الخميس 31 أيار (مايو) 2012

لا خوف على مصر

الخميس 31 أيار (مايو) 2012 par نصري الصايغ

لا مناص من الأمل. هو أمل صعب لكنه حقيقي، مصر على موعد مع غدها الشاق، ولا ضرورة لاحتساب المخاوف فقط... ما أنجزته مصر، لا يستهان به، وما لم تصنعه بعد، ليس مستحيلاً عليها.

من لم ير الأمل حتى الآن، فهو حتما يريد ان يتحقق المستقبل بالأمس. يستعجل اكتمال الثورة، ولديه تصوّر بأن مصر قصّرت عن استكمال ثورتها، فقد أزالت الطاغية فقط، ولم تستبدل النظام. وحجة أهل العجلة، ان مصر ما بعد سقوط الطاغية وجماعته، سقطت بين احتمالين: «الفلول» و«الإخوان». الاحتمال الأول مخيف والاحتمال الثاني ثقيل.

ومع ذلك، لا مناص من الأمل. أمل يولد من دون حاجة إلى مقارنة عكسية مع مأساة سوريا ومجازرها ودماء شعبها وتصلب سلطتها وتشتت معارضتها وتسلح أطرافها وممارسة سياسة السفك بلا هوادة... لا مناص من أمل في مصر، يولد من دونما النظر إلى حالة أنظمة خليجية استقرت على الاستبداد، وخرجت في فتوحات نفطية، لوأد الحرية وإغراقها في الدماء... لا مناص من أمل في مصر، يولد من غير حاجة إلى معاينة الحالة اللبنانية الرثة، المهترئة، المعلوكة، المستعادة، التافهة، المنحطة، التي جعلت منه مرشحاً للقعود الدائم في نظام عبقري، أنتج أنظمة صغرى تشبهه وتقوضه وتعيد بناءه، ركاماً فوق ركام تحته ركام.

مصر، ليست سوريا ولا العراق ولا لبنان ولا دول «الثورة الخليجية المضادة». هي، وقبلها تونس، شرعت الأبواب للحرية، بكل مخاطرها ومخاضاتها واحتمالاتها... خرجت من الانضباط الذي يفرضه الطغيان، إلى الحرية بما فيها من فوضى والتزام وتحقق... وآلام أيضاً.

من لم ير الأمل بعد، انطلق ربما من أحلام مستعجلة، يمكن تفسيرها برغبة في نجاح الثورة في تغيير النظام، تغييراً جذرياً، على طريقة الثورات السالفة، التي قادت صراعاً عنيفاً، أفضى إلى سحق النظام برمته وإقامة نظام بديل من دون استشارة شعب، قامت الثورة باسمه ولأجله.

من رأى إلى الثورة بمنظار الأحلام هذه، صاغ أضغاثها من كتابات «ثورية»، تصلح نصوصاً، ولا تصلح كتقليد يحتذى... لا ثورة تشبه ثورة أخرى. لكل ثورة خصوصياتها. قد تلتقي حول عوامل وتختلف حول أخرى، لكنها في الأعم والمجمل، «الثورة المنصوص عنها في الكتب والدراسات والكراريس الثورية»، تُسقط نظاماً بالقوة، وتقيم نظاماً بديلا بالقوة. هكذا فعلت الثورة الفرنسية. بالقوة أزالت الطغيان وبالقوة أنشأت طغيان الثورة التي أكلت صنّاعها وأبناءها. الثورة البولشفية (وقد توقع ماركس ان تحصل في الدول الصناعية) أزالت بالقوة نظاما مستبداً، وأنشأت نظاماً استفحل استبداده وطغيانه، وحل في القاموس السياسي العام، في المرتبة الأولى من القمع والاستبداد والقتل والنفي. وتغول حتى أصبحت النازية الهتلرية، شقيقته الصغرى. الثورة الصينية أطاحت بنظام مستبد وأقامت نظاماً اشد استبداداً وظلماً وما زال. الثورة الخمينية، أطاحت بنظام الشاه بالقوة الشعبية، وأقامت نظاماً إسلامياً، ولي الفقيه فيه، مرجع قابض على أم القرارات، بينما تتولى «الديموقراطية» الدينية إدارة السياسات العامة، بديموقراطية تمثيلية تكتسب شرعيتها من صناديق الاقتراع وصك البراءة الإيمانية.

