السبت 2 حزيران (يونيو) 2012

مصر بين الناخب والنخب

السبت 2 حزيران (يونيو) 2012 par علي جرادات

حصرت نتائج الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة المصرية التنافس في الجولة الثانية بين مرشح «الإخوان»، محمد مرسي، والمرشح المحسوب على النظام السابق، أحمد شفيق، وصار بذلك على الناخب أن يمنح صوته لأحدهما، أو أن يمتنع عن التصويت، وتلك معادلة صعبة بالنسبة إلى أكثر من نصف الناخبين الذين لم يصوتوا في الجولة الأولى لأي من هذين المرشحين، فضلاً عن أنها الأصعب بالنسبة إلى القوى السياسية التي ترى في نفسها قطباً أو بديلاً ثالثاً. هنا يستطيع «الإخوان» الإصرار على أن استنفار بقايا النظام السابق لعوامل قوته هو سبب هذه النتيجة الانتخابية، وبالتالي فإن على الناخبين ومعهم بقية القوى السياسية الاختيار بين «مَن هو مع الثورة أو مَن هو ضدها»، وبالمثل يستطيع الفريق أحمد شفيق الإصرار على أن مسعى «الإخوان» للسيطرة على الدولة هو سبب هذه النتيجة، وبالتالي فإن عليهم، (الناخبين)، الاختيار بين «من هو مع الدولة المدنية أو من هو مع الدولة الدينية». يرمي الإصرار على تقسيم الناخبين المصريين بهذه الصورة التجريدية في المعادلتين السابقتين إلى إخفاء حقيقة تنافس صاحبيهما على عباءة انتفاضة شعبية ذات مطالب، بل حقوق، محددة، استعملها الأول، (الإخوان)، في محطات أساسية على الأقل، ووقف ضدها الثاني، (الفريق شفيق)، في البداية على الأقل، لكن، وبما أن أكثرية القوى السياسية أقرب إلى الاصطفاف ضد الفريق شفيق، فإن ثمة حاجة إلى إثارة سؤال: أليس السلوك الاستعلائي لـ «الإخوان» في التعامل مع الانتفاضة الشعبية، (عدا تشرذم بقية القوى السياسية)، هو السبب الأساس في بلوغ هذه النتيجة؟

هنا، ولأن الشعب المصري هو أول المعنيين في الإجابة عن هذا السؤال، يصبح من الضرورة بمكان الإنصات إلى صوته كما أدلى به في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة، إذ ثمة معانٍ كثيرة وكبيرة تنطوي عليها نتائج هذه المحطة الانتخابية التي جاءت معاكسة للتوقعات، ومغايرة بقدْرٍ عالٍ لنتائج محطة الانتخابات التشريعية، على الرغم من قِصَرِ المدة الزمنية، (شهور)، الفاصلة بين هاتين المحطتين، وذلك من حيث:

1: تراجُع نسبة الاقتراع، بما يكشف عن عزوف شعبي واسع عن التصويت، لجأ إليه نصف ويزيد ممن يحق لهم الاقتراع، تعبيراً عن احتجاج ضد النخب السياسية بألوانها، احتجاج يروق لكل نخبة تبرئة النفس منه بإلقائه على غيرها من النخب، لكن هذا لا يغير من الحقيقة في شيء.

2: تراجُع نسبة ما حصل عليه مرشحُ جماعة «الإخوان» الذي حصل على نصف ما حصدته الجماعة في الانتخابات التشريعية، بما ينطوي عليه ذلك من محاسبة شعبية واسعة لهذه الجماعة التي بمقدور قيادتها تفسير ما وقع لها بما تعرضت له من «حملة إعلامية مبرمجة وظالمة»، وليس بما ارتكبته هي من أخطاء وخطايا باتت على كل لسان، بل واعترف، ببعضها مرشحها للرئاسة، إنما بصورة ضبابية توحي بمواصلة تكتيكات المناورة.

