الاثنين 9 تموز (يوليو) 2012

كشف القتلة

الاثنين 9 تموز (يوليو) 2012 par د. عبد الحليم قنديل

التحقيق الاستقصائي الممتاز الذي أجرته وأذاعته قناة «الجزيرة» كشف ما كان معلوماً للقاصي والداني، وإن كان بصورة مبهمة ومنهجية، وقدم الدليل الحي على دور «إسرائيل» في اغتيال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

جاء الدليل علمياً ناطقاً، فقد أثبتت معامل طبية عالمية وجود نسبة عالية جداً من البلونيوم القاتل في متعلقات عرفات، وهي المتعلقات التي ضمتها حقيبته الشخصية، وشملت غطاء رأسه ونظارته الشهيرة وملابسه الداخلية، وبقع دم متناثرة على بعض متعلقات التصقت بجلده، وفحصها جميعاً أتى بالنتائج نفسها، ومغزى النتائج ظاهر، فالبلونيوم القاتل لا تملكه سوى أطراف لديها برامج نووية متقدمة، والإشارة ظاهرة إلى «إسرائيل» التي حاصرت عرفات داخل مبنى «المقاطعة» في شهوره الطويلة الأخيرة، ووسط تهديدات شارون العلنية بقتل عرفات، وإلى أن انتهت القصة بالمشهد الحزين، وخرج عرفات من محبسه في المقاطعة محمولاً إلى طائرة ذهبت به إلى مستشفى باريسي، وحيث قضى أيامه وأنفاسه الأخيرة إلى ساعة إعلان وفاته، وثارت الشكوك من أول يوم، وقيل أن سلطة رام الله شكلت لجاناً للتحقيق، ودون أن تؤدي إلى نتيجة، وإلى أن أجرت قناة «الجزيرة» تحقيقها الاستقصائي الفريد، وأحلت الأدلة محل الشكوك، وبدت التفاصيل المحجوبة مفهومة، فقد تسربت المادة القاتلة إلى جسد عرفات عبر طعام أو دواء أو حقن أو هواء استنشاق، ومن خلال الدائرة الضيقة المحيطة به، وهو ما يفتح الباب لاكتشافات جنائية مذهلة تشي بها التطورات السياسية اللاحقة لذهاب عرفات إلى قبره.