ثورة مصر (وقبلها تونس)، سجلتا في التاريخ السياسي ظاهرة جديرة بالقراءة الحية. قراءتها هي على ضوء وقائعها وإحداثيات تحركها، وليس قياساً على ما جاء في «الكتب الثورية المقدسة».

ثورة مصر، صاحبة الأمل المشرقي، أطاحت برأس النظام، وخلخلت بنيانه وصدعت أركانه ولم تستبدله بعد. غير أنها، كثورة، غيّرت المجتمع، عندما حررته تحريراً كاملاً، من قبضة الاستبداد. ثورة مصر لم تنطلق لإحلال «الثوار» الزاحفين في الشوارع إلى الميادين، في السلطة. هذه ثورة شعبية بكل ما للكلمة من معان متحققة. ليست ثورة لصاحبها القائد المعظم فلان، ليست ثورة بإمرة ايديولوجيا لتيار سياسي، ليست ثورة بقيادة «ضباط أحرار»، يستولون على السلطة ويصيرون ملوكاً بدلاء عن ملك واحد. ليست ثورة حزب أو دين أو مذهب. إنها ثورة شعب وشعارها: «الشعب يريد إسقاط النظام»، والنتيجة بعد ذلك «الشعب يريد بناء النظام البديل». والشعب، ليس الثوار، ولا اليسار، ولا الإخوان، ولا السلفيين، ولا الناصريين ولا القوميين. الشعب، هو القاعدة التي تحررت من الاستبداد والاصطفاف الإلزامي في طوابير النظام وشركاته وأمنه وكلاب حراسته، وباتت بعد تحررها حرة في ان تكون، علمانية أو دينية، يسارية أو يمينية، إخوانية أو سلفية، اشتراكية أو نيوليبرالية. لقد فتحت الثورة المصرية للشعب ان يعبر بكل حرية وينتمي بحرية ويختار بحرية ويحاور بحرية ويلتزم بحرية.

قلة نظرت إلى الثورة في مصر من هذه الزاوية، حاكموها على ضوء ما أسفرت عنه من نتائج غير مرضية على مستوى السلطة، أو على مستوى القوى الجديدة في النظام القديم. إنها بداية الطريق.

مقلق جداً ان تسفر النتائج في الدورة الانتخابية الأولى لانتخاب رئيس للجمهورية، على وضع المصريين أمام «الفلول» و«الإخوان». مقلق ان يفوز مرشح «الفلول»، مخيف لكثيرين ان يفوز مرشح «الإخوان». وهذا ان دل على شيء، فعلى كون الصراع لا يزال مفتوحاً، وبحرية، لا قمع يتناولها، لأن الحرية مصونة بقوة الميادين، وليس بفقه النصوص. الحرية في مصر مصونة بالقوى التي تستمد شرعيتها من قوة حضورها في الميدان. وما الميدان، إلا برلمان الناس. برلمان الشعب المباشر. برلمان الكلام والمواقف والسياسات التي تضج بالتغيير.

يندب الثوريون» ما آلت إليه الانتخابات، مآلات الصناديق هذه المرة، أنتجت قوتين مصريتين متنافستين. فلول النظام القديم، وقوى «الإخوان» والسلفيين... إنما، هل هذا هو المشهد برمته؟ ألا يلزم ان ينظر إلى المجتمع الذي عندما تحرّرت قواه، على الرغم من ممانعات المجلس العسكري، قد أنتج حمدين صباحي ورفاقه؟ ألا يجب ان نقرأ، ان حركة المجتمع في مصر تغلي بالتغيير، إنما بواسطة الانتخابات، وليس بواسطة القرارات.