3: النسبة المفاجئة التي حصل عليها المرشح المحسوب على النظام السابق، الفريق أحمد شفيق، بما يفصح عن أن حركة تناقضات الحالة السياسية والمجتمعية المصرية برغم ما سال في نهرها من مياه انتفاضة شعبية، لم ترسُ على وجهة بعينها بعد، وأن نتائجها النهائية أعقد من أن تُحسم بصورة سريعة ومستقرة كما ظن المستعجلون، وأولهم «الإخوان» الذين يروق لهم نفيَ وجود أية علاقة بين ما ارتكبوا من أخطاء وخطايا وبين حصول الفريق شفيق على المرتبة الثانية بعدهم، وبفارق، (200000)، صوت فقط، وكأن الشعب المصري لم ينتفض لخلع عقلية الاستحواذ والتفرد والإقصاء، (ثقافة وسياسة)، بمعزل عن اسم صاحبها، أو كأن هذا الشعب يقبل استعمال انتفاضته لإجراء تغييرات دراماتيكية تمس المبادئ العامة الحاكمة لدستور دولته بوصفها دولة لمواطنين أحرار متساوين بصرف النظر عن دينهم وجنسهم ومعتقدهم الفكري والسياسي و ...إلخ.

4: النسبة المفاجئة والمبهرة بكل المعاني والمقاييس التي حصل عليها المرشح المستقل القومي الناصري اليساري المتجدد، حمدين صباحي، برغم افتقاده عملياً لـ «سلاح» المال ولـ «ماكنات» التنظيم والإعلام والدعم الخارجي متعدد الألوان والمصادر، بكل ما يعكسه ذلك من ميْلٍ شعبي واسع وعميق يتوق بأصالةٍ وتلقائية إلى تمخضِ الانتفاضة الشعبية عن بناء طور جديد من الديمقراطية السياسية والمجتمعية يكون الصدق والتواضع واقتران القول بالفعل ووضوح البرنامج وأصالة الانتماء الوطني والقومي فيصلاً بين المتبارين على قيادتها.

5: تدني النسبة التي حصل عليها كلا المرشحيْن المستقليْن، عبد المنعم أبو الفتوح وعمرو موسى، خلافاً لتوقعات العديد من المحللين والمستطلعين للرأي، ما يشير إلى أن المزاج الشعبي المصري يميل إلى التوافق، إنما على أساس برنامج ملموس وواضح تجاه قضايا الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والكرامة والحرية للمواطن، بوصفها حقوقاً أدى انتهاكها والمس بها إلى اندلاع الانتفاضة الشعبية، وأبدع المرشح حمدين صباحي أكثر من غيره في تحسسها وطرْحها كمطالب ملموسة واضحة في برنامجه ودعايته الانتخابية.

يحيل ما تقدم إلى أنه مثلما أن للتاريخ عبقرية الدهاء والمكر والمفاجآت، فإن لمن يصنعه، (الشعوب)، العبقرية ذاتها، وهذا، (برأيي)، هو أحد أهم دروس نتائج الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة المصرية، كأول انتخابات تعددية، (وبقدْرٍ معقول)، حرة ونزيهة، لهذا المنصب، حيث تراجعت بنسبة معقولة ظاهرة إعطاء الناخب لصوته بناء على الاسم كما حصل في الانتخابات التشريعية قبل شهور، وزادت بنسبة معقولة أيضاً، وخاصة في المدن، ظاهرة إعطاء الناخب لصوته بناء على ما يطرحه كل مرشح في برنامجه من المطالب الملموسة للانتفاضة الشعبية، ولعل في هذه النقلة النوعية في كيفية تقييم الناخب المصري لنخبه السياسية ما يبعث على الاطمئنان، ويبرهن على أن المستقبل، وبمعزل عمن سيفوز في الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة الحالية، سيكون إلى جانب مَن يستوعب دروس نتائج جولتها الأولى التي أثبتت أن الشعب المصري خلال عام ونصف العام من انتفاضته قد تعلم الكثير، وأصبح قادراً على التمييز أكثر.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 8 / 2165427

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165427 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010