سلطة رام الله بدت متحمسة للتعقيب على تحقيق «الجزيرة»، وطالب صائب عريقات بتشكيل لجنة تحقيق دولية من خلال مجلس الأمن الدولي، وعلى غرار لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق، وقد تبدو الدعوة في محلها، وإن كان عريقات سكت على ما هو أهم، فالمطلوب ـ أولاً ـ إتاحة عينات من رفات عرفات للفحص العلمي، خاصة أن المستشفى الفرنسي الذي مات فيه عرفات امتنع عن التعاون، وأعدم كل ما لديه من عينات مأخوذة من دم وبول الرئيس الفلسطيني المغدور، وبهدف قطع الطريق على أي تحقيق لاحق، فيما صمت كل أطباء عرفات الذين عبروا عن شكوكهم من قبل، وبينهم أطباء عرب من مصر وتونس والأردن، ورفض غالبهم الإدلاء بأقوالهم في تحقيق «الجزيرة» الاستقصائي، وتهربوا بدواعي غير مقنعة، وإن أشار بعضهم إلى الحقيقة التي تخرس أفواههم، وهي أنهم ممتنعون عن الكلام بأوامر جهات المخابرات في بلادهم، والتي أودعوا أسرارهم عندها، وقد كان مثيراً أن تحقيق «الجزيرة» استضاف خالد مشعل زعيم حركة «حماس»، والذي تعرض لمحاولة اغتيال دبرها ونفذها رجال «الموساد» (الإسرائيلي)، وجرى حقنه بمادة قاتلة، لولا أن ظروف المحاولة التي جرت في عمّان كانت مختلفة، ونجح حرس مشعل في تسليم المنفذين للسلطات الأردنية، وصمم الملك حسين وقتها على استحضار ترياق «إسرائيلي» لعلاج مشعل، وظل الأخير بيننا، معرباً عن اعتقاده الجازم بأن عرفات قد مات مسموماً، وبطريقة مقاربة لما تعرض له هو، وقد أعربت سلطة رام الله عن استعدادها لإتاحة عينات من رفات عرفات للفحص، رغم أن مرور السنوات الطويلة على وفاة الرجل يؤثر سلباً على نتائج الفحص، فنسبة البلونيوم تقل بمرور الزمن، والأهم أن يجري تحقيق جنائي داخلي جاد وليس صورياً، وتشرف عليه لجنة فلسطينية مستقلة من شخصيات لا يرقى إليها شك، وأن يجري التحقيق مع كل الذين أحاطوا بالرئيس عرفات في شهوره وسنواته الأخيرة، وألا يجري استثناء أحد حتى لو كان الرئيس عبّاس نفسه، وأن يشمل التحقيق كافة زواره وحراسه ومعاونيه، فمن المرجح أن سم البلونيوم الذي قتل عرفات بالتدريج، من المرجح أن السم «الإسرائيلي» لم يصل إلى جسد عرفات عبر «إسرائيليين»، بل انتقل غالباً عبر فلسطينيين عملوا لمصلحة «الموساد» (الإسرائيلي)، والملفت أن سلطة رام الله ـ التي ورثت عرفات ـ لم تحقق مع أحد من المحيطين، ولم تشتبه في أحد، وما من تفسير معقول سوى واحد من اثنين، فإما أن تكون سلطة رام الله عاجزة، وأمارات العجز ظاهرة، وإما أن تكون السلطة ذاتها مخترقة «إسرائيلياً» حتى النخاع، وربما يكون قد تم اكتشاف الاختراق، وتجنب الاقتراب من الموضوع حجباً لفضائح ومنعاً لزلازل سياسية، وهو احتمال قائم يعضده صمت وتستر أجهزة مخابرات عربية على اتصال وثيق بالموضوع الفلسطيني ومجرياته وتفاصيله وأسراره وشخوصه.

نعم، كان عرفات شخصية حذرة جداً، لكن الشر ـ على ما يبدو ـ أتاه من مكمنه، وربما كانت طريقته في السياسة هي السبب بالمفارقة، فقد كان عرفات ملكاً للمناورة، يعامل أنبل الناس وأكثرهم خسة بالوقت نفسه، عاش حياته مناوراً، يلعب بالبيضة والحجر، وأفلت من الموت مراراً، وبدا كالقط بسبعة أرواح، لكن شهور حصاره في مبنى «المقاطعة» جعلت المناور أسيراً لأقداره، صحيح أنه تحدث لأكثر من مرة، ومن داخل حصاره الأليم، وقال مرة ـ في مداخلة هاتفية فضائية ـ أنه ينتظر الموت «شهيداً»، وكرر كلمة «شهيداً» لثلاث مرات، لكن المتابعين لسيرة عرفات لم يأخذوا احتمال استشهاده على سبيل الجد، وكان الظن أنه يناور باستنفار الشارع الفلسطيني والعربي، وفي سعى لفك حصاره، ولم تكن استجابات الشارع وقتها على ما يهوى عرفات، ولا بالطريقة التي تعود عليها، فاجتمعت عليه حسرة النفس إلى أثر السم «الإسرائيلي» الهاري، ومات الرجل على نحو غامض ملغز، تدهورت صحته فجأة، ولم يسمح له بالخروج من الحصار إلا إلى موته في المستشفى الباريسي، وكانت فسحته الأخيرة في رحلة الذهاب من الحصار إلى الموت.

وبرغم جرأة وامتياز تحقيق «الجزيرة» الاستقصائي، إلا أن التخوف لا يزال قائماً، ولسبب بسيط جداً، فالذين يفترض بهم أن يكملوا التحقيق لآخره، قد يكونون هم أنفسهم الذين قتلوه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2165884

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع مواجهة   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165884 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010