الميدان، برلمان الشعب، فرض إرادته مراراً على المجلس العسكري، الذي احتال مراراً كي يقنن التغيير المطلوب بالحد الأدنى من الشكليات. الميدان، برلمان الجماهير المتعددة في انتماءاتها والمختلفة في توجهاتها، فرض على الأزهر ان يكون إلى جانبه، وهو تاريخياً، كان ملحقا بالسلطة وأداة قمع فكري وسياسي للمصريين.

ويعيب الثوريون على المصريين انهم أطاحوا برأس النظام فقط، ولم يطيحوا بالنظام. ويتساهلون في تقييم الإطاحة برأس النظام، ولا يقيمون وزنا لنتائج هذه الإطاحة. هذا النظام الشرس بات مكشوفا ومختلا، يحاول المجلس العسكري ان يرث منه مكانة له، لا أكثر. لا يجرؤ المجلس العسكري على ان يحكم، وحتى في حال فوز مرشحه من الفلول، فلن يجرؤ ولن يتمكن من ان يحكم وفق قواعد الاستبداد.

أي رئيس قادم، أي حزب سيحكم، أي فريق سيتولى الأمر، ملزم بأن ينال ثقة الشعب في الميدان. أي، ملزم بأن ينال ثقة شرائح اجتماعية انتزعت لنفسها، بسبب الثورة، حق الكلام والتعبير والشرح والفعل والتظاهر، لبناء نظام يريده الشعب، لا بعض الشعب، من «إخوان» أو «فلول».

مصر هذه مطالبة فقط بالحفاظ على الحرية. هذه كفالة لبناء نظام جديد يستجيب لطموحات الشعب المصري، الحرية للجميع، للإخوان والسلفيين والعلمانيين واليساريين والفساد و...

لا يطلب من الثورة إلا السهر على الحرية، المنجز الأعظم في ثورة 25 يناير. بالحرية تسقط محاولات تغييرها. بالحرية تسقط محاولات الإقصاء والاستئثار. بالحرية تسقط محاولات سرقة الدستور. كل صياغة تحد من الحرية للجميع، هي مسؤولية الثورة.

كل نص يميز بين المصريين يجب ان يرفض وعلى الثورة ان تسقطه. كل سياسة تحتكر أو تظلم أو تستبعد، على الثورة ان تسقطها.

مرجعية الثورة الحرية.

مكان إقامتها: الميادين.

أما السلطة، فلا خوف منها، فلا هي قادرة على التغوّل، ولا هي ممسكة بأنفاس الناس... حرية الناس، وآراء الناس، واتجاهات الناس، اقوى من النتائج التي أفرزتها العملية الانتخابية.

ليس باستطاعة الفلول ان حكمت ان تكون مقلدة حسني مبارك. انها اجبن من ذلك. وليس باستطاعة «الإخوان» برغم مناوراتهم وانتهازياتهم وألاعيبهم ان يحكموا مصر، بواسطة «المرشد» من جهة و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» من جهة أخرى.

التياران ملزمان باحترام قوى المجتمع التي عبرت عن نفسها، فجاءت محصلة مجموع أصواتها، تقارب النصف أو أكثر قليلاً. لن يجرؤ أحد على سرقة الثورة في نهاية المطاف. حاول المجلس العسكري، ولم ينجح. حاول «الإخوان» ولن ينجحوا.

مصر التي أنجبت ثورة 25 يناير، على موعد مع الديموقراطية، ولو كان الطريق إليها محفوفاً بالمشقة والخذلان أحياناً. هي على موعد مع صياغة خريطة طريق للحرية، تضع مصر في مصاف القيادة الواعية للأمة.

بعد ذلك... ستصبح «كامب ديفيد» منسية، و«إسرائيل»، ستتولى إضافة مصر إلى معسكر أعدائها.

الأمة بخير... إذا كانت مصر بخير، لولا المأساة السورية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 8 / 2166003

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2166003 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010