرائيل» وطموحاتها في تدمير المنشآت النووية الإيرانية، ونجاح إيران في فرض استمرارية الحوار مع الغرب كخيار يصعب تجاوزه بعد مفاوضات اسطنبول التي أثارت استياء «الإسرائيليين».

يأتي التراجع في العلاقات التركية - «الإسرائيلية» والدور التركي المتصاعد إقليمياً من خلال الأزمة السورية وبالذات التنسيق التركي - السعودي ليزيد من صعوبة فرص إيران في التأسيس لبيئة إقليمية مواتية من شأنها منح «إسرائيل» مخرجاً جديداً للمخادعة والمراوغة ليس فقط في علاقاتها الإقليمية بل والدولية أيضاً، وهذا ما جرى تلمسه من الحرص الأمريكي لخيار استمرارية الحوار مع إيران وتراجع فرص الضغط على الإدارة الأمريكية للانخراط في الخيار العسكري ضد طهران من ناحية، والتردد الأمريكي والأوروبي الواضح في تبني خيار التدخل العسكري في الأزمة السورية.

هذه الأجواء الإقليمية تضع «إسرائيل» في مأزق استراتيجي حقيقي لم تجد أي خيار بديل لمواجهته غير خيار حكومة الوحدة الوطنية الموسعة كبديل لخيار الانتخابات التشريعية المبكرة التي كان نتنياهو قد تحدث عنها في الأسبوع الماضي، وهي الحكومة التي شكلت مفاجأة للأحزاب المنافسة التي بقيت خارج هذه الحكومة وخاصة حزب العمل الذي كان يأمل في تحسين أوضاعه في حالة التبكير بالانتخابات.

الحكومة الجديدة باتت تحظى بأغلبية قوية (94 نائباً) من اجمالي 120 نائباً في الكنيست لكن الأهم هو دخول حزب «كاديما» بزعامة شاؤول موفاز كطرف أساسي وجديد في هذه الحكومة. موفاز الذي سبق أن تولى رئاسة الأركان ووزارة الدفاع يمكن أن يكون عامل قوة في الحكومة إذا توافق مع كل من وزيري الدفاع ايهود باراك ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، لكن يمكن أن يكون عامل ضعف إذا دخل في منافسة مع كل منهما، حيث سيتولى منصب نائب رئيس الوزراء، المنافسة واردة مع كل من ليبرمان حول تجديد المفاوضات مع السلطة الفلسطينية كواحدة من شروط تأسيس هذه الحكومة ولكن التنافس الأهم يمكن أن يكون مع باراك.

هذا الغموض الخاص بمستقبل الحكومة يقلل من قيمتها ووزنها في إيجاد حلول حقيقية للمأزق الاستراتيجي مع ما يؤكد أن هذا المأزق مرجح أن يتفاقم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 83 / 2166088

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2166088 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010